
أسامة سلامة
هل تتجه الكنيسة للرهبنة الخدمية؟
فى عظته الأسبوع قبل الماضى، تناول البابا تواضروس وضع الرهبنة، مشيرًا إلى التقشف الذى كانت تتميز به الرهبنة الأولى التى بدأها القديس أنطونيوس، والذى يفتقده بعض الرهبان حاليًا، وكشف أن هناك قرارات جديدة سيتم اتخاذها بخلاف القرارات التى صدرت عقب مقتل الشهيد الأنبا أبيفانيوس رئيس دير أبومقار، والتى تضمنت مجموعة من القواعد تعيد الانضباط للأديرة مثل: وقف رهبنة أو قبول إخوة جدد فى جميع الأديرة القبطية الأرثوذكسية داخل مصر لمدة عام،
وتحديد عدد الرهبان فى كل دير بحسب ظروفه وإمكانياته وعدم تجاوز هذا العدد لضبط الحياة الرهبانية وتجويد العمل الرهبانى.
وإيقاف سيامة الرهبان فى الدرجات الكهنوتية (القسيسية والقمصية) لمدة ثلاث سنوات.
والاهتمام والتدقيق بحياة الراهب والتزامه الرهبانى داخل الدير واهتمامه بأبديته التى خرج من أجلها ودون الحياد عنها.
كما حددت القرارات الأفعال التى تعرض الراهب للمساءلة والتجريد من الرهبنة والكهنوت وهى :
الظهور الإعلامى بأى صورة ولأى سبب وبأى وسيلة.
والتورط فى أى تعاملات مالية أو مشروعات لم يكلفه بها ديره.
والتواجد خارج الدير بدون مبرر والخروج والزيارات بدون إذن مسبق من رئيس الدير.
كما أعطى البابا الرهبان فرصة لمدة شهر لغلق أى صفحات أو حسابات على وسائل التواصل الاجتماعى والتخلى الطوعى عن هذه السلوكيات والتصرفات التى لا تليق بالحياة الرهبانية وقبل اتخاذ الإجراءات الكنسية معهم.
وناشد البطريرك جموع الأقباط بعدم الدخول فى أى معاملات مادية أو مشروعات مع الرهبان أو الراهبات وعدم تقديم أى تبرعات عينية أو مادية إلا من خلال رئاسة الدير أو من ينوب عنهم.
الجميع رحب بهذه القرارات الانضباطية ولكن هل تكفى لضبط الحياة الديرية؟ وهل العودة إلى رهبنة القديس أنطونيوس بكل قواعدها هى الحل؟
وهل يمكن تطبيقها حاليًا بذات الشكل الذى كان من مئات السنين؟ مثلا لقد طلب البابا من الرهبان إغلاق صفحاتهم على الفيس بوك، فهل سيتم منعهم أيضًا من استخدام الموبايل والكمبيوتر؟ وإذا سمح بهما فإنهما وسيلتان للتواصل مع العالم خارج الأديرة، أيضًا تسويق منتجات الأديرة يتطلب معرفة الأسعار، وكذلك شراء مستلزمات الإنتاج، وهو ما يحتاج الى اتصالات وبيع وشراء ومساومات، بما يعنى التعامل مع التجار خارج أسوار الدير، هناك أيضًا الدراسات التى يقوم بها الرهبان سواء الدينية واللاهوتية أو فى المجالات العلمية مثل الزراعة والإنتاج الحيوانى وغيرها مما يجعل هناك ضرورة للتواصل مع الجهات العلمية داخل وخارج مصر، ولذا فإن الانقطاع التام وطوال الوقت قد لا يكون مناسبا لعصرنا الحالى، وما دام البابا ومعه الأساقفة فى المجمع المقدس يناقشون وضع الرهبنة وضوابطها فأرجو ألا يقتصر الأمر على قادة الكنيسة ورجال الدين والرهبان فقط وأتمنى أن يتسع النقاش ليضم عقولًا أخرى خارج المنظومة الكنسية، فهناك علمانيون لهم اقتراحات وآراء مفيدة قد تسهم رؤاهم وأفكارهم فى تحديث وتطوير الرهبنة بما يتفق مع عصرنا ووضعنا ومجتمعنا الحالى، وقد يقول البعض إن الرهبنة أمر خاص بالكنيسة ولا يجوز أن يخوض فى أمورها إلا الرهبان والأساقفة، ولكن لأن الرهبنة هى العمود الفقرى للكنيسة المصرية، وحسب تعبير رهبان دير أبو مقار فى ورقة نشرتها مجلة مرقس «الرهبنة قلب الكنيسة النابض فإذا صح القلب صحت الكنيسة كلها وإذا اعتل القلب اعتلت الكنيسة كلها»، ولا ننسى أن الرهبنة تمدها الكنيسة بالباباوات وقادتها من أساقفة الأبرشيات، ويخرج منها دارسو اللاهوت ومفكروها مما يجعل تأثيرها كبيرًا، ولهذه الأسباب وغيرها فإن الأمر يستدعى أن يكون المهتمون من شعب الكنيسة من العلمانيين موجودين فى الحوار الذى سيكون لنتائجه أثر كبير فى مستقبل الكنيسة، بل إن الرهبنة لا تهم أمر المسيحيين فقط ويتجاوز ذلك الى عموم الشعب المصرى والذى يفتخر بأن الرهبنة هى الاختراع المصرى الذى قدمناه للعالم كله، بجانب أن الكنيسة هى جزء من مؤسسات الدولة مثل الأزهر، وأى ضعف يصيبها فإنه يؤثر فى الدولة كلها، كما أن قوتها تعود أيضًا بالإيجاب على الدولة أيضًا، ومن هنا كانت جراءتى فى طرح اقتراح يمكن مناقشته فى إطار الحديث عن الرهبنة وتجديدها وتحديثها، ولو كان صالحًا يمكن تطويره، وإذا لم يكن مناسبًا فهو مجرد اقتراح من محب، لماذا لا يتم عمل جزء من الرهبنة المصرية التقليدية رهبنة خدمية مثلما فعلت الكنيسة الكاثوليكية، والتى قدمت خدمات جليلة للمجتمعات الموجودة بها؟.
وعلى سبيل المثال فإن الرهبنيات الكاثوليكية المتعددة فى مصر كانت وراء إنشاء 131 مدرسة فى العديد من المحافظات المصرية كما أن لها دورًا فى العناية بالأيتام والمرضى والمعوقين ذهنيًا بجانب الأنشطة الثقافية والاجتماعية الأخرى، بل ووصل الأمر إلى الاهتمام بالفنون مثل السينما حيث يوجد المركز الكاثوليكى للسينما وكذلك الأنشطة الفنية التى تقدمها الرهبنة اليسوعية والتى تلعب دورًا مهمًا فى إثراء الفن الرفيع، كل هذه الأنشطة تقدم خدمات كبيرة وجليلة جعلت جزءًا كبيرًا من المجتمع المصرى مسلميه ومسيحييه يدينون بالفضل لها ويشعرون بالامتنان تجاهها، فماذا لو فعلت الرهبنة القبطية الأرثوذكسية مثلها؟.
وبدون حساسيات دعونى أتساءل ماذا استفاد المجتمع من راهب حصل على مؤهل علمى مثل خريجى كليات الطب والهندسة والصيدلة والتجارة بعد اعتزاله العالم وذهابه إلى الصحراء؟.
قد ينجو هذا الشخص بنفسه ويقترب أكثر من الله، ولكن هناك حق للمجتمع عليه بعد أن تعلم فى مدارسه وجامعاته، وهو يمكنه الرهبنة وخدمة المجتمع معا إذا تم وضع إطار وقواعد للرهبنة الخدمية.
ومن الممكن أن تقدم الرهبنة الخدمة فى مجالات عديدة، مثل التعليم فمثلا تتمتع بعض الأديرة بامتلاكها آلاف الأفدنة المنتجة، وتستطيع من ريعها إنشاء مدارس فى القرى الفقيرة والصرف عليها، وبهذا تنقذ آلاف الفقراء من الجهل، ويمكن لبعض الرهبان من خريجى كليات التربية والآداب الإشراف عليها.
كما يمكن الاستفادة من الرهبان خريجى كليات التجارة فى مراجعة ميزانيات هذه المدارس غير القابلة للربح أو بربح بسيط، نفس الأمر يمكن تطبيقه مع إنشاء المستشفيات والمستوصفات، وكذلك الاستفادة من الرهبان المهندسين فى بناء منازل للفقراء أو إنشاء أسطح ودورات مياه فى البيوت التى تفتقد هذه الأساسيات.
إننى مازلت أذكر الاحترام الذى كانت تحظى به راهبات كن موجودات فى قرى ومدن الصعيد لأنهن كن يقدمن خدمات طبية بسيطة للفقراء والذين كانوا لا يستطيعون الذهاب للأطباء، وهو ما ساهم فى إبراز الوجه الطيب للرهبنة والمسيحية عموما، ومن ينسى تأثير الأم تريزا التى خدمت فى مناطق كثيرة فى العالم وساعدت المرضى والفقراء على تجاوز محنتهم فحظيت بحب واحترام العالم أجمع، حتى إنها فازت بجائزة نوبل للسلام.
وعموما فان لدينا تجربة قريبة من الرهبنة الخدمية فى الكنيسة القبطية وهى بيوت التكريس ولكن مشكلتها أنها ليست لها قواعد تحكمها وضوابط محددة لإنشائها ونشاطها يخضع لأفكار الأسقف الذى تتبعه، وإن كان يمكن الاستفادة من تجربتها.
الاقتراح الذى أتقدم به لا يعنى الاستغناء عن الرهبنة التقليدية ولا المتوحدة وما أعنيه هو تخصيص جزء من الرهبنة لخدمات المجتمع وهو ما يتناسب مع طبيعة بعض راغبى الرهبنة الذين يلائمهم أكثر التواجد بالقرب من الناس وخدمتهم وهم فى نفس الوقت يريدون أن يتركوا أهلهم ويبيعوا ما يملكون ويتبعون المسيح، كما أن هناك من يناسبهم الابتعاد والانعزال داخل أسوار الأديرة وفى القلايات والمغارات وهؤلاء أكثر استعدادا للحياة التقشفية التى عاشها الرهبان الأوائل، هذا مجرد اقتراح أرجو إن كان مرفوضًا عند البعض أو حتى لدى الأغلبية أن يتأكدوا من حسن نيتى ومحبتى للكنيسة وتقديرى للرهبنة.