
محمد جمال الدين
ترامب وسياسة ادعاء الجنون
تعد نظرية «الرجل المجنون» إحدى النظريات التى تحكم إدارة العلاقات الدولية وأزماتها، وهى قديمة فى الفكر السياسى، تعود أُسسها إلى عام 1517، عندما جادل فيلسوف الممارسة السياسية الإيطالى مكيافيلى فى كتابه «خطابات حول ليفى» بأن «التظاهر بالجنون قد يكون أمرًا حكيمًا للغاية فى بعض الظروف، وهذا تحديدا ما استغله بعض قادة الدول الذين يتصرّفون بشكلٍ غير متوقّع أو يبدون (مجانين) لفرص ضغوط كبيرة على خصومهم لتقديم تنازلات، وبالتالى يحققون مكاسب بسبب الخوف من ردود فعلهم غير المتوقعة، أى أنّ جوهر هذه النظرية هو تبنّى مواقف مجنونة وخطيرة لإرضاخ الخصوم وتخويفهم من جرّهم إلى الهاوية حال عدم رضوخهم.
ويعد الرئيس الأمريكى الـ37 ريتشارد نيكسون أكثر من انتهج تلك النظرية بشكل مباشر، بل إنه يعد المسئول عن تسمية النظرية بهذا الاسم، فى حين يعد هنرى كيسنجر، مستشار الأمن القومى للرئيس نيكسون، أول من مارس هذه النظرية أثناء مفاوضاته مع الفيتناميين فى باريس، إذ كان يلجأ كلما تعقدت الأمور للحديث عن عدم ضمان رد فعل الرئيس نيكسون «الرجل المجنون» الذى يجلس فى البيت الأبيض، ويهدّد بأنه سيلجأ لاستئناف قصف فيتنام فى أى لحظة حال فشل المفاوضات.. عقب ذلك خفتت حدة استخدام هذه النظرية فى عالم السياسة، حتى استدعاها مؤخرا الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب فسياسته وتصرفاته غير المتوقعة ما هى إلا تأكيد لقواعد ونصوص تلك النظرية، خصوصا فى فترة رئاسته الثانية، التى ينتهج فيها سياسة بث الخوف والرهبة المصحوب بالغموض لبث الرعب فى نفوس خصومه أو من يخالفونه الرأى. لذا كانت تصريحاته بضرورة تهجير سكان قطاع غزّة إلى الأردن ومصر، وتحويل القطاع إلى ما وصفه بـريفييرا الشرق الأوسط، وتحويل كندا إلى الولاية الـ51، واحتلال جزيرة جرينلاند، والتى أعقبها بالحصول على قناة بنما ثم مرور السفن الأمريكية سواء التجارية أو العسكرية فى قناة السويس مجانا، لتؤكد بدورها اتباعه لتلك النظرية، لخلق واقع يتفق مع رغبته وهواه لكون بلده دولة كبرى، وهذا ما يجعل جل من يتعامل معه يخشى أطروحاته ومطالبه.
ورغم أن نظرية الجنون التى يتبعها ترامب قد تنجح فى بعض الأحيان، مثلما حدث مع بنما التى قدمت تسهيلات كبيرة للسفن الأمريكية، إلا أنها فى أحيانا أخرى ثبت عدم نجاحها، وفشلت فى تحقيق الهدف من اتباعها، وهذا ما يؤكده التاريخ منذ استخدامها فى فرض واقع سياسى معين، فنيكسون الذى قرر العمل بها مستخدما إياها فى مفاوضاته مع الفيتناميين، سحب جيشه جراء هزيمته التى سببت فضيحة كبرى للجيش الأمريكى (مازال يعانى منها حتى الأن)، أما ترامب فقد اتضح أن تهديداته ووعيده أغلبها يصنف تحت بند (الفشنك) فحتى الآن مازال أهلنا فى غزة داخل أرضهم رغم حرب الإبادة التى ترتكب فى حقهم يوميا، ورغم استخدام دولة من يدعى الجنون لحق الفيتو فى مجلس الأمن، لإجهاد أى محاولات لإيقاف النار فى غزة، (وهو بالمناسبة القرار الذى يخلع عنه وعن إدارته صفة كونه وسيطا نزيها ومحايدا فى شئون الوساطة بين قادة حماس والعدو الصهيونى)، كما أن مطالبه بتهجير أهل غزة إلى مصر والأردن تم رفضها من قبل قادة وشعوب الدولتين، وكذلك رفضت مطالبه بتحويل كندا إلى ولاية أمريكية، ولم يكتب له النجاح أيضا فى الحصول على جزيرة جرينلاند، أما بخصوص مطالبه (أو بمعنى أصح تهديده) بمرور سفنه فى قناة السويس، التى ادعى أنه ساهم فى تأمينها، فقد رفض جملة وتفصيلا، (رغم أنه كان مصحوبا بتهديد بقطع المعونة أو المساعدات العسكرية)، حيث عرف هو شخصيا أو غيره من رجال إدارته، أن مصر وشعبها على استعداد تام لرفض تلك المعونة أو المساعدات، لكونها لا تعنى لهم شيئا يذكر. حتى حربه التجارية التى تمثلت فى فرض رسوم جمركية، وخصوصا على دولة الصين، انعكست عليه وعلى الاقتصاد، ليدخل عن طيب خاطر فى مرحلة استجداء للعملاق الصينى كى يرضى عنه، ويصدر له المعادن النادرة، التى تعتمد عليها تكنولوجيا التصنيع الحديثة، فشل يجر خلفه فشل، وقع فيه من كان يتوهم أن ادعاء الجنون من الممكن أن يحقق له النجاح، ويخلد اسمه فى طابور الرؤساء الذين جلسوا على مقعد الرئاسة الأمريكية، لأن هذا الرجل وبصريح العبارة، لم يعد مدركًا أن كافة الدول باتت أكثر وعيا بكافة عناصر نظرية الجنون التى يأخذ بها ترامب، والتى من خلالها يستعرض قواه على دول العالم، والتى مع الوقت ثبت عدم تأثيرها، رغم أن الرجل مازال فى بداية ولايته، التى يشوبها ضعف بين لاقتصاد بلده، واضطرابات داخلية تعصف بعناصر مجتمعه من قبل المهجرين، مما جعله يستدعى الحرس الوطنى للتصدى لهذه الاضطرابات، وديون لا حصر لها جعلت من أمريكا أكبر دولة مدينة فى العالم.
لذا يبقى حديثه عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب فى تحديد المصير، وتجنب الحروب وقدرته على إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، كلاما إنشائيا يستعرض من خلاله قوته وقدرته المستمدة من تلك النظرية، التى ثبت عدم نجاحها، حتى ولو صرح من يعمل بها أنه مجنون، لأن المجنون الحقيقى لا يقول عن نفسه أنه مجنون، وإن كان فى النهاية ادعاء الجنون سوف يلاحقه أينما ذهب، حتى ولو بعد تركه مقعد الرئاسة نتيجة اندفاعه فى اتخاذ القرارات، وعدم سماعه إلا لنفسه.