
أسامة سلامة
الرئيس ويوسف إدريس!
على ضفاف ثلاثة كتب، وعدة مقالات، لنا أن نتلمس طبيعة العلاقة بين الرئيس الراحل «محمد أنور السادات»، والأديب الكبير «د. يوسف إدريس».. إذ بدأت العلاقة فى وفاق قبل أن تتحول إلى شقاق.
من كتابه «آلاعيب الذاكرة» يقول الكاتب الكبير الراحل «سليمان فياض»:
بعد شهور من أحداث 15 مايو واستقرار الأوضاع للسادات، اتصل بى جارى «صبرى حافظ» وقال: إن يوسف إدريس يريد منا أن نذهب لنجلس معه.. وكان يوسف لا يزال فى بيته القديم بالعجوزة.. وكنّا نملك له من الود والمعزة ما يجعلنا نفرح بلقائه.
دخلنا عليه وهو جالس وحيدًا فى مكتبه، خضنا فى أخبار النميمة، وانحدر بنا يوسف إلى حديث عن السادات وعلاقته به.
.. وذكر لنا يوسف أنه هو الذى أعدّ للسادات كتاب: «معنى الاتحاد القومى»، وإذا صح ذلك عندى (والقول لسليمان فياض) من مصدر آخر، فهو الذى أعدّ له أيضا كتاب: «يا ولدى هذا عمك جمال».
ويتابع «فياض» فى كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة: أحزننى فقط حزنه (أى إدريس) لأن السادات نسيه بعد أن صار رئيسًا ولا أعرف أين ذهب ذلك الدور الذى كان يوسف يعيش فيه بعمارة بالزمالك كما قال لنا، ولا السيارة وسائقها الخصوصى، ولا العوامة التى منحت ليوسف فى قلب النيل.. ولعلها جميعا سحبت من يوسف، بعد أن ترك السادات المؤتمر الإسلامى، وصار أكثر قربا من عبدالناصر.
>>>
يؤكد - أيضا - الكاتب والناقد «شعبان يوسف» فى كتابه:
«ضحايا يوسف إدريس وعصره» إن إدريس أعد للسادات كتابين، هما: معنى الاتحاد القومى» وكتابا آخر عن قناة السويس باللغة الإنجليزية.
الكاتب والأديب سعد القرش رئيس تحرير مجلة الهلال الأسبق يعطينا معلومات أكثر عما كتبه إدريس للسادات وعن علاقته به، إذ يقول فى مقال نشره بجريدة العرب فى السابع من أغسطس 2016 «إن السادات أعجب به ككاتب إلى درجة أنه عهد إليه بكتابة عموده اليومى الذى يشكل افتتاحية جريدة الجمهورية».
ويستشهد بما قاله إدريس نفسه: «ظللت أعمل مع السادات حتى نقلنى تماما من وزارة الصحة إلى المؤتمر الإسلامى؛ لأتفرغ لكتابة ثلاثة كتب، واعتبرتها مهمة وطنية عليا إذ كان أحدها عن حرب السويس الوطنية والعدوان الثلاثى وقع فى خمسمائة صفحة ونشر فى دار نشر هندية وتم توزيعه بالإنجليزية فى العالم أجمع».
تفاصيل مماثلة رواها إدريس للكاتب البارع والمؤرخ الصحفى رشاد كامل رئيس تحرير مجلة صباح الخير الأسبق والتى نشرها فى كتابه «الصحافة والثورة ذكريات ومذكرات» يقول: أنا تعرفت على السادات وقابلته فى الجمهورية وانبسط منى ككاتب، وعهد إليّ أن أعد له كتابا عن العدوان الثلاثى الذى وقع عام 1956، وإحدى دور النشر الإنجليزية قد طلبته منه، وعملت هذا الكتاب وكان اسمه القصة الداخلية لحرب السويس، وكتبت له كتابا آخر اسمه «معنى الاتحاد القومى» عن فكرة الثورة كتنظيم، أو محاولة العثور على شكل آخر غير الشكل الحزبى القديم.
الروايات السابقة تختلف فى بعض التفاصيل، مثل: هل طلبت إحدى دور النشر الإنجليزية الكتاب الأخير من السادات أم أنه كان بتكليف من عبدالناصر ولذلك تمت ترجمته ثم توزيعه بواسطة الهند، ولا أدرى أى المعلومتين أدق، ولكن الروايات كلها اتفقت على كتابين كتبهما إدريس للسادات وهما: «معنى الاتحاد القومى» و«القصة الداخلية لحرب السويس».
ويتبقى الكتاب الثالث الذى لم يذكر أحد اسمه حتى الكاتب نفسه.. فهل كان «يا ولدى هذا عمك جمال»، كما يعتقد فياض، خاصة أن السادات كتبه أو نشره بعد حرب 56.. وهى نفس الفترة التى صدر فيها الكتابان الآخران؟
عموما فإن الثابت أن الكاتب الكبير وتشيكوف العرب كتب مقالات وكتبًا للسادات، ولكنهما اختلفا بعد ذلك.. ويروى إدريس بداية هذا الخلاف فى كتاب «الصحافة والثورة» لرشاد كامل عندما أجرى حوارا صحفيا مع أنور السادات نشر فى جريدة الجمهورية، تركز محاوره حول فكرة الاتحاد القومى، وخلال المقابلة سأله، هل يسمح بدخول الاتحاد، لمن زاولوا نشاطا سياسيا من قبل أم لا؟!، وغضب جمال عبدالناصر، بسبب إجابة السادات والتى قال فيها:
كل إنسان لم يزاول السياسة قبل الثورة وسوف ينضم للاتحاد القومى فهو رجل انتهازى، وكونه يبتعد عن العمل السياسى حتى تصبح السياسة مربحة فينضم للاتحاد القومى فهذه انتهازية.
واتصل عبدالناصر بهيكل، وسأله هل قرأت حوار يوسف إدريس مع السادات؟ فأجابه نعم، رد ناصر: «دا مش رأى السادات دا رأى الشيوعيين فى الاتحاد القومى».
المثير أنه قبل اتصال جمال عبدالناصر بهيكل، كان قد صدر قرار بتعيين إدريس فى جريدة الأهرام التى يترأس تحريرها هيكل، الذى أعجب بحواره مع السادات، وعهد إليه بمهمة إجراء حوارات صحفية مع شخصيات سياسية مرموقة، وكان قد شرع بالفعل فى الترتيب لحواره الثانى، مع أكرم الحورانى السياسى السورى، ولكن قرار فصل يوسف كان أسرع، والذى علم به عندما ذهب إلى مكتب هيكل، كى يتفق معه على نقاط الحوار، ولكن نوال المحلاوى مدير المكتب رفضت دخوله قائلة: الأستاذ مش فاضى ومش هيدخل ومش هيقابلك، ورغم أنه لم تكن مضت سوى أيام قليلة على تعيينه فإنه قرر الاستقالة حفاظا على كرامته، ولكن المحلاوى قالت له: «استقالة إيه؟ أنت مرفود وليك عندنا مرتب شهر موجود فى الخزينة يمكنك أن تقبضه الآن».
>>>
خرج «إدريس» من مبنى الأهرام يحمل علامات استفهام وذهب إلى مبنى المؤتمر الإسلامى، وهناك وجد كشفا معلقا على الباب يتضمن فصل خمسة أسماء، وكان هو على رأس القائمة، وعندما حكى الأمر للسادات قال الأخير: أيوة أنت مفصول، أنا رفدتك من المؤتمر الإسلامى، ويرد يوسف: بس أنا معار من وزارة الصحة وممكن تلغى إعارتى فقط، فيقهقه السادات: وكمان مرفود من وزارة الصحة، وعلى هذا النحو تم إبعاده، وظل بلا عمل سبعة أشهر كاملة، حتى تم تعيينه فى وزارة الثقافة، ثم فى جريدة الجمهورية.
المثير أن يوسف إدريس عاد للأهرام عام 1969 وكاد يفصل بعدها بعدة أيام عندما نشر قصة اسمها «الخدعة» لم يرض عنها أعضاء اللجنة التنفيذية فى الاتحاد الاشتراكى، إلا أن هيكل حماه.
ولكن بعد سنوات فقد وظيفته فى الأهرام عندما تفجرت أزمة عام 1971 حين أصدر 101 كاتب بيانا عرف باسم «بيان توفيق الحكيم» أيدوا فيه مظاهرات الطلاب المطالبة بالحرب، وإنهاء ما أسماه السادات عام الضباب، غضب السادات وأصدر قرارا بفصل كل الموقعين من الاتحاد الاشتراكى وبينهم يوسف إدريس، وهو ما كان يعنى أنهم لن يستطيعوا العمل بالصحافة.. وهذه الأزمة انتهت سريعا.
ولكن الأزمة الكبرى التى تعرض لها إدريس بسبب السادات كانت بعد موت الأخير، حين كتب مجموعة مقالات فى جريدة القبس الكويتية عام 1983 تحت عنوان: «البحث عن السادات» هاجم فيها الرئيس الراحل.
وعقب نشر المقالات بدأت حملة عنيفة فى الصحف وصلت إلى حد قيام الرئيس الأسبق مبارك فى أحد خطاباته بالإشارة إلى يوسف إدريس بوصف «الزبون» وقال: إنه كتب كتابا فى مقابل خمسة آلاف دولار قبضها من الرئيس الليبى معمر القذافى.
وحكى إدريس فى مقدمة الكتاب حين نشر «فى دار نشر ليبية» أنه بالفعل قابل القذافى وأنه حين عاد إلى القاهرة كتب تقريرا عن الزيارة سلمه إلى سكرتارية الرئيس بعد أن عرف أنه يصعب مقابلته.
واستمرت الحملة تتهم إدريس بنبش قبور الموتى.. وأنه نافق السادات حيا وهاجمه ميتا وأن السادات عالجه على نفقة الدولة.
مات السادات ومات إدريس ولكن يبقى السؤال عن علاقة الأديب بالسلطة، إذ إن يوسف إدريس حالة خاصة فى الحياة الثقافية المصرية ولا يمكن تقييمه بقواعد تقليدية، وقد يختلف على آرائه السياسية ولكن الجميع يتفق على موهبته الأدبية وريادته فى القصة القصيرة.
لست أدين إدريس فى شىء، فلم يضر أحدا عندما اقترب من السادات، وربما كان يريد أن يتفرغ للكتابة والأدب ولم يجد سوى هذه الفرصة، كما لا أدينه فى هجومه على السادات فمن حقه أيضا تغيير قناعاته وأفكاره.. رحم الله الاثنين بعد أن أصبحا فى ذمته.>