الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فنون العالم الآخر!

فنون العالم الآخر!

قام المصريون القدماء بتشييد مقابرهم الجميلة والعديدة؛ رغبة منهم فى تحقيق البعث والخلود فى العالم الآخر بعد الموت فى الحياة الأولى، وأملًا فى عيش حياة خالدة فى الحياة الثانية. 



 

مهمة بناء وتزيين المقابر قام بها العمال والفنانون المهرة؛ إذ كان دورُهم الأساسى  ينقسم إلى قسمين: القسم الأول هو بناء المقبرة، والقسم الثانى هو تزيين المقبرة بالنقوش والرسوم الملونة.

 

اعتمد بناء المقبرة فى مصر القديمة على عدد من العوامل الضرورية، وكان من بين أهمها جغرافية وجيولوجية الجبّانة التى سوف يتم فيها بناء المقبرة، ودرجة صاحب المقبرة فى المجتمع وكذلك مدى الثراء الذى كان يتمتع به، وكذلك الوقت المخصص للانتهاء من بناء المقبرة وتزيينها فى حياة صاحبها. وعكست المناظر المصورة داخل المقبرة درجة صاحب المقبرة فى المجتمع ومدى ثرائه، وكذلك الذوق الفنى لصاحب المقبرة أو صاحبتها، وكذلك أوضحت مهارة فريق العمل من العمال والفنانين الذين قاموا بالعمل فى بناء المقبرة وتزيينها.

 

 

 

استخدم العمال المصريون القدماء عددًا من التقنيات فى بناء المقابر المصرية القديمة، كان من بينها البناء بالطوب اللبن والبناء بالحجر والبناء بالكامل داخل الصخر الطبيعى للجبانة، وقد تم بناء المقابر المصرية القديمة ببعض هذه الطرُق منفردة أو ببعض منها مع البعض الآخر. وكذلك اشتمل تزيين المقابر من الداخل على عدد من الطرُق التى تنوعت بين النقش بنوعَيه البارز والغائر والرسم والتلوين على أسطح المقابر. 

 

وتتكون عمومًا المقابر المصرية القديمة من جزأين أساسين فى بنائها، وهما: البناء العلوى وكان يضم مكان تقديم القرابين، والبناء السفلى وكان يضم حجرة الدفن. وتم استخدام نوعين فى بناء المقابر، وهما: النوع الأول وهو البناء المستقل بذاته مثل المصاطب والأهرامات والمقابر على شكل معابد، وعادة كان يمكن بناء كل هذه المقابر من الطوب اللبن أو من الحجر، وكان النوع الثانى هو البناء فى الصخر أو المقابر الصخرية التى تم نقرها فى الصخر الطبيعى للجبّانة. وكان هذا النوع من المقابر يتكون عادة من سلسلة من الحجرات المنحوتة فى عمق الصخر وكان يوجد مدخلها عادة على واجهة صخر الجبل. ومعظم أبنية المقابر السلفية عادة منحوتة فى الصخر وتشتمل على آبار مقطوعة لأسفل فى الصخر وتفتح فى حجرة أو حجرات، أو سلم وممرات تقود إلى الحجرات الأساسية. ويعد أيضًا من الصعب تحديد مدى الزمن الذى تم فيه بناء المقابر وتزيينها. وحدّد بناء وتزيين المقبرة وعدد العمال الذين عملوا فيها الوقت الذى كان يمكن أن ينتهى فيه بناء وتزيين المقبرة. وتأتى أغلب معلوماتنا عن بناء وتزيين المقابر من المقابر الملكيّة فى مصر القديمة. وكان أسبوع العمل فى مصر القديمة يتكون من ثمانية أيام عملًا ويومين إجازة أسبوعية؛ إذ كان الأسبوع مكونًا من عشرة أيام فى مصر القديمة والشهر من ثلاثين يومًا. وكان العمال يعملون الأيام الثمانية لمدة ثمانى ساعات فى اليوم، إلّا إذا اقتضى الأمر زيادة ساعات العمل عن ذلك العدد لإنهاء العمل فى المقبرة بشكل سريع.        

 



 

كان بناء المقبرة الملكية يبدأ عند تولى الملك عرش مصر. وعلى سبيل المثال، قال هيرودوت إن بناء الهرم الأكبر بالجيزة استغرق نحو عشرين عامًا وعشرة أعوام للطريق الصاعد، على عكس الحقيقة التى أوضحتها لنا برديات وادى الجرف حديثًا. وفى عصر الدولة الحديثة، ونظرًا لتولى بعض الملوك الحُكم وهم كبار فى السّن، فقد كانوا يزيدون من عدد العمال العاملين فى مقابرهم حتى يتم الانتهاء من العمل بها فى أسرع وقت ممكن. فعلى سبيل المثال، قام الملك رمسيس الرابع بزيادة عدد العمال العاملين فى مقبرته من ستين عاملًا إلى الضعف إلى مائة وعشرين عاملًا، وكذلك قام بتقليل تصميم مقبرته.

 

وبناءً عليه؛ فقد تم الانتهاء من مقبرته بشكل أساسى وضرورى عندما مات الملك رمسيس الرابع بعد أن حَكم مصر لمدة ست سنوات فقط بعد أبيه الملك رمسيس الثالث، آخر فراعنة الدولة الحديثة العظام، الذى حَكم مصر فترة طويلة تبلغ نحو اثنين وثلاثين عامًا بعد أن تم اغتياله فى نهاية حياته، ولولا اغتياله لعمّر فى حُكم مصر أكثر من تلك المدة. وفى المقابل، نجد عددًا من الملوك الذين قاموا باتخاذ مقابر غير منتهية تخص سابقيهم، وكانت على وشك الاكتمال، فقاموا بتزيينها على أفضل ما يكون.

 

ومن بين هؤلاء الملوك نذكر الملك آى والملك رمسيس السادس. وعلى العكس تمامًا كان الملك سيتى الأول الذى كان العَقد الذى حَكم فيه مصر كافيًا كى يتم الانتهاء من بناء وتزيين مقبرته، المقبرة 17 فى مقابر وادى الملوك، كما يحب أن تكون، غير أنه تم ترك حجرة واحدة غير مزينة فى مقبرته، وتم تنفيذها بالخطوط فقط. وفى مقبرة الملك رمسيس التاسع، يمكننا أن نرى كيف تغيرت جودة الزخرفة فى المقبرة بشكل ما، ما جعل الفنانين يسرعون فى الانتهاء من العمل فى مقبرته بأقصى سرعة ممكنة. 

 

كان بناء المقابر عملًا عظيمًا.. وكان يتطلب إدارة كبيرة ومعقدة للغاية فى مصر القديمة. وتأتى معلوماتنا عن ذلك الأمر من آثار العمال الذين قاموا ببناء تلك المقابر والمبانى العظيمة مثل الأهرامات والمقابر الملكية فى الجيزة واللاهون ووادى الملوك والعمارنة. وهناك تجمُّعان كبيران للعمال بناة الأهرام كمقابر ملكية فى الجيزة واللاهون بالقرب من هرم الملك سنوسرت الثانى.

 



 

من المؤكد أنه كانت هناك تجمُّعات عمالية أخرى مثل التى اكتشفتها حديثًا البعثة المصرية بقيادة د. «زاهى حواس» فى منطقة وادى الملوك بالبر الغربى للأقصر، المعروف باسم «وادى القرود»، والموجود إلى الشرق منه وادى الملوك الشهير الذى توجد به نحو 60 مقبرة، منها مقبرة توت عنخ آمون.

 

وقد اكتشفت البعثة تجمُّعات لأكواخ العمال وبعضًا من أدواتهم التى كانوا يستخدمونها فى بناء وتزيين مقابر وادى الملوك الملكية من عصر الدولة الحديثة. وكان من بين الاكتشافات الأثرية المهمة العديدة التى قامت بها البعثة العثور على منطقة ورش للتصنيع لأول مرّة بوادى القرود، وبجوارها حفرة للتخزين أخذت رقم KVT   وتم الكشف أمامها عن فرن حرق الفخار والمعادن؛ حيث عُثر بجواره على خاتمين من الفضة، وكميات كبيرة من العناصر الزخرفية المستخدمة فى تزيين التوابيت الخشبية فى الأسرة الثامنة عشرة ورقائق من الذهب وبعض العناصر الزخرفية التى كان يُطلق عليها جناح حورس.

 

ومن أهم اكتشافات البعثة العثور على ثلاثين ورشة وهى ورش متخصصة لتصنيع وتجهيز الأثاث الجنائزى قبل وضعها داخل المقبرة، بالإضافة إلى مقبرة أُطلق عليها رقم KV 65. وقد استُعملت لحفظ بعض الأدوات والأثاث الجنائزى. وهى مماثلة للمقبرة KV 54 المجاورة لمقبرة الملك توت عنخ آمون التى وُجدت بداخلها الأدوات التى استُعملت فى بناء المقابر الملكية. وقد حفرت البعثة بجوار مقبرة الملك توت عنخ آمون وعثرت على العديد من القطع الأثرية المهمة، ومنها اثنان وأربعون كوخًا عُمّاليًا صغيرًا كان يضع العمال فيها الأدوات التى كانوا يستعملونها فى بناء المقابر قبل أن يغادروا الوادى إلى دير المدينة، بالإضافة إلى العديد من اللوحات المنقوشة بالهيروغليفية التى توضح العديد من الموضوعات الأثرية المهمة، بالإضافة إلى أجزاء من مقابر منقوشة وخواتم من عصر الرعامسة.   

 

غير أن موقع دير المدينة بالبر الغربى لمدينة الأقصر يعتبر من بين أهم المواقع التى تمدنا بمعلومات مهمة عن العمال والفنانين الذين قاموا ببناء مقابر وادى الملوك وغيرها. ويمدنا موقع دير المدينة بالعديد من المعلومات الأثرية والدلائل النصية من هذا الموقع الثرى؛ خصوصًا من عصر الرعامسة، أى العصر الذى عاش فيه نجم الأرض الملك رمسيس الثانى العظيم وخلفاؤه. وقد كانت بداية عيش العمال فى ذلك الموقع منذ بداية عصر الدولة الحديثة وعصر الأسرة الثامنة عشرة، وقامت الدولة بإعالتهم للقيام بمهامهم فى بناء المقابر الملكية وتزيينها. وكان العمال يقومون كذلك بالعمل فى مقابر النبلاء، بل فى بناء مقابرهم هم أنفسهم فى الموقع الذى كانوا يعيشون فيه. وكان يتم دفع أجورهم وفقًا لدرجاتهم الوظيفية وألقابهم. وكان يتم تقسيم العمال إلى فرَق أو جماعات، وكان العمال يتوارثون مهنتهم جيلًا بعد جيل. وكان الأبناء يتعلمون المهنة من الآباء؛ كى يتم الحفاظ على تقاليد المهنة داخل الأسرة الواحدة. ومن بين الأمثلة الجميلة فى هذا الأمر، لوحة الفنان مريت سن، فى متحف اللوفر فى العاصمة الفرنسية باريس، التى يذكر فيها أنه شارك علمه ومعرفته بمهنته مع ابنه. وهذا مثال نادر يعرِّفنا باسم أحد الفنانين العظام من مصر القديمة. 

 

ومن الجدير بالذكر أنه لا توجد كلمة تعبر عن كلمة «فن» فى اللغة المصرية القديمة، كما نعرفها حاليًا، وكذلك لا نعرف الكثير من أسماء الفنانين الذين قاموا بإبداع هذه الأعمال الفنية القادمة إلينا من مصر القديمة، ولم يكن مسموحًا لهم بالتوقيع بأسمائهم على أعمالهم، كما هى الحالة فى عصرنا الحديث، وقد كتب بعض الفنانين أسماءهم على استحياء فى بعض المقابر وفى مواضع خفية غير ظاهرة.

 

قصة حياة العمال والفنانين الذين أبدعوا تلك الأعمال المعمارية والفنية الجميلة من مصر القديمة هى قصة الحضارة المصرية المبدعة وقصة الإنسان المصرى المبدع دائمًا وأبدًا.