الأحد 27 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رحلة التثقيف الذاتى لقائد ثورة 23 يوليو

رحلة التثقيف الذاتى لقائد ثورة 23 يوليو

لا يزال أرشيف منشية البكرى، الذى يحوى الغالبية العظمى من وثائق «جمال عبدالناصر»، يحتفظ بالكثير من الأوامر التى كان يصدرها عبدالناصر، منذ تولى السلطة لمساعديه، بترجمة أو تلخيص مؤلفات ودراسات ومراجع عديدة. ولا تزال الأوراق التى كان يعرضها عليه مديرو مكتبه تحوى الكثير من الرسائل التى وردت إليه، من علماء ومفكرين تناقشه فى فكرة معينة أو تشرح له إشكالية نظرية بعينها. ولا تزال خطوطه وملاحظاته التى سجلها على ملخصات أمهات الكتب أو هوامش هذا النوع من الرسائل موجودة كما كتبها.



ولا يزال رفاق عبدالناصر ومعاصروه يتذكرون التوجهات التى أصدرها لهم «الزعيم» بضرورة الاطلاع على كتاب بعينه، مع مداعبة رقيقة تحمل فى طياتها كثير ًا من الجديْة بأنه سوف يناقشهم فيما ورد بين دفتى الكتاب..».

وكان الوزراء يبدون استغرابهم من هذه الظاهرة الغريبة، فلقد أنهوا دراساتهم بالجامعة منذ زمن بعيد، وكثير منهم حصلوا على شهادة الدكتوراه، بل على الأستاذية، وبعضهم عمل بالجامعات المصرية، وما كان يخطر ببالهم أنهم عُينوا وزراء ليعودوا مرة ثانية إلى مقاعد الدرس، ليطالعوا الكتب والمراجع والترجمات والملخصات التى كان يوزعها عليهم رئيس الجمهورية.

كانت بعض الدراسات تتناول تاريخ مصر الحديث، وتاريخ قناة السويس، وتاريخ الوطن العربى، وكان البعض الآخر يتناول تاريخ حزب العمال البريطانى، وتاريخ الاشتراكية، ومن ذلك أيضًا أحدث ما كتب عن الأيديولوجيات المعاصرة كالوجودية والماركسية والبرجماتية وغيرها.

لكن حالة الاستغراب التى كانت تنتاب الوزراء والمسئولين سرعان ما كانت تزول عندما يرون أعضاء مجلس قيادة الثورة ورفاق عبدالناصر القدامى يتقبلون الأمر ببساطة لأن الظاهرة لم تكن جديدة بالنسبة لهم، فقد تعودوا على ذلك منذ مرحلة ما قبل الثورة عندما كان جمال عبدالناصر رئيسًا للهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار.

لقد كان من صفات «عبدالناصر»، أنه كان قارئًا نهمـــًا ودارســـًا متميزًا، يُعده البعض بحق النموذج الفريد لرئيس الدولة الذى أكمل تعليمه وتثقيفه وهو فى السلطة، رغم أن السلطة من شأنها أن تُغنيه عن ذلك، لأنه يستطيع أن يستأجر من يشاء من المثقفين والمتعلمين، أما عبدالناصر فكانت رغبته الشديدة فى أن يعرف بنفسه كل شىء، خطًا مستمرًا فى حياته تتعدد أشكاله وصوره، وكانت قدرته على القراءة فائقة، وقدرته على الاستيعاب والتذكر بنفس المستوى.

وكانت دعوات المصلحين المحدثين من أمثال «جمال الدين الأفغاني» ومحمد عبده» فضلًا عن سيرة «سعد زغلول» قد ألهبت حماسته الوطنية، وبثت فى روحه حب الوطن والتطلع إلى الأعمال العظيمة. ولا يوجد ما يمنع كما يقول «فوشيه» من أن تكون ذكرى عظماء سلاطين المماليك الذين تواجه مساجدهم مدرسة «النحاسين الابتدائية» قد علقت فى هامش شعوره، ولا يوجد ما يمنع أيضًا من أن صور بؤس الفلاحين وذلهم فى قريته «بنــــى مر» قد علقت هى الأخرى بشعوره.

ومع ذلك كانت رغبته فى المعرفة تدفعه دفعًا إلى مزيد من الدراسة، ومرة ثانية يُجمع أساتذته ورفاقه فى الكلية الحربية على أنه لم يكن يشاهَد إلا وفى يده كتاب، وإنه كان يطلب من رفاقه قراءة كتب معينة ليناقشهم فيها.

ومن المقطوع به أن قراءاته فى الكلية الحربية كانت أكثر أثرًا فــــى نفسه لسببين: الأول: أنه بات أكثر نضجًا، والثانى: أنه انفتح على القراءة باللغة الإنجليزية، فهل تغيرت اهتمامات «عبدالناصر»؟ وهل اختلفت موضوعات الكتب والدراسات التى اطلع عليها فى الكلية الحربية؟

فى الحقيقة لم تختلف كثيرًا، ولكنها تعددت وتنوعت، فبالإضافة إلى الكتب الدراسية المقررة فى الكلية الحربية، عاد «جمال عبدالناصر» بــــين عامى 1937-1938 إلى مطالعة الكتب التى تناولت سير العظماء وكبار القادة العسكريين وكبار رجال السياسة، نفس من قرأ لهم وعنهم من قبل.

تجدر الإشارة - قبل رصد مجموعة الدراسات والكتابات التى درسها جمال عبدالناصر فى الكلية الحربية - إلى أنه قبل دخوله الكلية الحربية فى شهر مارس عام 1937، شارك فى المظاهرات الطلابية، التى جمعت بين طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعة، وأن مشاركته فى هذه المظاهرات وقيادته لبعضها، مثّلت هى الأخرى مصدرًا مهمًا من مصادر تكوينه، فبالإضافة إلى الممارسة السياسية فإن أذنه التقطت الكثير من الشعارات السياسية والمقولات التى كانت تتردد فى الشارع السياسى المصرى آنذاك، كما أنه اتصل بنفسه بالأحزاب المصرية المختلفة واحتكّ بفكرها - وكما سنرى - تأثر بطروحات «مصر» «الفتاة» و«الحزب الوطنى» و«جماعة الإخوان المسلمين» و«منظمات اليسار المصرى» وغيرها،  إلا أنه وكما يتضح من رسائله إلى صديقه «حسن النشار» لم يكن قد انتهى من إعداد نفسه، والاستقرار على برنامج سياسى محدد، كان تائهًا فى عالم السياسة المضطرب، يروح ويغدو ويزور مراكز الأحزاب السياسية أملًا منه فى أن يجد من بينها حزبًا يستجيب لأهدافه.

وظل الأمر كذلك إلى أن حصل على البكالوريا، وعندما دخل الكلية الحربية يوم 17 مارس 1937، كان قد بات مسيسًا يتحرق شوقًا للكفاح فى سبيل تحقيق الاستقلال لبلاده، وكانت قراءاته فى المرحلة الثانوية عن سير العظماء وقادة الفتوح الإسلامية، ومؤسسى الإمبراطوريات العظيمة «كالإسكندر الأكبر المقدونى» و«يوليوس قيصر» و«نابليون» وكذا دراسته باللغة العربية.

عاد يقرأ لهم باللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى قراءة سير لشخصيات جديدة لم يكن قد قرأ عنها مثل «جاريبالدى» و«بسمارك» و«هندنبرج» و«ونستون تشرشل» و«جوردون» و«فوش» و«لورنس» و«مصطفى كمال أتاتورك» وغيرهم.

لكن لماذا هذا الاهتمام بسير العظماء، وبما تركوه من أعمال؟! يبدو أنه كان يبحث عن إجابة لسؤال أثار فضوله حول ما فعله هؤلاء حتى تمكنوا من فرض إرادتهم وتغيير مجرى التاريخ وفقًا لرؤاهم أو عقائدهم ولصالح بلدانهم أو حتى وفقًا لأهوائهم ومطامعهم الشخصية.

وبالإضافة إلى سير العظماء وكبار القادة العسكريين يمكن تقسيم القضايا التى اهتم بدراستها «جمال عبدالناصر» فى هذه المرحلة إلى ما يأتى:

1 - المؤلفات التى تناولت الحملات العسكرية والحروب والمواقع الحربية الشهيرة كتلك التى تناولت، حروب «نابليون بونابرت» فى أوروبا وحملته على مصر سنة 1798، وكذا حملة فلسطين، وحملة «جوردون» على الخرطوم، والمؤلفات التى تناولت موقعة «المارن» و«واترلو» ومعارك الحرب العالمية الأولى.

2 - المؤلفات التى تناولت تاريخ الثورات كتلك التى تناولت تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ الثورة الاشتراكية، وكذا تاريخ ثورة 1919 فى مصر، والمؤلفات التى عالجت تاريخ العرب الحديث والمعاصر، سواء فى دول المشرق أم فى المغرب.

3 - المؤلفات التى تناولت الاستراتيجية من ذلك التى عالجت الاستراتيجية الألمانية فى الحرب العالمية الأولى، والاستراتيجية الإنجليزية.

4 - المؤلفات التى عالجت المشكلات الدولية، خاصة مشكلات الدول المطلة على البحر المتوسط.

5 -  المؤلفات الجغرافية، خاصة التى اهتمت بالجغرافيا السياسية والعسكرية وجغرافية دول حوض البحر المتوسط.

واللافت للنظر ونحن نتتبع رحلة التثقيف الذاتى «لجمال عبــدالناصر» أنه استغل السنوات الثلاث التى قضاها فى الكلية الحربية، بعد أن عين مدرسًا بها 1943 - 1946، فى قراءة ما استجد من كتب فى مكتبة الكلية.

واللافت للنظر كذلك أنه عاد خلال هذه الفترة إلى دراسة الكثير من الكتب التى قرأها أيام كان طالبًا بالكلية، لكن من بين الكتــب الجديدة، كتاب حول اليابان وأسرار قوتها، وآخر حـــــول تـــألق نجــــم نابليون بونابرت، وكتاب «كونارد» «هايدن» حول سيرة هتلر وحياته، وكتاب حول الحملة البريطانية على مصر التى انتهت باحتلالها سنة 1882، وآخر حول اللنبى فى مصر، وكذا كتب «ليدل هارت» الثلاثة حول الحروب الحاسمة فى التاريخ، ومؤلف «العالم تحت السلاح والحرب فى سبيل السلطة العالمية»، و«الحرب الخفيفة»، و«الحرب بغيــــر مدافع»، و«الحرب فى الجو ومبادئ الحرب»، و«حرب الغد الآلية»، وكتاب اللورد كرومر حول مصر الحديثة. وكتاب «أرنولد ويلسون» حول قناة السويس، و«أرنولد» «سيجفرد» حول السويس وبنما.

وعلى أية حال، فإن هذه المؤلفات زودت هى الأخرى «جمال عبدالناصر» بمعارف كثيرة جديدة، وغذّت روحه هى الأخرى بقيم وخبرات كثيرة، وأجابت عن الكثير من الأسئلة التى كانت تدور فى ذهنه فى مرحلة الفوران، مرحلة المظاهرات أقصد المرحلة الثانوية.

ولا نبالغ إذا قلنا إنها ساعدته على رسم خطواته المستقبلية، حيث تأكد اقتناعه الذى توصل إليه فى سبتمبر 1935، بأن القوة هى التى تنقص الشباب الوطنى، ليتمكنوا من القضاء على الاستعمار، ولعل هذا يفسر قيامه فيما بعد بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار.