
أحمد إمبابى
استقلال القرار الوطنى
كيف تحررت الدولة من المساومات؟
حينما تشتعل ألهبة الصراع فى المنطقة؛ فإن مصر هى الإنقاذ، وحينما يُفرَض الحصار برًا وبحرًا وجوًا عقابًا لشعوب عربية أو إفريقية؛ فإن مصر المنقذ، وسبيل الاختراق، وحينما تصل الأمور إلى مرحلة الاشتباك والأزمة؛ فإن مصر هى القرار.. هكذا تقف مصر فى بيئة شديدة الصعوبة، بقرار وطنى يحظى باستقلالية وتحرُّر؛ لتحافظ على أمنها ومصالحها أولًا، ولترسخ حضورها ومكانتها كدولة مركزية فى الشرق الأوسط؛ بعيدًا عن أى مزايدة أو مساومة.
لأجل ذلك؛ تأتى أهمية وقيمة استقلال القرار الوطنى، فوسط هذه البيئة الصعبة، التى تموج بتحركات تستهدف سلب كثير من الدول سيادتها وقدراتها، وتهديدات وتدخلات عسكرية فى دول مجاورة، وضغوط سياسية واقتصادية بالساحة الإقليمية والدولية؛ تقف مصر صامدة، محافظة على حرية قرارها، وفْق مصلحتها والخيوط التى تحافظ على أمنها القومى.
ويمكن النظر إلى قضية استقلال القرار الوطنى، باعتبارها محور تحديات ومعارك وتحولات التاريخ المصرى الحديث، وتلخص فى الوقت نفسه؛ ما تواجهه الدولة المصرية من صعاب واستهداف خلال السنوات المعاصرة، فى سبيل الحفاظ على سيادتها وحرية قرارها، فى محيط تنهار فيه دول وكيانات؛ بسبب الأيادى الخارجية من كل اتجاه.
والاستقلال بالقرار الوطنى، واحد من أهم المكاسب الممتدة بين ثورتىّ 23 يوليو عام 1952، و30 يونيو عام 2013، فجاءت الثورتان؛ لتحقيق التحرُّر من أى تبعية خارجية، والسعى لامتلاك القدرة فى مختلف المستويات، بما يضمن تحصين القرار الوطنى من أى ضغوط أو مساومات، فمن بين الملامح المشتركة للثورتين، مواجهة حزمة من التحديات والتدخلات الأجنبية، ففى حالة ثورة يوليو، جاءت للخلاص من الاستعمار، ورسّخت لقيم الاستقلال والكرامة، فيما أنقذت ثورة يونيو، الدولة المصرية، من يد تنظيم الإخوان، الذى سعى لاختطاف الوطن وطمس هويته، وتصدت لكل الإملاءات الخارجية؛ بإنهاء احتكار هذا التنظيم للمَشهد العام.
والواقع أن درس استقلال القرار الوطنى، جسّدته مواقف الدولة المصرية وسياستها بَعد الثورتين، وما يعنينا هنا، مظاهر الاستقلال فى القرار الوطنى خلال السنوات العشر الماضية، وكيف حمَت الدولة المصرية قرارَها الوطنى، وسط ما تموج به المنطقة من فوضى؟، وكيف توازن بين مصالحها وأمنها، وبين دورها ومسئوليتها فى الإقليم؛ كداعمة ووسيط للتهدئة وللسلام والاستقرار؟.. ومحاولة صياغة إجابات لهذه التساؤلات؛ يقتضى النظر لمسألة القرار الوطنى المستقل من واقع ثلاث نقاط، تتعلق بمدى تحقيق دولة 30 يونيو للمفهوم، ومقوماته، وشواهده.
السيادة فى القرار الوطنى
يجب أن تبدأ النظرة لاستقلال القرار الوطنى، من المفهوم والتعريف، فالمعنى من استقلال القرار الوطنى، الحالة التى تمتلك فيها الدولة سيادة كاملة على أراضيها وشئونها الداخلية والخارجية، دون أى تدَخُّل أو تبعية لدولة أخرى أو جهة من الخارج، ويمتد ذلك ليشمل الحق فى وضع القوانين، واتخاذ القرارات السياسية وإدارة العلاقات الدولية والإقليمية بحُرّية.
والحديث عن مواضع ومظاهر الاستقلال فى القرار الوطنى، عديدة، فى مقدمتها الحرية فى اتخاذ القرارات داخلية وخارجية دون ضغوط خارجية، ورسْم المواقف والسياسيات تجاه ما يحدث إقليميًا ودوليًا وفقًا للمصلحة الوطنية، وليس اعتبارًا لمصلحة أحد، إلى جانب السيطرة الكاملة على الأرض والموارد، وحُسْن استثمارها، وأى سلوك مناقض، ينطوى على هشاشة الدولة ومؤسَّساتها الوطنية، أو وجود قوات أجنبية، أو مظهر من مظاهر النفوذ الأجنبى؛ بلا شك ينتقص من السيادة.
والغاية من هذا التأطير، رسْم خيوط الأمن القومى وأبعاده، والتعرف على حقائق القوة والقدرة، وفلسفة الحركة الدبلوماسية وأولوياتها، فهذه أبعاد تعكس مدى استقلال القرار الوطنى وتحرُّره.
الجيش كلمة السر
وبالنظر لواقع ما حدث فى مصر خلال السنوات الأخيرة، لم يعد خافيًا ما تعرضت له البلاد، فى يناير 2011، وما بَعدها حتى ثورة 30 يونيو 2013، من حملات للتدخل الأجنبى، ومحاولات سلب القرار الوطنى استقلاله، فى ظل تعدُّد أجندات التدخل الأجنبى، التى صاحبت تولى الإخوان للسلطة عام 2012، وانتشار الميليشيات المسلحة فى الغرب والشرق بسيناء، وترتيبات تجنيس الفلسطينيين لتصفية القضية وتأسيس دويلة فلسطينية فى سيناء، وهدم كل ملامح المؤسَّسات الوطنية للدولة، وتفكيك علاقات مصر الاستراتيجية عربيًا وإفريقيًا ودوليًا؛ ليكون الهدف النهائى؛ التمهيد لدولة هشة غير مستقرة وآمنة.
وسط كل هذه الخيوط التى أرادت رسْم ملامح الفوضى الداخلية، تصدت لها القوات المسلحة المصرية، بقرارها الوطنى التاريخى، التى انحازت فيه لإرادة المصريين فى ثورة الثلاثين من يونيو، فى تجسيد واضح وصريح، لمعنى الاستقلال فى القرار الوطنى، النابع من قوة وتماسُك تلك المؤسَّسة، والصامد فى وجه كل الإملاءات الخارجية لاسيما الغربية.
المظهر الآخر من مظاهر الاستقلال، كان فى رفع المؤسَّسة العسكرية لقدراتها وكفاءتها، لاسيما لمواجهة كل الاستهدافات فى الداخل والخارج، وهنا لم تكن أسيرة محور واحد فى تسليحها؛ بل وسَّعت من شراكاتها شرقًا وغربًا، ما عزّز من استقلالية القرار المصرى، ومنح الجيش المصرى قوة لا يُستهان بها فى الشرق الأوسط، وقدرة على حماية الأمن القومى ومصالح مصر الاستراتيچية.
التوازن الاستراتيجى
موضع النظر الثانى، يتعلق بمقومات وأدوات استقلال القرار الوطنى، فأى استقلال للإرادة يتطلب استقلالًا فى السياسة الخارجية، وحرية حركة دبلوماسية، ومن هنا، جاءت سياسة التوازن الاستراتيجى فى علاقات مصر الخارجية خلال السنوات الأخيرة؛ لتَتّسِع شراكات مصر مع مختلف القوَى والأطراف الدولية.
ومن خلال سياسة التوازن الاستراتيجى، أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي، صياغة مسارات ومساحات تحرُّك السياسة الخارجية، وحضورها الإقليمى والدولى، ويبدو ذلك فى الشواهد التالية:
• حافظت القاهرة على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسَعت لتوسيع الشراكة لتشمل مجالات تعاون اقتصادية وتجارية وتعليمية، وسَعت فى الوقت نفسه؛ لصياغة مفهوم المساعدات العسكرية الأمريكية، باعتبارها تعاونًا ثنائيًا وليست منحة، يمكن أن تقترن بحزمة شروط أو إملاءات، أو أن تكون العلاقات رهينة هذه المساعدات.
• اتجهت الدولة المصرية لتعميق علاقاتها الخارجية شرقًا، وهنا وسَّعت شراكاتها مع روسيا والصين، وطوَّرت تعاونها مع موسكو فى مشروعات استراتيجية مثل محطة الضبعة النووية وباستثمارات فى منطقة اقتصادية بقناة السويس، وأيضًا مع الصين بتوسيع استثماراتها فى المشروعات التنموية والمدن الجديدة ومجال التصنيع والاستثمارات.
• وعلى الصعيد الأوروبى؛ طوَّرت القاهرة علاقاتها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، ووسَّعت من مجالات التعاون؛ لتشمل قطاعات الاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم، إلى جانب التنسيق فى قضايا مشتركة، أهمها مكافحة الإرهاب والهجرة غير المنظمة.
• رتبت أولويات دوائر الحركة خارجيًا، لتبدأ بالدائرة العربية وتعميق تعاونها العربى، ثم محيطها الإفريقى؛ حيث فتحت مساحات حركة بالقارة الإفريقية، تستعيد بها حضورها فى القارة؛ حيث سعت لتعزيز التعاون مع أقاليم إفريقيا الخمسة، ولم تحصر الاهتمام بدائرة حوض النيل، بحكم أمنها المائى، ولعل خير شاهد على ذلك؛ مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الأخيرة فى القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقى بغينيا الاستوائية أخيرًا، وجولة وزير الخارجية بدر عبد العاطى، إلى خمس دول من غرب إفريقيا الأسبوع الماضى؛ لتعزيز التعاون والشراكة المصرية مع تلك الدول.
• الاهتمام بدائرة شرق المتوسط، من خلال آلية التعاون الثلاثى مع قبرص واليونان، وتوسيع الشراكة مع هاتين الدولتين حماية لثروات مصر فى المتوسط، وكنافذة أساسية للتعاون مع أوروبا.
هذا التنوع والتعدد فى مساحات ومسارات الحركة المصرية، أعطى للدولة المصرية؛ حضورًا فى محيطها الإقليمى والدولى، وقبل ذلك، حقق الاستقلالية فى علاقاتها الدولية.
خطوط مصر الحمراء
موضع النظر الثالث، لاستقلالية القرار الوطنى، يتعلق بشواهده، من واقع مواقف الدولة المصرية، تجاه أزمات واضطرابات المنطقة، وكيف استطاعت رسم خطوط حمراء، تتعلق بأمنها القومى ومصالحها، تجاه كل المستجدات التى تحدث ؛خصوصًا فى دول الجوار المباشر لها، ويبدو ذلك فى المواقف التالية:
• الموقف المصرى التاريخى، من قضية تهجير الفلسطينيين، مع العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر عام 2023؛ حيث وقفت القاهرة موقفًا صلبًا، تجاه كل دعوات ومقترحات ومخططات التهجير، ورسمت من اليوم الأول محدداتها؛ بأن «التهجير خط أحمر، ويهدف لتصفية القضية الفلسطينية، ولن نشارك فيه».
ولم يعد خافيًا حجم الامتيازات والعروض والمساومات، التى قدمت للقاهرة، أملًا وزعمًا فى تحريك موقف الدولة المصرية الصلب دفاعًا عن القضية الفلسطينية، دون جدوَى.
• وفى ليبيا، التى تعانى على مدار أكثر من 14 عامًا من عدم استقرار سياسى وأمنى، ولا تزال أسيرة تدخلات وصراع نفوذ دولى وإقليمى داخلى، ورغم تعارُض تلك التدخلات رسمت القاهرة خطوطها الحمراء بوضوح أمام الجميع، حينما تحدَّث الرئيس السيسي فى أغسطس 2020، بأن «سرت والجفرة» خط أحمر بالنسبة لمصر.
• وفى السودان؛ لا يختلف الأمر كثيرًا؛ حيث تضع مصر وحدة السودان واستقراره وسيادته الكاملة، كخط أحمر، يرتبط بشكل مباشر بالأمن القومى المصرى، وتقف من هذا المنطلق، داعمة للمؤسَّسات الوطنية السودانية وفى مقدمتها الجيش السودانى، فى الحرب الداخلية الممتدة منذ منتصف أبريل 2023، حتى الآن.
• وفى الوقت نفسه؛ تتمسك بحقوقها القانونية، فى قضية «السد الإثيوبى»، وسط تصرفات وممارسات واستفزازات الجانب الإثيوبى، طوال السنوات الماضية، ومع سياسة الأمر الواقع التى تتبعها أديس أبابا، تقف مصر متمسكة بحقوقها لحماية أمنها المائى، وفْقَ مسارات دبلوماسية وتحركات تحمى بها حصتها المائية.
• ولا يختلف الأمر، مع مستجدات ما حدث فى الصومال، العام الماضى، حينما وقّعت إثيوبيا اتفاقًا غير قانونى مع إقليم أرض الصومال؛ لتحصل على ميناء على البحر الأحمر، وهنا وقفت القاهرة داعمة لمقديشيو؛ حفاظًا على السيادة الصومالية، وأعلنت بوضوح، رفض تواجُد أى دولة غير مشاطئة على البحر الأحمر، على ساحله.
لم تنظر مصر، وهى ترسم محددات مواقفها تجاه تلك الجبهات، لأى حسابات أو إملاءات؛ وإنما كان دافعها الأول والأخير، مصالحها وأمنها، ودعم رؤيتها الإصلاحية، التى تتبنّى سياسة الحلول السياسية والسلمية لمختلف الأزمات.
الأمر الآخر، أن القاهرة، استطاعت مع هذه المواقف، أن توازن بين أمنها ومصالحها الاستراتيجية، وبين دورها كوسيط فاعل فى مختلف أزمات المنطقة، ومحور استقرار إقليمى، كما هو الحال، فى الوساطة المصرية الخاصة بوقف إطلاق النار فى قطاع غزة، والتدخلات المصرية، تجاه التطورات فى ليبيا والسودان، والتى تحظى بمصداقية وتقدير من مختلف الأطراف.
والحديث عن شواهد ومقومات استقلال القرار الوطنى، خلال السنوات الأخيرة، ما هو إلا مناسبة؛ للتأكيد على صلابة الموقف المصرى، مَهما علا ضجيج المزايدين، وزادت المساومات والضغوط، فى محيط تغلى أطرافه بالصراعات والنزاعات.