
أسامة سلامة
دروس محفوظ وبابا الفاتيكان
نجيب محفوظ والبابا فرانسيس لم يلتقيا أبدا فقد مات الأول وكان الثانى مازال راهبا غير معروف، ولم يتبوأ بعد مقعده على رأس الكنيسة الكاثوليكية، ولكن الاثنين تقابلا فى الأفكار الإنسانية والمحبة للبشر والتسامح الذى لا ينتج إلا عن قلب مؤمن وعقل مستنير ونفس راضية وروح حرة.
أكتب هذا بمناسبة الموعظة التى ألقاها البابا فرنسيس الأسبوع الماضى وأعلن فيها تضامنه مع مسلمى بورما الذين يعانون من اضطهاد السلطات البورمية لهم، وتزامن ذلك مع ذكرى رحيل نجيب محفوظ الذى نشرت مجلة «روزاليوسف» عنه ملفا رائعا الأسبوع الماضى احتوى على انفراد مهم عن المسجد الذى بناه محفوظ من أموال جائزة نوبل ولعلها المرة الأولى التى تنشر فيها صورا لهذا المسجد وهى مفاجأة لمن تأثروا بالأقاويل غير الصحيحة التى أشاعها المتطرفون عنه وعن روايته أولاد حارتنا التى كانت سببا فى الاعتداء عليه ومحاولة قتله، ولكن ما الذى يجمع محفوظ وبابا الفاتيكان وما هى الدروس التى يجب أن يتعلمها رجال الأزهر منهما؟ إذا كان بابا الفاتيكان تعاطف مع المسلمين المضطهدين رغم أن بعض المتطرفين من المنتمين اسما إلى الإسلام يكفرونه، فإن محفوظ تعاطف مع المجرمين الذين حاولوا قتله واعتبرهم ضحايا لا جناة، وهما هنا يضربان مثلا للقيم الدينية والقواعد الإنسانية، محفوظ قال أثناء التحقيق معه فى واقعة الاعتداء عليه: «أنا مسامح الناس دى وحاسس أنهم شباب طايش وأنا وغيرى من المثقفين لم نستطع إيصال الثقافة إليهم لكى تواجه هذا الفكر الذى تعلموه حاسس أنى مقصر ناحيتهم وغير راض عن سجنهم فترات طويلة» وطبقا لما جاء على لسان المستشار أشرف العشماوى الذى تولى التحقيق فى القضية فى حوار له أجراه الزميلان مريم جبل وحسام محفوظ ونشر فى جريدة الدستور أن محفوظ قال له: هل يمكن أن أهدى المتهمين ثلاث من رواياتى، ولأنه لم يكن قادرا على الإمساك بالقلم طلب من الأستاذ رجاء النقاش الذى كان حاضرا معه التحقيق أن يكتب الإهداء بدلا منه وأملاه «إلى من كفرونى وحاولوا قتلى أطلب منكم السماح لعدم مقدرتى الوصول إليكم بفكرى وثقافتى وتركتكم فى هذا المستنقع»، ولا أدرى هل وصلت الكتب إلى هؤلاء المجرمين أم لا، لأن المستشار العشماوى حسب شهادته حرز الكتب وسلمها للمحكمة المختصة وحوكم المتهمون عسكريا وانتهت القضية بالنسبة له، كما أننا لم نعرف ما هى الروايات التى اختارها محفوظ لكى يقرأها هؤلاء المتطرفون، على أن للحكاية بقية فحسب ما كتبه الصحفى والكاتب اللامع أيمن الحكيم فى أخبار الأدب فإن «أحد الجناة ثاب إلى رشده وعرف وهو فى السجن أنه مخطئ وأنه حاول قتل رجل مؤمن فأرسل إلى محفوظ خطاب اعتذار مع والدته التى كانت تزوره، ورد محفوظ بمحاولات عديدة للإفراج عنه وهو أمر لم يكن ممكنا فى ظل وجود حكم قضائى نهائى، كما كان هناك تخوف من بعض الشخصيات المحيطة بمحفوظ وأيضا من الداخلية أن يكون الأمر مجرد لعبة أو محاولة للتخلص من السجن، ولكن محفوظ رغم ذلك تدخل لنقل المسجون إلى سجن آخر أفضل وأرحب وأقرب إلى محل إقامة أسرته، كما أنه اعتاد على إرسال برقيات تهنئة إليه فى الأعياد».
ولعل الدرس من موقف الاثنين محفوظ والبابا فرنسيس هو كيف تتسامح حتى مع من حاول إيذاءك وتتعاطف مع من لا ينتمون إليك؟ وكيف تتصرف مع المختلفين معك؟ فقد اعتبر محفوظ أن المتطرفين الذين حاولوا قتله هم ضحايا، قبل أن يكونوا مجرمين، كما أنه أعطى الحل للأزهر وكل مؤسسات الدولة لمواجهة التطرف، والتى يجب عليها أن تذهب إلى هؤلاء الشباب ولا تتركهم فريسة لمن يملأون رؤوسهم بالأفكار الإرهابية، لقد طلب محفوظ من المجرمين السماح والصفح لأنه لم يصل إليهم بأفكاره وهو ما يجب أن يفعله الأزهر وأن يبادر بالذهاب إلى كل أماكن التطرف ويناقش الشباب ويتحاور معهم ويبدأ فى تثقيفهم وتعليمهم وتوجيههم نحو الأفكار الصحيحة، الدرس الثانى الذى أعطاه محفوظ ليس للأزهر فقط ولكن لكل المجتمع المصرى ولكل العالم وهو التسامح والعفو طالما تمتلك هذه القدرة، وهو قريب من درس البابا فرانسيس الذى تعاطف مع المسلمين ودعا الله أن يساعدهم فى الحصول على حقوقهم واصفا المسلمين بإخوته الذين يتضامن معهم إزاء الاضطهاد الذى يتعرضون له، لقد وضع الاثنان محفوظ والبابا قيم الإنسانية التى أقرتها الأديان فوق كل اعتبار، فهل يقرأ رجال الأزهر هذه الدروس ويفهمونها ويطبقونها؟!