الأحد 27 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
25 شارع الشيخ ريحان

25 شارع الشيخ ريحان


«بينما كان التليفزيون ينقل على الهواء مباشرة وقائع مغادرة الرئيس مبارك مدينة السادس من أكتوبر بعد جولة استغرقت عدة ساعات، قام خلالها بافتتاح عدد من المشروعات الإسكانية الجديدة، فجأة توقفت السيارة التى يستقلها، وأشار «مبارك» إلى أحد أفراد الشرطة المصطفين على جانبىّ طريق الواحات لتأمين الموكب، ودار حوار لعدة دقائق بين الرئيس والشُرطى وكان بجواره فى السيارة محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان والتعمير، وتكهربت الأجواء فى مكتب حسن الألفى وزير الداخلية الذى فشلت كل مساعيه لمعرفة ما جرى بين «مبارك» والشرطى.
 وبعد أكثر من نصف ساعة نجح «الألفى» فى الاتصال بوزير الإسكان،  وكان ذلك عام 1996 ولم تكن أجهزة المحمول بدأ استعمالها، وأخبره سليمان أنه فوجئ بالرئيس يشير إلى أحد أفراد الشرطة ويقول: تراهنى أن المخبر ده مافطرش، وسأل «مبارك»  فرد الشرطة الذى جاء مهرولًا: أنت فطرت النهاردة، قول الحقيقة؟، فردَّ الرجل: لا يا أفندم، كنت مستنى سيادتك تخلَّص الزيارة وبعدين أروح آكل، سأله «مبارك»: أنت واقف هنا من إمتى؟ قال الشرطى: من الساعة 6 الصبح، وسأله «مبارك»: مش عايز حاجة؟ فطلب الشرطى شقة لأنه من شبين الكوم ويأتى للعمل من هناك يوميّا، والتفت «مبارك» لسليمان: شوف شقة للراجل ده. وغادر الرئيس المكان وقال سليمان للألفى إن مبارك التفت له وقال هات الرهان  مش قولتلك الراجل ده مافطرش».

ما سبق واحدة من الحكايات التى نشرها الصحفى اللامع والكاتب والسينارست محمد صلاح الزهار فى كتابه المهم «25 شارع الشيخ ريحان» وهو عنوان وزارة الداخلية والتى عمل الزهار مندوبًا لديها من قبل جريدة الأخبار لسنوات فكان شاهدًا على الكثير من الوقائع الخطيرة، اختار الزهار فى كتابه أحداثًا  لها دلالات مهمة، وأظن أن الباحثين السياسيين  والاجتماعيين وخبراء الأمن والراغبين فى معرفة كيف كانت تدار وزارة الداخلية على مدى عدة عقود، عليهم أن يقرأوا هذا الكتاب،  وسيجدون فى كل حكاية به مادة تصلح للأبحاث والدراسات،  الواقعة التى بدأنا بها المقال تكشف الظروف القاسية التى يعمل فيها أفراد الشرطة وجنود الأمن المركزى والذين كانوا يظلون بالساعات فى الشوارع صيفًا وشتاءً لتأمين موكب الرئيس دون طعام، و«مبارك» كان يعلم ولم يأمر بتحسين أوضاعهم القاسية وكل ما فعله هو عمل رهان كوميدى مع وزير إسكانه وكأنه ليس مسئولًا عنهم، هذا التعامل الفظ واللا إنسانى لا يمكن أن ينتج جنديّا منضبطًا قادرًا على مواجهة  الإرهاب والجريمة، فقد كان الأمن كله موجهًا لتأمين «مبارك» مهما عانى أفراد الأمن من الجوع والعطش لساعات، كل الحكايات فى الكتاب لها معانٍ وتقود إلى فهم كيف كانت تدار الدولة فى ذلك الوقت، وبعضها تكشف علاقة الإخوان بنظام مبارك، يحكى الزهار :«فى المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان عام 2005 أسفر فرز الأصوات فى دائرة مصر الجديدة ومدينة نصر عن حصول مرشحى الإخوان على أعلى الأصوات فى مرحلة الإعادة، وتوترت الأجواء بشدة؛ لأنها الدائرة التى يدلى فيها مبارك وزوجته وولداه بأصواتهم فكيف يكون النائبان الممثلان لها من الإخوان؟، وبعد أخد ورد على أعلى المستويات اتصل ضابط أمن الدولة المتابع للفرز بالدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح الذى هرول إلى مقر لجنة الفرز، وباغته الضابط قائلًا: ينفع يا دكتور الدائرة اللى بيصوت فيها الرئيس يبقى فيها نائبين إخوان؟ ورد أبوالفتوح: طبعًا لا، فسأله الضابط: والحل؟ فقال أبوالفتوح خدوا كرسى وادونا كرسى،  ورد الضابط: اختار، فقال أبوالفتوح نختار الدكتورة مكارم الديرى، فانفعل الضابط قائلًا: أنت عاوز نائبة دائرة سوزان مبارك تبقى إخوانية محجبة، واستسلم أبوالفتوح: خلاص اللى تشوفوه، وتم الاتفاق على اختيار عصام مختار الإخوانى عن مقعد العمال ومصطفى السلاب عن الحزب الوطنى للفئات». والواقعة تعرى  المساومات والصفقات التى كان يعقدها نظام مبارك مع الجماعة، والعلاقات الودية بين قيادات الإخوان وقيادات الأمن، وقبول الطرفين تزوير الانتخابات، ومن الإخوان إلى الجماعات الإسلامية؛ حيث يكشف الكتاب وقائع أخرى خطيرة، مثل استقبال محمد عبدالحليم موسى وزير الداخلية لمفتى الإرهاب عمر عبدالرحمن فى مكتبه، وكان الأخير اتصل بالوزير عن طريق مدير أمن الفيوم طالبًا زيارته، فأرسل له موسى سيارة لتقله إلى مبنى الوزارة حتى لا يكبده مشقة السفر وهو شيخ ضرير - حسب تعبير موسى للزهار عندما سأله عن اللقاء - وانتهت المقابلة  بمشادة بعد أن اتهم عبدالرحمن الدولة بالكفر، والمثير أن وزارة الداخلية منحته بعد ذلك تأشيرة حج  وهو ما رفضته السُلطات السعودية، ولكنه حصل على تأشيرة أخرى إلى السودان ومنها إلى أمريكا، أمَّا حسن الألفى وعندما كان محافظا لأسيوط قبل توليه وزارة الداخلية عقب إقالة عبدالحليم موسى فقد أعاد جمال هريدى أمير الجماعة الإسلامية  بأسيوط  إلى عمله مفتشًا للتموين بعد أن كان موقوفًا عن العمل، وفى اليوم نفسه ارتكب هريدى جريمة راح ضحيتها عدد من رجال الشرطة والمواطنين، وبعدها شارك فى قتل 13 مسيحيّا بقرية صنبو، هذه الوقائع توضح أن وزارة الداخلية فى عهد مبارك لم يكن لها استراتيجية واضحة فى التعامل مع الجماعات المتطرفة، وأن ما كانت تقوم به هو مجرد رد فعل للجرائم الإرهابية.

 يحكى «الزهار» حكايات لطيفة وذات دلالة عن وزراء الداخلية الذين عاصرهم واقترب منهم، دروشة محمد عبدالحليم موسى  والذى اصطحب معه من أسيوط التى كان يعمل محافظًا لها قبل توليه الوزارة معاقًا ذهنيّا اسمه الشيخ سيد كان يعتقد أنه رجل مبروك، وخلافات حسن الألفى مع قيادات الوزارة؛ خصوصًا مديرى أمن الدولة، وانفلات لسان زكى بدر الذى أطاح به والذى وصل إلى حد السخرية من مبارك، ويكشف الزهار أن أحد الضباط الذين نكل بهم بدر كان وراء التسجيل له وإرسال الشريط  إلى رئاسة الجمهورية التى أقالته عقابًا له، والذى تزامن مع نشر جريدة الشعب شتائمه لجميع القوى السياسية، يتحدث الزهار عن  حظ حبيب العادلى الذى تسبب فى بقائه سنوات طويلة رُغم أنه كان الأقل كفاءة بين دفعته، «كان من المقرر أن يحال إلى المعاش فى بدايات عام 1993 حينما كان يشغل منصب نائب مدير مباحث أمن الدولة بعدما رأى المجلس الأعلى للشرطة خلو سجله من السمات التى تؤهله لتولى المناصب القيادية، ولكن فى اللحظات الأخيرة وحفاظًا على صورة مباحث أمن الدولة تقرر تعيينه مساعدًا للوزير لمنطقة القناة على أن يخرج على المعاش فى أقرب حركة شرطية، ولكن الأمور مضت على عكس ذلك فقد تمت ترقية العادلى بعد ذلك ليشغل عدة مناصب مرموقة قبل توليه الوزارة وكلها كانت بالمصادفة وحلّا لمشكلة ما».

 وفى حكايات الزهار ما يمكن أن نطلق عليه «شر البلية ما يضحك» ومنها واقعة سرقة أحراز قضية اقتحام مبنى  مديرية أمن أسيوط عقب اغتيال الرئيس السادات «كان يحاكم فى هذه القضية 300 متهم بينهم 19 سبق محاكمتهم فى قضية اغتيال السادات، وأثناء جلسات المحاكمة تم اكتشاف اختفاء مجموعة من أحراز القضية وبينها شريط فيديو مسجل عليه اعترافات بعض المتهمين فى القضية، وبذلت أجهزة الأمن جهودًا مكثفة لإعادة الأحراز والتى كان ضياعها يعنى براءة المتهمين فى واحدة من أخطر القضايا التى شهدتها البلاد، ولكن أجهزة الأمن توصلت إلى مكان إخفاء هذه الأحراز وقامت باقتحام المكان الذى كان عبارة عن غرفة يتعاطى فيها صاحبها ويدعى «مسعود الدمياطى»  وأصدقاؤه الحشيش، وقبضوا على  مسعود الذى كان يتصور أنه بسبب شرب الحشيش أو ركن سيارته صف ثانٍ، وبعد ليلة طويلة من التحقيقات أنكر خلالها علمه بالمسروقات أجروا مواجهة بينه وبين المرشد الذى دلهم عليه؛ لتتكشف الحقيقة فقد كان مسعود يمتلك محلّا لتأجير أشرطة الفيديو وحصل من بين المسروقات على شريط الفيديو نظير 100 جنيه، وكان يظن أنه فيلم إباحى وينوى نسخ عدة نسخ منه وبيعها، وكاد مسعود يغشى عليه عندما عرف ما يحتويه الشريط واعترف أنه حصل عليه من أحد مساعدى الشرطة المكلفين بحراسة مخزن الأحراز اعتاد أن يتسلل بين الحين والآخر إلى داخل المخزن ويستولى على قطعة من أحراز أى قضية ويبيعها، وكان يظن أنه «شريط لفيلم ممنوع».. الوقائع التى يذكرها الكتاب كثيرة ومثيرة  وهى كاشفة عما كان يدور داخل البناية رقم 25 شارع الشيخ ريحان، وضع الزهار لكتابه عنوانًا فرعيّا هو «تهييسات» وأظن أنها ليست تهييسات مؤلف ولكنها تهييسات نظام كان يجب أن يسقط. >