
أسامة سلامة
لجنة حكماء لإنقاذ مهنة الحكيم
هدأت الضجة المثارة حول قضية هجرة الأطباء قليلا، لكنه هدوء إلى حين وستعود للظهور مرة أخرى مع أول حادث أو موقف يوقظها من جديد، والحقيقة أنها قضية مهمة ولا يجب أن تُترك من دون الوصول إلى حل لها، ولذا يجب أن تناقش بعيدا عن الانفعال، فنحن نحتاج الحكمة فى إدارة هذه الأزمة وإلى حكماء يناقشونها ويضعون حلولا لها حتى لا تتفاقم ويزداد الوضع صعوبة. الجدل الدائر حول هذه الأزمة ما بين أقلية لا ترى فى هذه الهجرة خطرا على المجتمع وأكثرية تحذر من استمرار نزيف الأطباء إلى الخارج لن يؤدى إلى حلول حقيقية، ولهذا أتمنى أن تبادر الحكومة ووزارة الصحة ونقابة الأطباء بتشكيل لجنة من حكماء مهنة الطب لدراسة كل أوضاعها وأوجاعها ووضع حلول لها، أزمة الأطباء وهجرتهم ليست بسيطة ولها تداعيات كبيرة على المجتمع، والمريض المصرى هو من سيدفع الثمن، وهى قضية ليست جديدة ومطروحة منذ سنوات، وحذر منها عدد كبير من الأطباء، ونبهت إليها نقابة الأطباء أكثر من مرة، وكتبت عنها من قبل عدة مرات محذرا من هذا الأمر وداعيا إلى بحثها بكافة جوانبها، لكن الدولة وجدت الحل فى زيادة عدد كليات الطب وزيادة الخريجين وهو ما أكده رئيس الوزراء عندما أدلى بتصريحات منذ أيام يقلل فيها من خطورة الوضع بقوله «ليست لدينا مشكلة لو هاجر 10 آلاف طبيب من نحو 29 ألف طبيب سيتم تخرجهم الأعوام المقبلة، وهذا الأمر من مصلحة الدولة سواء بكسب الخبرات أو جلب العملة الصعبة لمصر»، وأضاف: «كليات الطب كانت تُخرج 9 آلاف طالب، ومع زيادة الكليات أصبحت تُخرج 15 ألف طالب حاليا»، ويرى رئيس الوزراء أن «جزءًا من قوة مصر الناعمة هو خروج شبابها للعمل فى الخارج وتحقيق عائد اقتصادى وخروج الأطباء للعمل بالخارج شيء جيد ومشرف، وهذا تشجيع من الدولة للأطباء على الهجرة»، هذه الأفكار والرؤى رد عليها كثير من الأطباء موضحين خطورة الأمر وأن ما يطرحه رئيس الوزراء ليس حلا، لكنه يزيد الوضع تفاقما، حتى أن د. أبو بكر القاضى أمين صندوق نقابة الأطباء وصف ما طرحه رئيس الوزراء فى تصريحات صحفية بأنه «حلول عجيبة وغريبة من الحكومة»، ويشرح «أن عدد الأطباء المقيدين فى النقابة بالنسبة لعدد السكان لا يشير إلى وجود عجز حقيقى، وإنما الأزمة الحقيقية تكمن فى هجرة الكفاءات إلى الخارج بسبب ضعف الأجور، وسوء بيئة العمل، وغياب الحوافز».. ويرى د. القاضى أن «زيادة أعداد الخريجين لن تسهم فى حل الأزمة، بل ستمثل عبئًا اقتصاديًا إضافيًا على الدولة التى تنفق مبالغ طائلة على تعليم الأطباء، ثم لا تستفيد منهم، وأن الاتجاه نحو قبول أعداد أكبر من الطلاب قد يفتح الباب للتنازل عن معايير التفوق العلمى، ما يُنذر بتراجع فى مستوى الخريجين، ويؤثر سلبًا على جودة الخدمة الطبية وسمعة الطبيب المصرى المعروفة عالميًا».
الأزمة الأخيرة انفجرت عندما أعلنت كلية طب الإسكندرية عن خلو117 وظيفة للأطباء المقيمين من مستشفيات جامعة الإسكندرية ومعهد البحوث الطبية، ما يشير إلى أن هناك 117 معيدا فى كلية الطب قدموا استقالاتهم رافضين الاستمرار فى استكمال دراستهم العليا والانضمام إلى سلك التدريس بالكلية، وهو أمر كان إلى وقت قريب يتهافت عليه كل دراسى الطب ويسعى إليه المتفوقون منهم، فقد كانت أقصى آمال طالب الطب أن يصبح أستاذا فى الجامعة وعضوا بهيئة تدريسها، وكانت كلمة أستاذ بإحدى كليات الطب الباب الملكى للشهرة والعلم والمجد والثراء نظرا لثقة المرضى بأساتذة الجامعات حيث ينظر إليهم باعتبارهم علماء والأكثر اطلاعا على أحدث الأبحاث العلمية، وحتى لا نظلم كلية طب الإسكندرية فإن الأمر يتكرر فى كل كليات الطب التى تعانى جميعا من عزوف خريجيها المتفوقين عن العمل كأطباء مقيمين، وللعلم فإن عدد المستشفيات الجامعية فى مصر يبلغ نحو 120 مستشفى جامعيًَّا فى محافظات مختلفة، حسب ما جاء فى تقرير للمجلس الأعلى للجامعات فى شهر يوليو 2022، بينما يختلف عدد أطباء النيابة من عام إلى آخر ووفقًا لنقابة الأطباء يُعين نحو 15% من دفعات الخريجين فى الجامعة، حيث يتخرج نحو من 9 آلاف إلى 10 آلاف طبيب سنويًا، وطبقا لهذه الارقام يُعين من 1500 إلى 2000 طبيب مقيم بالمستشفيات الجامعية سنويًا، لكن الأزمة ليست فى المعيدين بكليات الطب فقط فهناك عدد كبير من الأطباء العاملين فى وزارة الصحة قدموا استقالاتهم، ومعظمهم إما هاجروا أو سافروا للعمل بالدول العربية، ولهذا فإن الحل ليس فى زيادة الخريجين فقط، فهؤلاء يمكن أن يلحقوا بزملائهم فى الهجرة ويسيروا على نفس الطريق ويومها نصبح كما يقول المثل العامى «كأنك يا أبو زيد ما غزيت»، ونظل نعانى من الأزمة دون حل، الأطباء وعلى رأسهم نقابتهم يطرحون حلولا مثل رفع ميزانية وزارة الصحة، وتقديم حوافز مالية للأطباء، وتسهيل فرص استكمال الدراسات العليا، وتطوير المناهج، وحمايتهم من الاعتداء عليهم وتحسين بيئة العمل، فضلا عن تحسين الخدمة فى المستشفيات الحكومية، هذه الحلول ربما لا تُرضى الحكومة أو أنها غير قادرة على توفيرها جميعا وهو ما يستدعى مناقشة القضية بحكمة، ولا ننسى أن الطبيب كان يطلق عليه لوقت قريب لقب «الحكيم» لأنه لا يعالج المريض بالدواء فقط لكن أيضا بما يمتلكه من قدرة وحكمة على اكتشاف العلة وعلاجها بوسائل مختلفة، فالحكيم صاحب حكمة وبصيرة، ولا تصدر أعماله وأقواله وأفعاله إلا عن رؤية ثاقبة متفقة مع العقل والمنطق، وهو ما نحتاجه الآن لإنقاذ مهنة الحكيم.