الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ها هو ظلك!

ها هو ظلك!

أغضبته تلك العبارة كثيرا، وأنا لم أكن أقصد إغضابه أبدا.. أخذت صديقى الأمير الشاب وأوقفته حيث تكون الشمس من خلفه ليرى للمرة الأولى ظله.. وقلت له: (ها هو ظلك).. وبمجرد أن رآه تغير وجهه، ونظر لى نظرة ملؤها الألم ثم أشاح بوجهه عنى وهو غاضب وكأننى ارتكبت جرما فى حقه.. فالأمير ليس له ظل!!



 

تعود قصتنا إلى تاريخ طويل من الصداقة والألفة واللعب سويا منذ أن كنا صغيرين.. هو الأمير ابن ملك البلاد، الذى ستؤول له السلطة بعد والده، وأنا ابن حكيم القصر ومعلم الأمراء، وغالبا ستؤول لى وظيفة والدى ومهماته الكبيرة فى قصر الأمير عندما يصبح ملكا.. لم أكن صديقه الوحيد، بل كان للأمير أصدقاء كثيرون وكنا نلعب معا ونذهب للصيد معا ونقرأ وندرس ونتسامر معا.. ولكن لعبة الظل كانت الشيء الوحيد الذى لا نتساوى فيه مع الأمير أبدا.

 

فى طفولتنا كان للأمير حارس يلازمه بالمظلة.. نسير جميعا تحت الشمس ما عدا الأمير الذى يسير تحت المظلة.. ولا يمكن أبدا تحت أى ظرف من الظروف أن يتعرض الأمير للشمس.. وبالتالى كنا نرى كل واحد ظله وظلال الآخرين أما الأمير فليس له ظل.. وكنت بسذاجة الطفل وعدم معرفتى وقتئذ بالعلم، أظن أن الأمراء والملوك لا ظل لهم.. وأننا ولأننا عامة الشعب لنا تلك الظلال السوداء التى تبدو مخيفة أحيانا وفى أحيان أخرى تبدو مضحكة.. وأنها تلازمنا وتعاكسنا، فمرة تأتى خلفنا ولا نستطيع الهروب من ملاحقتها لنا، ومرة لا يمكننا أن نلحقها لأنها تجرى أمامنا.. وكنت أقول لنفسى، أن عفريت الظل لا يمكن أن يسكن نفس الأمراء لأنها أنفس نبيلة ولأن الأمير لا ينبغى أن ينشغل بأى شيء يلهيه عن مهامة العظيمة ورعاية شئون البلاد والعباد.

 

مرت الأيام وكبرنا وكان حارس الأمير وحامل مظلته لا يفارقه إلا إذا كنا بعيدين عن الشمس وضوء النهار.. ولكننى أدركت أن لكل إنسان ظله، وأن النور هو كاشف الظل.. وعرفت من والدى حكيم حكماء القصر كيف ومتى يظهر ظل الإنسان والأشجار والمنازل تبعا لتغير زاوية الشمس على الأرض والأشياء.. وبعدما أنهى أبى درس الشمس والظلال سألنى سؤالا عجيبا.. قال: لماذا يختلف ظل الإنسان عن ظلال الموجودات الأخرى؟ فلم أفهم واحترت فى الإجابة.. فقال لى أبى: لأن الإنسان العاقل يجعل ظله دائما أمامه فيرى جانبه المظلم ويلاحظ عيوبه ويصلحها!!

 

فى بداية الأمر لم أفهم أن أبى يعنى أن الظل الإنسانى هو رمز للجانب الخفى فى حياة كل منا.. وأن الأضواء حين تكون فى وجهنا تعمى عيوننا وتجعل الظل وراءنا فلا نراه.. وأنه حين قال لى أن أجعل ظلى أمامى لم يكن يعنى أننى لابد أن أسير والشمس وراءى، فهذا غير معقول.. ولكنه كان يعلمنى أن أضع الجوانب المظلمة والصفات الضعيفة فى شخصيتى نصب عينى لأتصالح مع نفسى وأحاول تعديلها بدلا من إخفائها..

 

اعتقدت أننى ينبغى أن أنقل ما تعلمته من والدى لصديقى الأمير.. ولكنه لا يعرف ظله!! ولا يقف إلا مواجها للشمس وفوق رأسه مظلة الحارس.. ويرى ظلال الجميع ولكنه لا يرى ظله.. ولم يكن هناك بد من أن أجعله يرى ظله.. ولكن كيف؟ أقنعت الأمير أننا ينبغى أن نخرج سويا مع الأصدقاء ونسير فى رحلة استكشافية، وأننا ينبغى أن نذهب وحدنا دون حراسة لأننا قد كبرنا ونستطيع الخروج بمفردنا.. استطاع الأمير أن يخرج وحده من القصر فى الصباح الباكر دون حارسه.. وتقابلنا سويا لنبدأ الرحلة وكانت المفاجأة!!

 

أحضر أصدقاء الأمير مظلة وقاموا بدور الحارس.. كل واحد منهم يحمل المظلة فترة ثم يسلمها لصديق آخر.. كنت قد فقدت الأمل فى نجاح فكرتى بسبب تلك المظلة السخيفة.. كنت أود أن أجعل الأمير يرى ظله.. ألا يحتم واجب الصداقة عليّ أن أجعله يراه.. لماذا يحمل أصدقاؤه مظلة ويخفون عنه ظله؟ أيعتقدون أنهم يقدمون له الحماية؟ ممَ؟ من الحقيقة؟ أهذه هى الصداقة؟ ولكن دورى فى حمل المظلة كان قد حان وأنا فى وسط تلك الأفكار.. حملت المظلة، وأوقفت الأمير والشمس خلفه، ثم أطحت بالمظلة بعيدا.. وقلت للأمير: (ها هو ظلك)!!

 

(كتبت هذه القصة لأننى تأثرت كثيرا بنظرية (الظل) للعالِم النفسى يونج والتى نكون فيها كلنا أمير لا يريد أن يقابل ظله، ولا أن يرى تلك النفس الأخرى التى تسكنه والتى تحوى نقاط ضعفه.. وحتى إذا اقترب لنا صديق يساعدنا على كشف ظلالنا نظنه يؤلمنا ونفضل من يحملون لنا المظال بدلا من كشف الظلال).