تستغرق صناعتها حاليًا نحو 8 أشهر بتكلفة 20 مليون ريال المحمل فلكلور شعبى يخلد رحلة كسوة الكعبة من مصر

صبحى مجاهد
على مدار قرون امتزجت ذكريات الحجاج المصريين بأهازيج موكب محمل كسوة الكعبة الشريفة، فترسخ فى الأذهان والوجدان تلك المواكب المهيبة التى حفرت فى كل ركن من أركان خط سير المحفل ذكرى فخر وشرف أن تكون أرض الكنانة صانعة هذه الكسوة على مدار سنوات تاريخها، خاصة فى العصرين الفاطمى والمملوكى، وامتداد ذلك حتى ستينيات القرن العشرين.
وارتبط الفلكلور الشعبى بمسيرة المحمل، فكانت بداية عهد المصريين فى إنشاد وغناء الأغانى المرتبطة بالحج، تلك التى كانت تُؤلف فى وداع محمل كسوة الكعبة التى يتم تصنيعها فى مصر، إذ يصف ابن إياس فى كتابه «بدائع الزهور» إحدى رحلات خروج المحمل محملًاً بكسوة الكعبة فى عام 1504 م، وأمامه العوام وهم يرقصون ويرددون «بيع اللحاف والطرّاحة، حتى أرى ذى الرماحة.. بيع لى لحافى ذى المخمل.. حتى أرى شكل المحمل».
صناعة الكسوة
بدأ الاهتمام بصناعة كسوة الكعبة فى مصر منذ العصر الفاطمى، حيث كانت تُصنع من أفخر أنواع القماش المصرى، ويُرسل بها موكب خاص يُعرف بـ «المحمل المصري».
وفى العصر المملوكى، أصبح إعداد كسوة الكعبة من المهام الرسمية للدولة، وكانت تُصنع فى دار الكسوة بحى الخرنفش فى القاهرة، تحت إشراف مباشر من السلطان.
واستمرت مصر تحت الحكم العثمانى فى صناعة الكسوة، وكانت تُرسل سنويًا فى موكب احتفالى كبير يُعرف بـ “المحمل»، وكان المصريون يحيونه بالفرح والاحتفال.
دار الكسوة
مثلت دار الكسوة بحى الخرنفش، التى أنشأها محمد على باشا فى القرن التاسع عشر، مركزًا لصناعة الكسوة باستخدام خيوط الذهب والفضة والحرير الأسود، وامتازت كسوة الكعبة باللون الأسود تتخلله آيات قرآنية مطرزة بخيوط ذهبية، وكانت الخامات: حرير طبيعى، تطريز يدوى بالخيوط الذهبية والفضية، أما أجزاؤها فتشمل الستارة (الستار)، الحزام، الكسوة نفسها، وستارة باب الكعبة (البرقع).
وكان يُعد احتفالًا دينيًا وشعبيًا، حيث يخرج المحمل فى موكب ضخم يحمل الكسوة من القاهرة إلى مكة المكرمة، وكان رمزًا لعظمة مصر ودورها فى خدمة الحرمين الشريفين. واستمر عمل الكسوة فى مصر حتى عام 1962، عندما تسلّمت المملكة العربية السعودية مسئولية صناعة الكسوة بالكامل.
كسوة الكعبة بالسعودية
أما الآن وفى دار خاصة بشارع أجياد أمام دار وزارة المالية العمومية بمكة المكرمة فى عام (1346) هـ، بدأت قصةُ كسوة الكعبة المشرفة كأول حلة سعودية تصنع فى مكة المكرمة، بتكلفة سنوية تجاوزت حاليًا (20) مليون ريالٍ سعودى، وتتم حياكتها وتطريزها كل عام بخيوط من الحرير والذهب والفضة بمجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة التابع للرئاسة العامة لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوى، الواقع بأم الجود فى مكة المكرمة، لتكون جاهزة ليوم تغييرها .
وتوالى الاهتمام والعناية بصناعة الكسوة منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وأبنائه من بعده، ففى بدايات الثمانينيات الهجرية أمرَ الملك سعود بن عبدالعزيز بتجهيز مصنع الكسوة المشرفة، وأسندَ هذه المهمة حينها إلى أخيه الملك فيصل، الذى كلَّفَ وزيرَ الحج والأوقاف حسين عرب فاختار مبنى تابعًا لوزارة المالية فى جرول ،حيث تم الانتهاء من أول كسوة تصنع بالمصنع الجديد بعد عمل استمر ثلاثة أشهر وكُتب عليها نص الإهداء التالى: «صُنعت هذه الكسوة فى مكة المكرمة وأهداها إلى الكعبة المشرفة الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود تقبل الله منه».
واستمرت هذه العناية فى عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، ثم الملك خالد، والملك فهد، حيث انتقل مصنع كسوة الكعبة سنة (1397) هـ إلى مبناه الجديد بأم الجود وجُهّز بأحدث المكائن المتطورة فى الصناعة وظلت حتى الآن تصنع فى أبهى صورها.
ثم توالت بعد ذلك هذه العناية فى عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، ثم الملك خالد، والملك فهد، حيث انتقل مصنع كسوة الكعبة سنة (1397) هـ إلى مبناه الجديد بأم الجود وجُهّز بأحدث المكائن المتطورة فى الصناعة وظلت حتى الآن تصنع فى أبهى صورها.
وصدرت موافقة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، على تحديث وتغيير الأنظمة الإلكترونية والأجهزة الكهربائية والمعدات الميكانيكية بمصنع كسوة الكعبة المشرفة بما يوافق الأنظمة المستحدثة، وتعدُ هذه الخطوةُ نقلةً تطويريةً متقدمةً فى مجال صناعة رداء الكعبة المشرفة.
مجمع الملك عبدالعزيز
تكريمًا للملك المؤسس، صَدَرَتْ موافقةُ خادمِ الحرمينِ الشريفينِ الملكِ سلمانَ بنِ عبدِ العزيزِ آل سعود، يوم الثلاثاء 13 شعبان 1439 هـ بتغيير مسمى مصنع كسوة الكعبة المشرفة إلى مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة الذى يعدُّ من أكبر مجمعات تصنيع الحرير وتطريزه ونحته، ابتداءً من تصنيع الخيوط الحريرية وحياكتها وطباعة الرموز على القماش الحريرى.
ويدخلُ بعدها إلى قسم التطريز بالمذهبات ثم يحوّل لقسم التجميع ثم الحشو للحروف بالقطن لإعطاء البروز والجمال للحرف فى أثناء التطريز، ثم بعد ذلك يقومون بعملية التطريز التى تكون بالأسلاك الفضية المطلية بماء الذهب والأسلاك الفضية المخالصة، ثم يكون الثوب جاهزًا للاستبدال.
وقد منَّ اللهُ على المملكة العربية السعودية باستدامة هذه الصناعة وتطويرها وإدخال كل السبل التقنية الحديثة التى أسهمت فى تمكين المجمع من إنتاج الثوب، ومن أهم ما تم استحداثه فى عهد خادم الحرمين الشريفين الملكِ سلمانَ بنِ عبدِالعزيز آل سعود، توفير ماكينة «تاجيما»، وماكينة الجاكارد، لصناعة ثوب الكعبة المشرفة المنقوش بالتسبيحات والقناديل المذهبة والكلمات وهى: «يا الله، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ويا ديّان، ويا منّان، ولا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتتم هذه العملية بواسطة الفريق الفنى المختص من الأيدى الوطنية المدربة المؤهلة على هذه الماكينة التى تحتوى على أكثر من 9 آلاف وتر من الحرير، والثوب تستغرق صناعته من 6 إلى 8 أشهر، ويعمل فى صناعته أكثر من (200) صانع على مدار السنة.
مراحل الصناعة
تمرُّ مراحلُ كسوة الكعبة المشرفة بمجموعة من الأقسام الفنية والتشغيلية، وتبدأ بمرحلة الصباغة وهى أولى مراحل إنتاج الكسوة بالمصنع حيث يزود قسم الصباغة بأفضل أنواع الحرير الطبيعى الخالص فى العالم، ثم النسيج الآلى الذى يحتوى على العبارات والآيات القرآنية والمنسوخة، ثم قسم المختبر الذى يقوم بإجراء الاختبارات المتنوعة للخيوط الحريرية والقطنية؛ من أجل التأكد من مطابقتها المواصفات القياسية المطلوبة من حيث قوة شد الخيوط الحريرية ومقاومتها لعوامل التعرية، إضافةً إلى عمل بعض الأبحاث والتجارب اللازمة لذلك, يأتى بعدها مرحلة الطباعة التى يتكون منها قسم الحزام والتطريز وقسم خياطة الكسوة, ثم وحدة العناية بكسوة الكعبة المشرفة.
وكسوة الكعبة التى تزن (850) كيلوجرامًا، ومقسمة على (47) قطعة قماش بعرض (98) سم، وارتفاع (14)، تطرز بخيوط من الذهب والفضة، ويصل عدد قطع المذهبات إلى (54) قطعة على الكعبة، فى قسم متخصص باسم «تطريز المذهبات» بالمجمع، وذلك باستخدام (120) كيلو جرامًا من المذهبات، و(100) كيلو جرام من الفضة المطلية بماء الذهب، و(760) كيلو جراما من الحرير.
وعند الانتهاء من جميع مراحل الإنتاج والتصنيع، وفى منتصف شهر ذى القعدة، يقامُ حفلٌ سنوى فى مصنع كسوة الكعبة المشرفة وتسلَّمُ الكسوة إلى كبير سدنة بيت الله الحرام، الذى بدوره يقوم بتسليمها إلى الرئيس العام لشئون المسجد الحرام المسجد النبوى، أما هذا العام فقد صدر أمر ملكى بتسليم كسوة الكعبة فى العاشر من شهر ذى الحجة.
وتأتى آخر قطعة يتم تركيبها وهى «ستارة باب الكعبة المشرفة» من أصعب مراحل عملية تغيير الكسوة، وبعد الانتهاء منها يُرفع ثوب الكعبة المبطن بقطع متينة من القماش الأبيض، وبارتفاع نحو ثلاثة أمتار من شاذروان (القاعدة الرخامية للكعبة) المعروفة بعملية «إحرام الكعبة» ويرفع ثوب الكعبة.