
نبيل عمر
الوجه الآخر للديمقراطية الأمريكية الردح السياسى بين المليونير والرئيس!
بالطبع سوف تتجاوز الولايات المتحدة الاضطرابات المشتعلة فى لوس أنجلوس؛ بسبب اعتقالات واسعة للمهاجرين غير الشرعيين، التى امتدت بشكل ما إلى ولاية تكساس، ودفعت حاكم نيويورك أن يخرج على أهلها قائلاً إن المدينة تملك أكفأ جهاز شرطة فى العالم قادر على مجابهة أى محاولات للخروج على القانون!
سبق أن اندلعت مثل هذه الاضطرابات عشرات المرات فى العديد من المدن الأمريكية بأشكال مختلفة ولأسباب مختلفة، وإن لم يحدث أبدًا أن تصاعد الخلاف بين رئيس أمريكى وحاكم ولاية إلى حد تهديد الرئيس دونالد ترامب باعتقال «جافن نيوسوم» حاكم ولاية كاليفورنيا، لأن «نيوسوم» أعلن رفضه لقرار ترامب بتدخُّل الجيش والحرس الوطنى فى فض المظاهرات وفرض النظام بالقوة المسلحة داخل الولاية، معتبرًا هذا التدخل بمثابة تحريض على العنف وتصعيد للمواجهات.. وقال إن تهديد ترامب بالاعتقال هو «خطوة على طريق الاستبداد»!
لكن لن تستطيع الولايات المتحدة أن تتجاوز صراع «الردح السياسى» الذى نشب بين ترامب والملياردير الشهير «إيلون ماسك»، صراع غريب أزال «الغطاء الثقيل» عن «نفايات» متراكمة فى بنية النظام السياسى، ستظل أجهزة الرصد والتحليل فى المجتمع الأمريكى تقلب فيه لفترة طويلة؛ لتفهم التغيرات التى أوصلت العلاقة بين المال والسلطة والديمقراطية إلى حد الردح العلنى، وإن ما يقال ويُحكى ويتغنى به النظام الأمريكى له أوجُه دميمة على أرض الواقع غير الأوجُه الفاتنة المُعَلقة على الجدران، وتنسف نظرية «نهاية التاريخ» لفيلسوف المحافظين الجُدُد «فرانسيس فوكوياما»، بأن الديمقراطية الليبرالية على النمط الأمريكى هى الصيغة النهائية للحكومة البشرية.. فهذا الصراع أثبت أن هذه الديمقراطية مليئة بالثقوب والمثالب، وفى حاجة إلى عملية إصلاح جادة!
وبالمناسبة؛ هذا الصراع ليس الأول من نوعه فى تاريخ أمريكا الحديث، قد حدث من قبل على شكل خلافات فتتت تحالفات بين رؤساء أمريكيين ورجال أعمال، مثل الذى وقع فى أوائل القرن العشرين بين الرئيس السادس والعشرين ثيودور روزفلت وأباطرة المال الذين قاوموا إصلاحاته الاقتصادية، إذ كان ثيودور ضد الصناديق الائتمانية الضخمة والاحتكارات الكبيرة التى سيطرت على الصناعات مثل النفط والسكك الحديدية والصلب، وعمل على إعادة تنظيمها وتفكيك بعضها، ودعا إلى تحقيق العدالة للمستهلكين والعمال والشركات، لكن الأباطرة رأوا فى أفكاره تهديدًا لنفوذهم وأرباحهم، وضغطوا لمنع التدخل الحكومى فى أعمالهم، لكن روزفلت نجح إلى حد كبير بتأييد شعبى جارف؛ وبخاصة بعد أن ساند عمال الفحم فى إضرابهم الكبير سنة 1902، حتى حققوا جزءًا كبيرًا من مطالبهم.
وهو نفس الصراع الذى تكرّر مع فرانكلين روزفلت وبعض كبار رجال الصناعة خلال فترة الكساد الكبير فى الثلاثينيات.
لكن لم يحدث أن تبادل أى رئيس أمريكى «العبارات العنيفة والمهينة» مع رجل أعمال، إلاّ فى حالة ترامب وماسك، التى وصلت إلى حد «فرش الملاية» والتهديد بنسف المَصالح الاقتصادية!
لن نتوقف كثيرًا عند تفاصيل «الردح الخاص»، فهو شخصى، وناجم عن علاقات إنسانية ممزقة تغذيها العاطفة والانفعالات النفسية، لكن ما يعنينا هو «الردح العام»، الذى يفسر طبيعة العلاقة بين رجل أعمال كان مستشارًا للرئيس، واخترع له ترامب وظيفة جديدة؛ لرفع كفاءة الأداء فى المؤسّسات الفيدرالية؛ لتقليص العجز فى الميزانية العامة، ورئيس دولة هى الأكثر نفوذًا فى العالم كله، وتأثيرًا فى صناعة الحرب والسلام، والأزمات والحلول، والقلاقل والاستقرار.
والجديد فى هذا الردح أنه علنى على صفحات التواصل الاجتماعى، أى أن إيلون ماسك جرجر الرئيس الأمريكى إلى الاشتباك فى «الساحة» التى لا يبرع إنسان على كوكب الأرض فى استخدامها كما يفعل ماسك، فهو صاحب «شبكات تواصل» وله يوميًا ما بين مئة ومئة وخمسين تعليقًا وتغريدة ولغزًا واقتراحًا وصورة وحكاية..إلخ، صحيح أن الرئيس ترامب من كبار «النشطاء» على الشبكات، ويمكن أن نصفه بأنه أول رئيس يمارس مهامه على السوشيال ميديا كتابة، قبل أن يوقِّع أى قرار أو يأخذ موقفًا، لكن مع ماسك هو ذهبَ بقدميه إلى بيت الساحر صاحب اللعبة!
لن نهتم بدعم ماسك لمنشور على منصة إكس، يطالب بعزل الرئيس ترامب من منصبه؛ عقابًا له على الرسوم الجمركية التى فرضها على السلع القادمة من دول العالم، وأن هذه الرسوم قد تدفع الاقتصاد الأمريكى إلى الركود فى النصف الثانى من هذا العام، فكثير من الاقتصاديين والسياسيين فعلوها قبله، ووقت أن كانت علاقته بترامب سَمنًا على عَسَل، لكن تغريدته المثيرة حقًا هى التى قال فيها: ترامب موجود فى ملفات إبستين، وهذا هو السبب فى عدم نشر الملفات.
وإبستين هو رجل الأعمال الأمريكى جيفرى إبستين المتهم بارتكاب جرائم جنسية واستغلال جنسى لفتيات أعمار بعضهن لم تتجاوز الرابعة عشرة ، وقبض عليه فى يوليو 2019، وانتحر فى السجن قبل محاكمته، أى أن سلطة الرئيس هى التى منعت نشر تفاصيل الملف المخجل على الرأى العام، والسؤال: هل لأنه «طرَف» فى القضية على نحو ما؟، هل كان زبونًا عند إبستين وله علاقات مع فتياته؟، هل هو شاهد أو لديه معلومات معينة حصل عليها بالمصادفة؟ هل هو وفَّر حماية للمتهم حين كان رئيسًا للولايات المتحدة ( 2016-2020)، فلم ينفضح أمره وينكشف ستره وقتها؟
فى المقابل هدّد ترامب ماسك بنسف تعاملاته التجارية الضخمة مع الحكومة الفيدرالية، وكتب على وسائل التواصل الاجتماعى: «أسهل طريقة لتوفير المال فى ميزانيتنا، مليارات ومليارات الدولارات هى إنهاء الإعانات والعقود الحكومية لإيلون»!
وبمجرد أن قال ذلك انخفض سعر السهم فى شركة تسلا التى يملكها ماسك بنسبة 14 % تعادل 150 مليار دولار من قيمتها السوقية، ويتوقع أن تنخفض أرباحها فى الأشهُر الستة المقبلة بما لا يقل عن 20 %!
لكن السؤال الذى لا بُدّ أن يقتحم عقل أى إنسان: كيف لسياسى فى الإدارة الأمريكية أن يكون على علاقة تجارية مع مؤسّسات هذه الإدارة بالمليارات؟، أليست وظيفته الرسمية التى دامت 130 يومًا فقط تمثل تضاربًا فى المَصالح مع عقوده الحكومية؟، أليس فيها استغلال نفوذ؟، أى نوع من الديمقراطية يمارسها الرئيس ترامب؟
ثم إذا حدث خلافٌ سواء كان شخصيًا أو عامًّا، فأول ما يفعله الرئيس أن يهدد رجل الأعمال بإيقاف تعاقداته مع الحكومة، يعنى فساد فى التعاقد وفساد فى إلغاء التعاقد!
والحكاية لها أصل يعود إلى أيام الانتخابات، إذ أنفق إيلون ماسك من جيبه 290 مليون دولار؛ ليضمن إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وفوز الجمهوريين فى مجلسىّ النواب والشيوخ، وكان طبيعيًا أن ينسب لنفسه منصب الرئيس وكتب على منصته الخاصة «إكس»: بدونى كان ترامب سيخسر الانتخابات، وكان الديمقراطيون سيسيطرون على مجلس النواب، يا له من جحود، هل حان الوقت لإنشاء حزب سياسى جديد فى أمريكا يمثل غالبية الأمريكيين؟
والسؤال: ماذا يعنى هذا الصراع؟
1 - لجوء الشخصيات البارزة إلى وسائل التواصل الاجتماعى باعتبارها ساحة المعارك على النفوذ والسمعة والسيطرة.
2 - توترات سياسية وانقسامات مجتمعية أوسع اتضحت فى تعليقات العامة على الطرفين.
3 - تآكل الأعراف السياسية وإضعاف المؤسّسات التقليدية، فالطرفان فى صراعهما أهملا عمدًا المؤسّسات السياسية وتفاعلا مباشرة مع الجمهور.
4- التأثير سلبًا على الثقة والاستقرار داخل النظام السياسى.
باختصار؛ الصراع بين الملياردير الذى يصفه الإعلام بالخبيث والرئيس المرتبك يتجاوز أشخاصهما إلى النظام السياسى المأزوم!