من جزيرة شبه منسية لمنطقة نفوذ استراتيجية «جرينلاند» مــن منظور «ترامب»

آلاء شوقى
لم يهدأ العالم للحظات منذ اليوم الأول لتولى الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فترة ولايته الثانية للرئاسة الأمريكية؛ إذ لا يمر يوم واحد دون أحداث دراماتيكية فى عدد من المناطق حول العالم، وتتعالى صيحات التصريحات التى تندد باسمه أو تحذر من قراراته.. كانت إحدى القضايا التى يثير «ترامب» حولها الجدل، هى «جرينلاند»، تلك الجزيرة التى كانت منسية لعقود طويلة، لتظهر -فجأة- على الساحة الدولية كمنقطة تنافس ونفوذ.
باختصار.. بدأ اسم «جرينلاند» يتصدر عناوين الأخبار والصحف العالمية، منذ فوز «ترامب» بانتخابات الرئاسة الأمريكية التى أجريت فى نوفمبر الماضى؛ إذ أعرب الرئيس الأمريكى -مرارًا- عن تطلعه إلى السيطرة على «جرينلاند»، وضمها إلى «الولايات المتحدة».
وكان أحدث تصريحات «ترامب» فى هذا الصدد، هو ما قاله يوم الأربعاء الماضى قبيل زيارة مثيرة للجدل لنائبه «جىِ دى فانس» إلى الجزيرة الدنماركية، إذ أكد الرئيس الأمريكى أن بلاده فى حاجة إلى الجزيرة، من أجل -ما وصفه- بضمان الأمن الدولى.
وقال «ترامب»: «نحتاج إلى «جرينلاند»، من أجل الأمن والسلامة الدوليين، ولا بد من أن نحصل عليها».
جاء ذلك، بعد أيام من تصريح آخر لترامب، أشار فيه إلى حاجة بلاده إلى «جرينلاند» لأغراض الأمن القومي؛ مؤكدًا استعداده لإرسال قوات أمريكية للسيطرة على الجزيرة.
زيارة غير مرحب بها
يزور وفد أمريكى رفيع المستوى جزيرة «جرينلاند» بحجة تفقد قاعدة عسكرية أمريكية؛ إذ قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى «برايان هيوز»، إن الفريق الأمريكى واثق من أن هذه الزيارة تُمثل فرصة لبناء شراكات تحترم حق «جرينلاند» فى تقرير مصيرها، وتعزز التعاون الاقتصادى.
من جانبهم، ندد المسئولون فى «الدنمارك»، و «جرينلاند» بهذه الزيارة؛ إذ وصف رئيس وزراء «جرينلاند»، «موت إيجيدي»، زيارة الوفد الأمريكى بأنها «عدوانية للغاية»؛ منددًا بما وصفه (بالتدخل الخارجي) المتمثل فى الزيارة إلى الجزيرة الدنماركية ذات الحكم الذاتى.
كما وصفت رئيسة الوزراء الدنماركية «مته فريدريكسون» زيارة الوفد الأمريكى بأنها (ضغط غير مقبول)، وتعهدت بالمقاومة.
وقال زعيم حزب «ديموكراتيت» والمرشح لمنصب رئيس الوزراء القادم للبلاد «ينس فريدريك نيلسن»، إن الزيارة أظهرت عدم احترام لشعب «جرينلاند».
أهمية «جرينلاند» لترامب
يواصل الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» الضغط، من أجل استحواذ «الولايات المتحدة» على «جرينلاند»، وهى إقليم شبه مستقل تابع لمملكة «الدنمارك»، وأكبر جزيرة فى العالم. وينبع اهتمام «ترامب» المتجدد من المزايا الاقتصادية والاستراتيجية، التى تتمتع بها هذه المنطقة القطبية الشمالية.
ولكن، قبل معرفة مزايا تلك الجزيرة، من الضرورى الإشارة إلى أنها تُعتبر إقليمًا دنماركيًا منذ أكثر من 300 عام، ولكن «الدنمارك» لم تمنح الجزيرة ذات الكثافة السكانية المنخفضة حكمًا ذاتيًا إلا عام 1979. وفى عام 2009، أصدرت «الدنمارك» قانون الحكم الذاتى لجرينلاند، مما وسّع بشكل كبير سلطة الجزيرة على شئونها الداخلية، بما فى ذلك: الشرطة، والمحاكم، وخفر السواحل؛ إلا أن «الدنمارك» لا تزال تسيطر على الشئون الخارجية، والسياسة الدفاعية، والسياسة النقدية لجرينلاند.
فى السنوات الأخيرة، شهدت «جرينلاند» حركة استقلال متنامية. وبموجب قانون الحكم الذاتى، يمكن للجزيرة الحصول على استقلالها عبر استفتاء بموافقة البرلمان الدنماركى. وفى عام 2023، كشفت «جرينلاند» عن مسودة دستورها الأولى، والتى دعت إلى إنشاء جمهورية جرينلاندية، والاستقلال عن «الدنمارك»، والاعتراف بتراث شعب (الإنويت) الأصليين فى الجزيرة.
وباعتبارها جزءًا من «الدنمارك» -العضو المؤسس فى حلف شمال الأطلسى (الناتو)- تخضع «جرينلاند» للضمانات الأمنية للحلف. ومع ذلك، فهى ليست عضوًا فى «الاتحاد الأوروبي»، أو السوق الأوروبية الموحدة، رغم كونها دولةً وإقليمًا تابعًا للاتحاد الأوروبى.
على كل، تعود أهمية «جرينلاند» -التى تبلغ مساحتها أكثر من 2,166 كيلومترًا مربعًا، أى أكثر بقليل من ثلاثة أضعاف مساحة ولاية «تكساس» الأمريكية- إلى عدة عوامل جغرافية واقتصادية.
فالأهمية الأولى، هى الموقع الجغرافى للجزيرة، التى يغطيها ثانى أكبر غطاء جليدى فى العالم بعد القارة القطبية الجنوبية؛ إذ تقع بين «أوروبا»، و«أمريكا الشمالية»، وبالقرب من المحيط المتجمد الشمالى، والمحيط الأطلسى الشمالى، ما يجعلها ذات أهمية استراتيجية للأغراض العسكرية والدفاعية، لا سيما فى رصد النشاط العسكرى الصينى والروسى المتزايد فى المنطقة.
ورغم امتلاك «الولايات المتحدة» -بالفعل- قاعدة عسكرية فى «جرينلاند»، فإن السيطرة الكاملة على الجزيرة قد تُمكّن «واشنطن» من توسيع نفوذها فى العمليات الجوية والبحرية فى القطب الشمالى، وكذلك فى الفضاء.
وفى هذا الصدد، قالت مديرة معهد «بولار»، التابع لمركز ويلسون «ريبيكا بينكوس»، إنه: «تتزايد أهمية «جرينلاند»، فى ظل المنافسة العالمية مع «الصين»، وثورة تكنولوجية جديدة فى مجال الحروب.. لذا، تُعد «جرينلاند» مهمة من منظور الدفاع الصاروخى، ومن منظور الفضاء، ومن منظور المنافسة العالمية».
أما الأهمية الثانية للجزيرة فهى مزاياها الاقتصادية للاستحواذ على «جرينلاند»، ومن أهمها المعادن الأرضية النادرة فى الجزيرة، وعلى رأسها (الليثيوم)، وهو معدن أساسى للسيارات الكهربائية والبطاريات.
كما يُعتقد أن «جرينلاند» تمتلك احتياطيات هائلة غير مستغلة من النفط والغاز؛ حيث قدرت هيئة المسح الجيولوجى الأمريكية عام 2008 الكمية بنحو 31 مليار برميل من المكافئ النفطى (BOE)، وهى كمية الطاقة الموجودة فى برميل واحد من النفط الخام.
أما الأهمية الثالثة لجرينلاند، فهى الغطاء الجليدى للجزيرة، الذى يغطى نحو 80 % من الجزيرة ذوبانًا متسارعًا، بسبب الاحترار العالمى والتغير المناخى، مما قد يفتح ممرات مائية جديدة فى منطقة القطب الشمالى، ويجعل طرق التجارة فى القطب الشمالى أكثر ملاءمة للملاحة، وفتح طرق تجارية أقصر وأسرع بين «آسيا، وأوروبا، وأمريكا الشمالية»، مما يجعل «جرينلاند» مركزًا بحريًا دوليًا.
هل تتمكن إدارة «ترامب» من الاستحواذ على «جرينلاند»؟
أفاد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بأنه يمكن للولايات المتحدة الاستحواذ قانونيًا على «جرينلاند» بموافقة الحكومة الدنماركية، وهو ما يتوقف -أيضًا- على موافقة برلمان «جرينلاند» الذى يتمتع بالحكم الذاتي؛ مستدلة بقيام «الولايات المتحدة» بشراء «ألاسكا» من «روسيا» عام 1867.
كما يرى بعض الخبراء أن «واشنطن» قد تسعى -أيضًا- إلى إبرام اتفاقية ارتباط حر مع «جرينلاند»، تُرسى علاقة يتمتع فيها الإقليم بالحكم الذاتى مع الحفاظ على ارتباطها الوثيق بالولايات المتحدة من حيث المساعدة الاقتصادية والدفاع.
إلا أن الذى يواجه الإدارة الأمريكية مختلف، إذ أكد رئيس وزراء «جرينلاند» القادم على سيادة الجزيرة؛ وقال إن: «الجزيرة ترغب فى مواصلة مسيرتها نحو الاستقلال». من جانبهم، أكد القادة الدنماركيون أن «جرينلاند» (ليست للبيع).
وعليه، هدد «ترامب» -فى هذا السياق- بفرض رسوم جمركية على «الدنمارك» إذا لم تتنازل عن «جرينلاند» أو تبيعها، انطلاقًا من يقينه بأن «الولايات المتحدة» تعد أكبر سوق تصدير غير أوروبية للدنمارك.
جدير بالذكر، أن «الولايات المتحدة» احتلت «جرينلاند» -فعليًا- أثناء الحرب العالمية الثانية، وبنت سلسلة من القواعد الجوية والبحرية. وبعد الحرب، عرضت حكومة الرئيس الأمريكى الراحل «هارى ترومان» شراء الجزيرة، نظرًا -لما وصفه- بالأهمية القصوى لجرينلاند للدفاع عن «الولايات المتحدة»، إلا أن «الدنمارك» رفضت الاقتراح، لكنها وقعت -فى الوقت ذاته- اتفاقية قاعدة طويلة الأمد.
دور القوى العالمية الأخرى حول «جرينلاند»
تمتلك ثمانى دول، من بينها «الولايات المتحدة»، أراضي فى القطب الشمالى. كما تفتخر روسيا بأكبر حضور إقليمى فى منطقة القطب الشمالى، حيث تُشكل حدودها أكثر من 50 % من ساحله.
وفى السنوات الأخيرة، ازداد النشاط العسكرى الروسى فى المنطقة؛ فيما عززت «الصين» -أيضًا- حضورها الإقليمى، واصفةً نفسها بـ(دولة قريبة من القطب الشمالي)، وسعت إلى تعزيز دورها الاقتصادى والعسكرى هناك.
فعلى سبيل المثال، تمتلك «الصين» أربع سفن كاسحة للجليد -مقارنةً بنحو 40 سفينة لدى «روسيا»، وسفينة واحدة لدى «الولايات المتحدة»- وسعت إلى الوصول إلى الموارد الطبيعية فى المنطقة، وإنشاء طرق تجارية جديدة.
وفى خطاب ألقاه عام 2014، أعلن الرئيس الصينى «شى جين بينج» رغبة بلاده فى أن تصبح ما يُسمى بالقوة القطبية. وفى عام 2024، أرسلت الصين ثلاث كاسحات جليد إلى مياه القطب الشمالى لأول مرة.
كما أجرت «الصين، وروسيا» معًا مناورات عسكرية مشتركة فى القطب الشمالى، مما أثار قلق المسئولين الأمريكيين.
من جانبها، اتخذت «كندا» -الدولة القطبية الشمالية الأقرب إلى «جرينلاند»- خطواتٍ لتعزيز الأمن والدفاع فى القطب الشمالى. ففى السنوات الأخيرة، نشرت «أوتاوا» إطار عملها المتعلق بسياسة القطب الشمالى، والذى وضع رؤيةً لأنشطة «كندا» واستثماراتها فى المنطقة، وأصدرت خطةً لتحديث قيادة الدفاع الجوى الفضائى لأمريكا الشمالية (NORAD)، من أجل تعزيز القدرات الدفاعية لأمريكا الشمالية فى مواجهة التهديدات الإقليمية الناشئة.
وفى وقتٍ سابق من هذا العام، أجرت القوات العسكرية الأمريكية والكندية مناوراتٍ مشتركة فى «جرينلاند» كجزءٍ من عملية دفاع جوى.
ومؤخرًا، أكملت «كندا» مناورةً عسكريةً بحريةً سنويةً فى القطب الشمالى إلى جانب العديد من الحلفاء، بما فى ذلك: «الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة»، بهدف تعزيز القدرات الدفاعية الإقليمية لكندا.
فى النهاية، يبدو من الوضع الجغرافى لجرينلاند التى تتوسط عدة دول ومناطق وبحار، وما تحويه من معادن نادرة فارقة فى الصناعات الحديثة والمعدات العسكرية، أنها ستكون محور تنافس دولى بين القوى العظمى.. ولكن يبقى السؤال، هل تبقى الكلمة لـ«جرينلاند».. أم تفرض الضغوط الدولية أوضاعًا أخرى؟