آخر الفراعنة المحاربين
عندما خلف الملك أبريس المعروف باسم «واح إيب رع» فى عصر الأسرة السادسة والعشرين أو ما يُعرف باسم العصر الصاوى، أو عصر النهضة الصاوية والده الملك بسماتيك الثانى على عرش مصر فى العام 589 قبل الميلاد. ورث تركة ثقيلة، وشهدت فترة حُكمه مشكلات عسكرية داخل البلاد وكذلك خارج البلاد، فنشب تمرُّد على حدود مصر الجنوبية وقام القائد العسكرى الشهير نس حور المسمى باسم بسماتيك منخ إيب بقَمع ذلك التمرد وإقناع الجنود المتمردين بالعودة إلى أرض مصر بعد أن كانوا قد تركوا مكان الحامية فى أسوان واتجهوا جنوبًا إلى النوبة.
أرسل الملك أبريس واح إيب رع جيشه إلى ليبيا بقيادة القائد المصرى المعروف أحمس أو أمازيس لمواجهة هجمات الغزاة الدوريين من الإغريق، غير أن الجيش عانى هناك ونشبت به حركة تمرُّد ضد الملك، وانتشرت الحرب الأهلية بين الجنود المصريين الوطنيين والجنود المرتزقة من الأجانب الذين كانوا يعتمد عليهم ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية.
كما كان يحدث فى عصر الإمبراطورية الرومانية، اتجهت أبصار الجيش المصرى إلى اختيار قائد عسكرى منه كى يقود التمرُّد ضد الملك إبريس واح إيب رع. وما وقع الاختيار إلا على القائد المنتصر فى الحملات الصاوية ضد بلاد النوبة، وهو القائد العسكرى المتميز أحمس أو أمازيس. وعندما التقى الجَمعان، تم قُتل الملك إبريس واح إيب رع، وانتقل الحُكم إلى ذلك القائد العسكرى وهو من خارج سلالة الأسرة الحاكمة ولا يحمل الدم الملكى، وأعنى الملك أحمس الثانى أو الملك أمازيس.
الملك إبريس واح إيب رع كان حلقة وصل بين ملوك سايس الأوائل وبين الملك أحمس الثانى أمازيس الذى أعاد للأسرة الحاكمة عظمتها.
أحمس الثانى «أمازيس»
الملك أحمس الثانى أو الملك أمازيس، هو ثانى أهم ملك فى الأسرة السادسة والعشرين الصاوية أو العصر الصاوى بعد الملك المؤسّس بسماتيك الأول. وحَكم فترة طويلة من العصر الصاوى تقدر بنحو أربعة وأربعين عامًا من عمر الأسرة المقدرة بنحو مائة وثمانية وثلاثين عامًا، أى مدة تزيد على ثلث عمر الأسرة. وكان عهده عهد ازدهار وسيادة ورخاء وإبداع وتعمير وبناء وتعاوُن وتواصُل مع القوى الخارجية.
وازدهرت العاصمة المَلكية سايس فى وسط الدلتا المصرية فى عهد الملك أحمس الثانى «أمازيس». وحفلت المدينة بالمقابر المَلكية الصاوية، غير أن هذه المدينة لم يتم حفرها بشكل كامل وشامل، ولم نعثر بها إلّا على عدد قليل من تماثيل الأوشابتى أو التماثيل المجيبة التى كان المصرى القديم يستخدمها للقيام بالعمل نيابة عنه فى العالم الآخر. وتحمل عشرة من تلك التماثيل اسم بسماتيك، غير أنه من الصعب تحديد نسبتها لأى ملك من الملوك الثلاثة الذين حملوا اسم بسماتيك. وهناك ستة من تماثيل الأوشابتى تحمل اسم الملك أحمس الثانى «أمازيس».
قام الملك أحمس الثانى «أمازيس» بنقل الجنود المرتزقة من الأجانب إلى منطقة نقراطيس فى محافظة البحيرة فى غرب الدلتا، وأعطى لهم امتيازات كثيرة مثل الحقوق التجارية، وذلك حتى يتفادى وقوع أى مشكلات وصدامات مع الجنود المصريين وأهل مصر عمومًا. وفى عهده، أصبحت نقراطيس منطقة تجارة حُرة مثل ديلوس فى بلاد اليونان. وفى نهاية القرن التاسع عشر الميلادى، أظهرت حفائر عالم الآثار البريطانى الأشهر السير وليام فلندرز بترى فى المدينة أنها كانت ذات طبيعة كوزموبوليتانية وأن معابدها كانت مخصصة لآلهة الجاليات التى كانت موجودة بها.. وما يُحسَب لعهد الملك أحمس الثانى «أمازيس» أن التجارة فى البحر المتوسط كانت تشكل بُعدًا مُهمًا من أبعاد السياسة الخارجية المصرية فى تلك الفترة، وكان تدعيمها ضرورة من ضرورات فترة حُكمه المزدهر والمديد، وكانت كذلك مهمة أساسية من مهام الأسطول المصرى فى البحر المتوسط. وبناءً عليه، فقد تم التعامل والتعاون من عدد كبير من الأمم فى البحر المتوسط؛ خصوصًا الإغريق الذين شكلوا نسبة كبيرة من الجنود المرتزقة بالجيش المصرى. وكان من شدة تدخل الملك أحمس الثانى «أمازيس» فى العالم الإغريق أن قام بإعادة بناء معبد الوحى الشهير والعظيم والخاص بالرب أبوللو فى دلفى بعد أن جاء عليه حريق هائل ودمره تمامًا فى عام 548 قبل ميلاد السيد المسيح.
بعد التهديد الآشورى لمصر من قبل فى نهاية الأسرة الخامسة والعشرين النوبية أو الكوشية، جاء بعده التوسع البابلى والنشاط العسكرى بشدة فى الشرق الأدنى القديم، ما سبّب قلقًا وتهديدًا لمصر الصاوية طوال عصر الأسرة. غير أن المشهد شهد لاعبًا جديدًا وقويًا وعنيفًا ابتلع كل القوى القديمة، وأسّس إمبراطورية جديدة، وأعنى الإمبراطورية الفارسية التى حاربت الإغريق بكل قسوة. وكانت مصر الصاوية بعد رحيل القائد العسكرى القوى أحمس الثانى «أمازيس» لا تمثل قوة قد تقلق الفُرس. فتحرك الملك الفارسى الشهير قمبيز نحو مصر. واحتل مصر فى عام 526 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وانتصر على الملك بسماتيك الثالث، ابن الملك أحمس الثانى «أمازيس»، عند حدود البوابة الشرقية لمصر.
كان بسماتيك الثالث الضعيف وغير الخبير قد خلف أباه الملك أحمس الثانى «أمازيس» القوى لعدة أشهر على عرش مصر. فهرب بسماتيك الثالث إلى العاصمة الأزلية منف؛ حيث نجح بسهولة الملك الفارسى قمبيز فى أسره وبعث به إلى عاصمة الإمبراطورية الفارسية الشهيرة فى مدينة سوسة. وهكذا جاءت نهاية الأسرة السادسة والعشرين الصاوية على أيدى الفُرس الذى دمروا مصر وعاملوا المصريين أسوأ معاملة.
نختنبو الثانى
الملك نختنبو الثانى هو آخر فرعون مصرى يحكم مصر. وانتهت فترة حُكمه باحتلال الفُرس لمصر ثانيةً فى عام 343 قبل الميلاد، قبل احتلال الإسكندر الأكبر لمصر فى عام 332 قبل الميلاد، وكذلك هو آخر حاكم مصرى لمدة نحو ثلاثة وعشرين قرنًا من الزمان حتى جاء حُكم اللواء محمد نجيب وحُكم الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو 1952.
لقد كانت السنوات الثمانية الأولى من حُكم نختنبو الثانى بعيدة عن التدخل الفارسى بسبب المشكلات الأسرية فى البيت الفارسى الحاكم وما تلاها، غير أنه فى منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، نجح الحاكم الفارسى الجديد أرتازيركيس الثالث فى فرض سيطرته على معظم أرجاء الإمبراطورية الفارسية. وحاول غزو مصر، غير أن حملته باءت بالفشل، وبسبب ذلك، نجحت بعض المدن اليونانية والفينيقية فى تحدى القوة الفارسية عسكريًا لبعض الوقت.
كان الملك نختنبو الثانى قد رجع إلى التقاليد المَلكية القديمة والاستقرار الذى جلبته الآلهة لأرض مصر. فقام الملك بإعادة بناء وتأسيس المعابد. وتم تقديم الملك على اعتباره أنه فى حماية الآلهة، وبالفعل هناك تمثال كبير من الحجر فى متحف المتروبوليتان فى مدينة نيويورك فى الولايات المتحدة الأمريكية يصور الملك نختنبو الثانى فى شكل صغير بين قدمىّ الرب حورس، المعبود المصرى الشهير وحامى الملكية المصرية المقدسة، الذى تم تصويره فى شكل صقر كبير الحجم.. ولقد حارب الجنود الإغريق من المرتزقة مع مصر ومع الفُرس. وكان قوام خُمس جيش الملك نختنبو الثانى نحو عشرين ألفًا من الجنود الإغريق. ووقف بهم الملك فى قلعة الفرما التى كانت على حدود مصر الشرقية فى عام 343 ق. م مواجهًا التقدم الفارسى، فتمت هزيمة المصريين عن طريق الجنود الإغريق المرتزقة الذين استعان بهم الفُرس، ما اضطر الملك نختنبو الثانى إلى الهروب إلى بلاد النوبة. وتم حَكم مصر عن طريق الفُرس للمرة الثانية.
لا نعرف مصير الملك نختنبو الثانى، غير أننا عثرنا على تمثال أوشابتى يحمل اسمه، وهو موجود فى متحف تورينو فى إيطاليا وغير معروف مكان الاكتشاف، ما يشير إلى موته ودفنه غالبًا فى العاصمة سايس، وهناك آثار جنائزية أخرى تحمل اسمه. وجاء فى الأسطورة التى تعود إلى العصور الوسطى وتحمل اسم «الإسكندر رومانس» أو «قصة الإسكندر»، أن نختنبو الثانى هرب إلى البلاط المقدونى، أعداء الفُرس التقليديين؛ حيث عمل كساحر مصرى عظيم، وهناك لفت نظر الملكة أوليمبيا، زوجة الملك فيليب الثانى، وأصبح أب الإسكندر الأكبر، ما يعد تبشيرًا بحُكم الإسكندر الأكبر لمصر واعتباره من نسل الفراعنة العظام.
بنهاية حُكم الفرعون المصرى العظيم الملك نختنبو الثانى يختفى نسل الفراعنة من حُكم مصر. وباحتلال مصر من الإسكندر الأكبر، تصير مصر مملكة يحكمها الغرباء إلى أن تقوم ثورة 1952 ويحكم مصر اللواء محمد نجيب أول حاكم مصرى لمصر بعد الفراعنة.>