"سجن النساء".. رؤية معاصرة لـ"سجينات" فتحية العسال
هند سلامة
بقدر ما رغبت الكاتبة الراحلة «فتحية العسال» فى تسجيل ما تعرضت له من سجن واعتقال وتقييد لحرية الرأى فى زمن مضى؛ بقدر ما لفت انتباهها معاناة أكبر لنساء مهمشات ظلمهن المجتمع وقهرتهن الحاجة؛ لتتجاوز تجربتها الشخصية من قضايا الرأى والمعتقلات السياسيات إلى تجارب أخرى أرحب؛ كتبت مسرحية (سجن النساء) التى تجاوز فيها الواقع خيال المؤلف. بُنيت عقدتها الرئيسية حول كاتبة صحفية وإحدى زميلاتها تم اعتقالهما معا؛ تنتبه أن هناك ما يستحق الالتفات بالتدوين والملاحظة وتسجيل واقع مجموعة من النساء المقهورات.
لم يكن سجن «العسال» مجرد قضبان مادية نصبت كى تحوى هؤلاء وراءها بينما تعيش كلٌّ منهن فى سجنها الخاص سجن أفكارها ومعتقداتها أو المجتمع والتقاليد البالية التى جعلت امرأة تفتدى زوجها تاجر المخدرات كى تسجن بدلا منه حتى يظل يباشر أعماله وأمواله فى الخارج؛ وأخرى تخشى أن يصدق زوجها ما اتهمت به ظلما وبهتانا بعد القبض عليها فى إحدى الشقق المشبوهة؛ ثم الفتاة الصغيرة التى تعرض جسدها عارية للمارة كى يشاهدوها راقصة مقابل دفع مبلغ من المال؛ والعديد من القصص والقضايا لمجموعة من النساء ضحايا المجتمع أبرزتهن «العسال» فى مسرحيتها الأشهر.
ليقدمها اليوم المخرج الشاب «يوسف مراد منير» على خشبة مسرح السلام فى صياغة معاصرة؛ بدَّل «يوسف» شخصية الكاتبة الصحفية بـ«البلوجر» التى تسعى لجنى الأموال هى وصديقتها من خلال أحد التطبيقات وعن طريق الخطأ تسجلان على موقع مشبوه ليتم ضبطهما والقبض عليهما بتهمة ممارسة الدعارة؛ تمارس «البلوجر» دور الصحفية وتبدأ فى تدوين وسماع قضايا نساء السجن هى وصديقتها المتورطة معها فى هذه القضية؛ استعان «يوسف» بشخصيات المسرحية الأصلية مع إحداث بعض التغييرات أبرزها تبديل تهمة الاعتقال السياسى لكاتبة صحفية إلى تهمة ربما أقرب لما يشهده الواقع اليوم من تورط بعض «البلوجرز» فى مواقع مشبوهة تعرض بعضهن للسجن وهو ما حدث بالفعل مؤخرا؛ ليضفى على النص صبغة معاصرة وأكثر واقعية؛ ثم بدأ فى استعراض حياة هؤلاء المهمشات اللاتى حبسن فى قضبان أفكارهن وتعلقت مصائرهن بسيطرة وهيمنة سلطة ذكورية تسببت فى ضياع مستقبل كلٍّ منهن على حدة.
لم يتوقف العرض عند استعراض مونولوجات مأساوية لكل شخصية والتعريف بخلفيتها الاجتماعية بينما تسبب هذا الخلاف فى التقارب بينهن بالألفة والانسجام مع مرور الأيام والعشرة بدءا من السجانة «بخيتة» التى لا تمثل مجرد حارس لهذا القضبان تضع كل ضحية بين أسواره؛ بينما تعيش هى أيضا خلف قضبان أخرى جعلتها تنتمى إليهن بالتعاطف والتماهى مع قضاياهن؛ فأصبحت ليست مجرد «سجانة» بالمعنى المنفر المتعارف عليه بينما كانت أكثرهن حنانا وحميمية واقترابا وتعاطفا مع الجميع كأنهن يمثلن جزءا من ضعفها الأنثوى الذى دفعها للانتماء إليهن قبل ممارسة عملها الرسمى تجاههن؛ وتعبيرا عن هذا الانتماء جعل المخرج «بخيتة» هى الصوت الغنائى للعمل تروى بصوتها العذب أشكال المعاناة بين أسوار الحبس؛ كأنها الصوت الذى يصرخ بألمهن معلنا عن نفسه للعالم الخارجى.
خلقت أجواء الغناء ومشاهد الزار والسبوع احتفالا بالمولود الجديد مجتمعا آخر داخل السجن اختلفت خلفياته وطبقاته بينما تساوين معا فى عذوبة وإنسانية تحت وطأة ما تعرضن له من قهر وظلم؛ كما أضفى المخرج حالة أخرى من الفانتازيا تشير إلى التوحد الوجدانى بين بطلات العمل فى مشهد الراقصة الذى توقف فيه الحدث لبضع دقائق ليذهب بنا إلى عالم الكباريه يفتتح عمق المسرح وتخرج الراقصة فى مشهد مربك لسياق الحدث وخيال مشاهديه «البلوجر» وصديقتها اللاتى رأينا مشهد الرقص والغناء بين الجمهور من السجن ثم يتساءلنى فى تعجب: من تكون؟!!.. كأنه جزء من حلم شاركنها فيه عبرن معها بالزمن مع تثبيت الحدث داخل السجن؛ ثم تعود الراقصة للحدث الأصلى من عالمها الخيالى إلى الواقع مرتدية ملابس السجن فى لحظة يقظة وانهيار تستدعى حادثة جريمة قتلها لحبيبها بعد اكتشافها خيانته ثم تختفى مرددة جملتها المكررة: «حبيت اتخميت قتلت ارتحت».>







