الأحد 12 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
عدو القضية

فلسطين بين نيران الاحتلال ومزاد الإخوان

عدو القضية

لم تكن فلسطين عند الإخوان يومًا قضية وطن، بل كانت دائمًا ورقة فى دفتر الحسابات.



ورقة تُرفع حين يريدون الضغط على نظام، وتُطوى حين يحين وقت الصفقات.

هكذا بدأت القصة منذ حسن البنا، وهكذا استمرت بعده بوجوه تتغير، وقلوب لا تتغير.

منذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها مؤسس الجماعة أن الشعارات الدينية تُلهب المشاعر، أدرك أيضًا أن «القدس» يمكن أن تكون كلمة السر فى السيطرة على العقول والقلوب.

 

فمن ذا الذي يجرؤ أن يناقشك أو يعارضك إذا رفعت شعار «الدفاع عن الأقصى»؟

ومن ذا الذي يسألك عن فسادك أو دمك أو خيانتك، إذا كنت تتحدث باسم «المقاومة»؟

كانت فلسطين بالنسبة إليهم سُلَّمًا إلى السلطة لا ميدانًا للشهادة.

ولم يكن نحيب غزة يبكيهم إلا إذا كان الصوت يخرج من ميكروفوناتهم.

فى الأربعينيات، حين اشتعلت الحرب الأولى فى فلسطين، لم يرسل البنا جنده إلا بعد أن تأكد أن فى الأمر دعاية تكسبه شرعية أمام الملك فاروق والنخبة.

وفى الخمسينيات، حين قامت الثورة، حاولوا فى بدايتها أن يصادروا الثورة لأنفسهم، وكأن الوطن لا يثور إلا بتكليف من مكتب الإرشاد.

ثم انقلبوا على الثورة نفسها حين أدركوا أنها لن تمنحهم سلطة القرار.

وفى الستينيات، حين هُزمت الجيوش العربية، رفعوا رؤوسهم من مخابئ السجون وقالوا فى سرّهم وعلنهم: ألم نقل لكم؟.

كانوا يفرحون بالهزيمة لأنها تُسقط من ينافسهم فى زعامة الأمة.

ومع السبعينيات، بعد أن تكسرت الموجة الناصرية، أدركوا أن الطريق إلى الشارع العربى يمر عبر بوابة فلسطين.

فتحدثوا عن «تحرير القدس»، لكنهم لم يحرروا يوما شبرًا من الأرض المحتلة.

رفعوا رايات الجهاد، لكنهم لم يطلقوا رصاصة إلا فى صدور المصريين.

كانوا يجمعون التبرعات باسم المقاومة، ثم لا يُعرف أين ذهبت الأموال ولا من حمل السلاح.

وحين تأسست «حماس» فى بداية الثمانينيات، بدا الأمر للبسطاء كأنه امتداد طبيعى للمقاومة الفلسطينية، لكنه كان فى الحقيقة امتدادا للتنظيم الدولى للإخوان أكثر مما هو امتداد لثورة الفلسطينيين.

فقد أُقيمت الحركة على قاعدة الولاء العقائدى قبل الولاء الوطني، فصارت فلسطين عندهم «وقفًا للجماعة»، تُدار بقرارات من قادة يجلسون فى الدوحة أو إسطنبول.

وحين اختلفوا مع السلطة الفلسطينية، لم يتورعوا عن الاقتتال الداخلى، حتى سال الدم الفلسطينى على أيد فلسطينية، تحت رايات ترفع الشهادتين.

لقد حوّل الإخوان قضية فلسطين من رمز للوحدة إلى ذريعة للانقسام.

وحين تسألهم اليوم عن سبب رفضهم المتكرر لكل مبادرات المصالحة، يجيبونك بكلماتٍ منمّقة عن «الثوابت»، لكن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير:

هم لا يريدون مصالحة، بل يريدون ورقة ضغط.

يريدون أن تظل غزة جرحًا مفتوحًا، لأن الجرح هو رأسمالهم السياسى.

فهم يعيشون على الأزمات، ويتنفسون من رائحة الحصار، ويقتاتون من أنين الشعوب.

وفى كل أزمة بين مصر والإخوان، تظهر فلسطين فجأة كأنها الابن الذي يتذكره الأب المهمل حين يطلب التعاطف.

ثم حدث السابع من أكتوبر 2023. ما بدا فى لحظته عملية هجومية واسعة نفذتها حركة حماس ضد أهداف داخل إسرائيل، سرعان ما تحول إلى صاعقة سياسية وإعلامية أعادت ترتيب أوراق المنطقة. 

ونجح فى لفت الأنظار إلى قضية فلسطين، وزيادة إطلاق راويات دعائية اعتادت أن تتغذى على فعل المقاومة.

 وفى الساعات والأيام الأولى تكفل بيان حماس الإعلامى بتضخيم ما حدث مما أعطى لحماس سُلطة رمزية لحساب ادعائها بأنها تمثل الفلسطينيين اليوم؟ تلك اللحظة استثمرتها الحركة سياسيًا وإعلاميًا. 

وبدا الأمر وكأن القضية الفلسطينية استعادت فجأة مكانتها المفقودة، وارتفعت رايات المقاومة من جديد فى وجدان الشارع العربى، لكن ما بدا نصرًا رمزيًا قصير الأجل، ما لبث أن صار مدخلا لمأساة طويلة ومفتوحة على كل وجوه الكارثة.

فقد استثمرت حماس الصدمة الأولى لتقديم نفسها من جديد كممثل شرعى وحيد للفلسطينيين، وأظهرت نفسها كما لو كانت تمتلك تفويضًا تاريخيًا بغير استفتاء ولا إجماع. 

وتصدرت الشاشات، وتحول مشهد الهجوم إلى أداة دعائية لإعادة التمركز السياسى، فارتفعت أصوات فى بعض العواصم العربية تصف ما جرى بأنه «انتصار للكرامة»، بينما كانت الوقائع على الأرض تسير فى اتجاه آخر تماما. 

فالرد الإسرائيلى كان مروّعًا، واسعًا، وشاملًا. وانهالت القذائف على قطاع محاصرٍ أصلا، فانفجرت معه بنية الحياة اليومية: مستشفيات دمرت، مدارس أحرقت، وشوارع تحولت إلى أطلال.

 لم يكن الرد الإسرائيلى عسكريًا بقدر ما كان اجتياحًا إنسانيًا لمجتمع بأسره، فانهارت منظومات التعليم والرعاية والصحة والسكن، وتحول الحلم بدولة فلسطينية إلى سراب جديد فوق ركام قديم.

كانت النتيجة الفعلية أبعد من خسائر الحرب. فالقضية نفسها - التي طالما كانت عنوانا للضمير العربى - صارت موضع شك وجدال، وصار الحديث عن الدولة المؤجلة أكثر تعقيدًا، والقيادة الفلسطينية أكثر انقسامًا، والشعب - الذي كان صاحب القضية - صار ضحية خطابين: خطاب الاحتلال، وخطاب من تاجر باسمه.

وفى هذا الفخ المزدوج، دفعت «حماس» الشعب إلى الكارثة باسم البطولة، فلم تحسب عواقب الرد الإسرائيلى، ولا خططت لكيفية حماية المدنيين بعد الصدمة الأولى، ولكن غابت الرؤية السياسية، وحضرت لغة الاستعراض، وتحولت لحظة الهجوم إلى فخ استراتيجى التهم كل ما تبقى من بنية المجتمع، وجعل العالم يشك فى قدرة أى فصيل فلسطينى على تمثيل قضية تحتاج إلى دولة لا إلى مغامرة.

ثم بدأت التجارة السياسية، سارع الإخوان المسلمون وأذرعهم الإعلامية إلى تحويل المأساة إلى رصيد فى حساباتهم، يتهمون الأنظمة بالتقصير، ويزايدون على الدم الفلسطينى بعباراتٍ عن «الخذلان» و«الجهاد»، وبينما كانت غزة تُباد.

 كانوا يرفعون الشعارات لا ليحموا القضية، بل ليبتزوا الأنظمة العربية باسمها، وفى سبيل هذا الابتزاز رفضوا المصالحات الوطنية، وهاجموا كل جهد يرمى إلى تسوية عقلانية، وما ذلك إلا لأنهم يدركون أن دوام الانقسام هو رأس مالهم السياسى الوحيد، إن انتهت الأزمة، انتهت تجارتهم.

وهكذا وُلدت المأساة من رحم المزايدة، ما كان يمكن أن يكون حدثًا يعيد الانتباه إلى فلسطين، تحوّل إلى ضربة ضد مشروع الدولة الفلسطينية ذاته.

 وفى الخلفية، يطل الإخوان كعادتهم بوجهين: وجه المقاومة أمام الجماهير، ووجه الاستثمار أمام العواصم.

ليس هذا دفاعًا عن إسرائيل ولا تبريرًا لجرائمها، ولكنه توصيف لنتيجة مأساوية: حين تُحوَّل القضايا الكبرى إلى أدوات للمكاسب الصغيرة، تموت القضايا، ويموت معها الأمل، إن من استغل دماء غزة لابتزاز الحكومات لا يقل جرمًا عمّن يطلق النار على المدنيين. وهكذا نصل إلى الدرس الأخير: فلسطين لا تحتاج من يتحدث باسمها فى الفضائيات، بل من يبنى لها مستقبلا فى الأرض، لا تحتاج إلى هتاف جديد، بل إلى دولة حقيقية.

 أما أولئك الذين جعلوا من كل مأساة منبرا، ومن كل نكبة فرصة، فقد خانوا فلسطين مرتين: يوم حولوا مقاومة شعبها للاحتلال إلى مكسب لهم، ويوم تاجروا بدمها ليبتزوا الأنظمة باسمها.

لقد حوّل الإخوان كل قضية نبيلة إلى شعار.

اختزلوا الإسلام فى الجماعة، والوطن فى البيعة، وفلسطين فى اللقطة السياسية. والمفارقة أن الذين يتحدثون اليوم عن «تحرير الأقصى»، هم أنفسهم الذين عجزوا عن تحرير وطنهم من جهلهم.

أقاموا لأنفسهم خيمة فى كل عاصمة عربية باسم فلسطين، يبيعون فيها الكلام والدموع، ثم يجمعون الأرباح فى حسابات مغلقة لا يعرفها أحد.

ولم تكن مصر بعيدة عن هذه اللعبة.

فكلما اقتربت من إنجاز يحقق مصالح فلسطينية حقيقية، خرجت أصوات الجماعة تشكك وتلوّح بالاتهامات، لأنهم يعرفون أن نجاح مصر هو إعلان فشلهم فى احتكار القضية.

إنهم يريدون أن تبقى القاهرة وسيطًا فاشلًا، وغزة معزولة، والدم يتدفق، ليظلوا هم «الممثل الشرعى للمأساة».

وفى النهاية، سيبقى السؤال الذي يخاف الإخوان أن يسمعوه:إذا كنتم حقًا تحملون همّ فلسطين، فلماذا قاتلتم أوطانكم؟ أم أنه لا طريق إلى القدس إلا عن طريق تدمير مصر كما قال قادتكم.

لقد صنعوا من القدس قِبلة سياسية يتوجّهون إليها كلما أرادوا الحصول على تعاطف الشعوب، لكنهم نسوا أن الله لا يستجيب لمن يجعل من الدعاء وسيلة للمساومة والمكسب الرخيص.