الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الرهان المتبادل

كيف أصبحت القاهرة بوابة موسكو إلى إفريقيا

الرهان المتبادل

فى نهاية شهر يوليو من عام 2023، وفى أحد أطراف مدينة سان بطرسبرج، الروسية؛ حيث مَقر انعقاد القمة «الروسية- الإفريقية» الثانية.. سألتُ المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخروفا، فى مستهل مؤتمر صحفى لها، عن سبب الانفتاح الروسى نحو القارة الإفريقية فى هذا التوقيت؟، والذى تترجمه شواهد عديدة، من أبرزها قيام وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف بأربع جولات إلى دول إفريقيا خلال عام 2022.



وقتها تحدثت زاخروفا، بشكل مستفيض، بعيدًا عن حسابات الظرف الزمانى، المرتبط بتطورات وتداعيات الحرب «الروسية- الأوكرانية»، على إفريقيا، وفسّرت سبب ابتعاد بلادها عن قارة إفريقيا، وتحديدًا فى الفترة التى تلت الحرب الباردة وصولاً لبداية الألفية الجديدة، وقالت إن روسيا تستعيد تواجدَها مرة أخرى فى إفريقيا؛ خصوصًا أنها دعَمت دول القارة سابقًا لنَيْل استقلالها، وأرجعت فترة الابتعاد إلى قيام الحكومة الروسية بإعادة هيكلة قانونية وصياغة جديدة لمسار العلاقات مع القارة الإفريقية بما يتوافق مع قواعد القانون الدولى وأيضًا مع قدراتها ويُمَكنها من القيام بدور شريك «حقيقى ومضمون» مع إفريقيا فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية.

أذكر أننى شاركت ضمن وفود إعلامية من مختلف دول إفريقيا؛ لتغطية فعاليات حدث القمّة الثانية التى استضافتها موسكو لتعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية، وكيف تراهن على تلك العلاقة لكسر عزلتها الدبلوماسية المفروضة عليها من الغرب، وفى المقابل لم يكن المناخ الصيفى لمدينة سان بطرسبرج؛ جاذبًا للسياحة فقط وقتها، وإنما لعشرات الوفود الإفريقية، التى حضرت إلى تلك المدينة الواقعة فى شمال غرب روسيا؛ للمشاركة فى القمة بحثًا عن مَخرج يقلل من تبعات الحرب الأوكرانية على الأمن الغذائى لنسبة كبيرة من شعوب القارة الإفريقية، بتوفير مصادر آمنة ومستمرة من الحبوب.

 

 

 

كانت نقطة التوقف الرئيسية لديّ، فى قمة سان بطرسبرج، التى شارك فيها وفود من 49 دولة إفريقية، حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي، فى محادثاته الثنائية مع نظيره الروسى، فلاديمير بوتين، عن استعداد الدولة المصرية لتعزيز مختلف أوجُه التعاون الثلاثى بين البلدَيْن فى القارة الإفريقية، بما يقضى أن تكون مصر بوابة الانطلاق للشراكة «الروسية- الإفريقية»، بحكم موقعها الجغرافى وما تمتلكه من قدرات لتحقيق ذلك.

بوابة التعاون «الروسى- الإفريقى»

وبعد أقل من عامَين، حينما أرادت موسكو أن تخطو خطوة جديدة نحو الانفتاح مع إفريقيا، اختارت أن تكون من بوابة القاهرة، وذلك من خلال انعقاد ثانى مؤتمر وزارى بين روسيا ودول إفريقيا، ووفقًا لوزير الخارجية الروسى؛ فإن المؤتمر سيستعرض النتائج المرحلية لتنفيذ خطة العمل المشتركة بين الجانبين، والاستعدادات الخاصة لانعقاد القمة الثالثة فى العام المقبل 2026.

والمعنى هنا، أن الجانب الروسى، يتخذ خطوة جديدة فى سبيل تطوير علاقاته الإفريقية، من منصة القاهرة، بعد أن عقد المؤتمر الوزارى الأول فى مدينة سوتشى الروسية، فى شهر نوفمبر من العام الماضى.

وما يدعم هذا التوجه، إحصائيات التعاون المشترك بين الجانبين المصرى والروسى، ذلك أن ثلث معدل التبادل التجارى بين روسيا وإفريقيا يأتى مع مصر، بإجمالى يقارب نحو ٨ مليارات دولار، من أصل ما بين 18 إلى 20 مليار دولار مع قارة إفريقيا، فضلاً عن تنفيذ الجانب الروسى اثنين من أكبر المشروعات الاقتصادية والتنموية بمصر، وهما محطة الضبعة النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، والمنطقة الروسية الاقتصادية بقناة السويس.

لا شك أنّ هذه المسارات، تشكل مزايا تفضيلية للجانب المصرى فى سياق الشراكة الروسية مع إفريقيا، تجعلها بوابة أساسية للتعاون الروسى مع دول القارة الإفريقية، فمن خلال محطة الضبعة النووية، تقدم روسيا واحدًا من أبرز مشروعات التعاون مع دول شمال إفريقيا؛ بهدف توفير أمن الطاقة، وأحرز البَلدان تقدمًا فى تنفيذ حلم هذا المشروع، بتركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة، فى شهر نوفمبر الماضى.

وعلى غرار محطات تاريخية من التعاون بين القاهرة وموسكو، مثل مشاركة الخبراء السوفييت فى بناء السد العالى وعدد من كبرَى المصانع المصرية، يتجه البَلدان، لخطوة جديدة من التعاون الصناعى، بإنشاء منطقة صناعية فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وهو مشروع فريد من نوعه؛ حيث إن روسيا لم تقم بمثل هذه المشاريع خارج أراضيها منذ انهيار الاتحاد السوفيتى.

وتنظر موسكو، إلى المنطقة الصناعية فى قناة السويس، باعتبارها قاعدة انطلاق، لتوسيع الأعمال التجارية للشركات الروسية فى مصر والشرق الأوسط وإفريقيا؛ حيث يتيح إقامة فروع لشركات السيارات والبتروكيماويات والطاقة والدواء ومواد البناء الثقيلة.

 

 

 

روسيا وإفريقيا

وبعيدًا عن الرواية الروسية، التى تحدثت بها زاخروفا فى المؤتمر الصحفى بقمة سان بطرسبرج، حول الانفتاح فى العلاقات مع القارة الإفريقية، نستطيع أن نقول إن موسكو، قد تأكدت من مدى أهمية وحيوية علاقاتها مع دول إفريقيا، كظهير دولى آمن لها، داخل المنظمات الدولية؛ بعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة، والمواجهة مع القوى الغربية وأوروبا؛ خصوصًا مع مواقف الدول الإفريقية الداعمة لموسكو، وقت التصويت على عقوبات الأمم المتحدة عليها بعد الحرب الأوكرانية.

وهنا نذكر أن الدعم الأساسى لروسيا داخل جلسة التصويت التى عقدتها الأمم المتحدة فى 22 مارس 2022، على خلفية الصراع فى أوكرانيا، امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت على قرار يدين موسكو، ضمن 35 دولة على مستوى العالم، وغابت 9 دول إفريقية عن الجلسة، وصوتت إريتريا ضد القرار، لذلك لم يكن من المستغرب أن يتجه وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف؛ لتعزيز علاقات بلاده الدبلوماسية مع إفريقيا، بإجراء 4 جولات خلال هذا العام.

فى المقابل كانت الدول الإفريقية الأكثر تضررًا من تداعيات تلك الحرب الأوكرانية؛ خصوصًا ما يتعلق بالأزمات الاقتصادية ووقف سلاسل الإمداد وتوريد الحبوب أحد الدوافع الرئيسية للتقارب الإفريقى مع موسكو؛ خصوصًا أن 40 % من واردات القمح بالدول الإفريقية تأتى من روسيا وأوكرانيا، فقد كانت واردات القمح تمثل نحو نصف الحركة التجارية بين البِلدان الإفريقية وأوكرانيا البالغة 4.5 مليار دولار عام 2021، كما تساوى 90 فى المئة من مبادلاتها مع روسيا التى تبلغ أربعة مليارات دولار.

خارطة طريق للتعاون الثلاثى

كانت قمة «سان بطرسبرج»، ثانى منتدى يجمع الدول الإفريقية مع روسيا خلال السنوات الماضية؛ حيث كانت أول قمة فى أكتوبر 2019، فى مدينة «سوتشى» الروسية تحت شعار السلام والأمن والتنمية، ونَص الإعلان الختامى لقمة سوتشى على عَقد القمة بشكل دورى كل ثلاث سنوات، بالتناوب بين روسيا وإفريقيا، لكن حالت ظروف الحرب «الروسية- الأوكرانية» دون انعقادها فى الموعد المحدد فى أكتوبر 2023 فى أديس أبابا بإثيوبيا، لتستضيف روسيا القمة الثانية على أراضيها يومىّ 27 و28 يوليو.

وخلال قمة سوتشى الأولى وقّع القادة الروس والأفارقة خلالها أكثر من 50 وثيقة للتعاون فى مختلف المجالات، بقيمة تتجاوز 12.5 مليار دولار، كما أعلن بوتين خلالها شطب ديون بقيمة 20 مليار دولار مستحقة على الدول الإفريقية لمصلحة روسيا، فى خطوة تهدف لتخفيف أعباء الديون عن كاهل الدول الإفريقية.

ومع الأهمية التى اكتسبتها القمة الثانية فى سان بطرسبرج، ترقبت الأنظار حجم المشاركة فيها؛ حيث شاركت 49 دولة إفريقية بوفود رفيعة المستوى، بينها 17 رئيس دولة إفريقية، وهى مشاركة اعتبرتها روسيا نجاحًا دبلوماسيًا، وسط ضغوط غربية مورست على بعض دول إفريقيا لعدم المشاركة.

 

 

 

غير أن هذه القمة، وضعت خارطة طريق لتعميق التعاون «الروسى- الإفريقى»، وفقًا لمبدأ «الشراكة المتساوية» تحقق المصلحة للجميع؛ حيث صاغت خطة عمل مشتركة حتى عام 2026، تستهدف زيادة التبادل التجارى وتعزيز التعامل بالعملات المحلية، وإجمالاً كان أهم ما خرج من قمة سان بطرسبرج، النقاط التالية:

1 - التعاون السياسى: من خلال دعم مشاركة إفريقيا فى المحافل الدولية؛ خصوصًا فى مجموعة العشرين وفى تجمُّع بريكس، وبالفعل كانت موسكو داعمة لعضوية الاتحاد الإفريقى مجموعة العشرين، وفى عضوية دول إفريقية فى تجمُّع بريكس، وفى مقدمتها مصر.

2 - زيادة التعاون التجارى بين روسيا وإفريقيا نوعًا وكمًا، فضلاً عن استخدام العملات الوطنية فى المعاملات التجارية.

3 - تصدير الحبوب مجانًا: وهو ما وعد به بوتين باستمرار إمداد الدول الإفريقية بالحبوب سواء على أساس تجارى أو مجانى، وقال إن بلاده ستقدم الحبوب مجانًا لـ6 دول إفريقية خلال 3 أو 4 أشهر، وذلك بتوفير 50 ألف طن من الحبوب مجانًا إلى بوركينا فاسو وزيمبابوى ومالى والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا.

4 - تخفيف الديون وبرنامج مساعدات مالية، تقدّر بنحو 90 مليون دولار إضافية للدول الإفريقية لتخفيف الديون، وكشف بوتين وقتها عن شطب نحو 23 مليار دولار من الديون الإفريقية على روسيا، كما أشار إلى أن بلاده ستقدم 1.5 مليار روبل مساعدة للدول الإفريقية لمحاربة الأوبئة، ودعم أنظمتها الصحية.

5 - تقدم الدعم فى الحرب على الإرهاب: من خلال تأسيس آلية تنسيقية «روسية- إفريقية» فى مجال مكافحة الإرهاب، ودعم الدول الإفريقية فى مجال الأمن، وتزويد إفريقيا ببعض الأسلحة مجانًا لتعزيز الأمن فى القارة والعمل بشكل أوثق مع أجهزة إنفاذ القانون والمخابرات الإفريقية.

تحديات الوجود الروسى

المتابع والمدقق للتحرك الروسى، نحو القارة الإفريقية، يجد أنه قائم على رؤية جديدة تمت صياغتها بعد دراسة تفصيلية لواقع التنافس والتواجد الدولى بالقارة الإفريقية وتحدياته؛ خصوصًا نقاط الضعف والتحدى أمام تواجُد القوى الغربية فى القارة.. هذه الرؤية تتناول عددًا من النقاط المهمة، أبرزها التأكيد على الميراث التاريخى لروسيا فى دعم استقلال الدول الإفريقية، وأنها لم تكن دولة مستعمرة يومًا ما، فضلاً عن تغليب المصالح الاقتصادية والتجارية فى العلاقات والشراكة، وهو ما يعكس نأى الجانب الروسى بنفسه عن التدخل فى الصراعات القائمة ببعض الدول الإفريقية.

ورغم ذلك لا يمكن النظر إلى مستوى الشراكة «الروسية- الإفريقية» الحالية، باعتبارها فرصة للانفتاح الروسى الشامل فى الساحة الإفريقية، وإنما هناك تحديات أمام هذا التحرك يقتضى وضعها فى الحسبان، وأهمها ما يلى:

1 - ضعف التبادل التجارى الروسى وقدراته، ذلك أن هناك دولاً لديها قدرات تنافسية عالية فى الشراكة التجارية مع إفريقيا، وعلى رأسها الصين التى تعد الشريك التجارى الأول مع إفريقيا بنحو 200 مليار دولار، وأيضًا الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، فى حين أن معدلات التبادل مع روسيا تصل وفق أعلى تقدير إلى 20 مليار دولار، وهو ما يفرض تحديات أمام حركة التجارة الروسية، فى ظل تنافسية عالية من الدول الكبرى الأخرى.

2 - ازدواجية المواقف الروسية، تجاه عدد من القضايا الخلافية فى إفريقيا؛ خصوصًا أنها تنتهج سياسة براجماتية، وهو ما يظهر تباين الموقف الروسى فى بعض الأحيان مثل موقفها فى قضية سد النهضة فى الوقت الذى تبرم فيه اتفاق شراكة استراتيجية مع مصر.

3 - ضعف التمثيل الدبلوماسى الروسى فى الساحة الإفريقية، بالمقارنة بفاعِلين دوليين آخرين؛ حيث أغلقت روسيا 12 سفارة لها فى إفريقيا بعد الحرب الباردة ونحو 13 مركزًا ثقافيًا، وإن كانت أعادت فتح بعض السفارات إلاّ أنها لا تزال تحتاج للتوسع فى التمثيل الدبلوماسى بمختلف مناطق القارة.

4 - تحدى البُعد الجغرافى، وهو أمر أشارت إليه، المتحدثة باسم الخارجية الروسية زاخروفا، حينما أشارت إلى أن العامل الجغرافى من التحديات التى تعوق الشراكة «الروسية- الإفريقية» على عكس قرب العامل الجغرافى بين إفريقيا وغالبية الدول الأوروبية، وربما يفسّر هذا حالة البطء التى تنتاب تنفيذ بعض من المشروعات الروسية المتفق عليها مع بعض الدول الإفريقية.

والخلاصة؛ فإن أهمية انعقاد مؤتمر القاهرة الوزارى للتعاون الروسى- الإفريقى، ليس فقط فى توقيت انعقاده، وإنما فيما يشكله من نقطة تحوُّل جديدة فى مسار تعميق موسكو لشراكتها مع القارة الإفريقية، بما يمكنها من تجاوز كم التحديات التى تقف حجر عثرة أمام تعزيز هذا التعاون، فضلاً عن كسر عزلتها الدبلوماسية دوليًا، فهو باختصار رهان متبادل من الطرفين لتحقيق «شراكة متساوية» تحقق المصلحة للجميع.