هاني لبيب
بعد مرور 74 سنة.. أول تعديل منذ إصداره سنة 1950.. تفكيك ملف الحبس الاحتياطى.. القنبلة الحقوقية منزوعة صمام الأمان!
انتهى الحوار الوطنى خلال الأيام القليلة من مناقشة ملف الحبس الاحتياطى بكل ما يحمله هذا الملف من مشكلات وتحديات.. باعتباره ضمن محددات تحقيق العدالة الجنائية. وقد اشترك فى الحوار العديد من الشخصيات السياسية والحقوقية ذات الصلة بتفاصيل هذا الملف، بالإضافة إلى الشخصيات العامة، وأعضاء من البرلمان، وممثلو الأحزاب السياسية، وممثلو بعض منظمات المجتمع المدنى، وممثلو لجنة العفو الرئاسى.. مما أسهم فى خلق مساحات مشتركة للحوار والتفاهم الجاد والمنفتح بين مختلف آراء مكونات المجتمع السياسى المصرى.
وبعد العديد من الجلسات التى حملت جدلًا سياسيًا له أبعاد وطنية وحقوقية وإنسانية.. خلصت لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة، والتى ناقشت موضوع «الحبس الاحتياطى والعدالة الجنائية» إلى تحديد 24 توصية منها 20 بالإجماع والتوافق الكامل.. من خلال مناقشات موضوعية لكل الآراء، وفتح قنوات التواصل بين الأطياف السياسية المتعددة والمختلفة، وتبنى الحلول المشتركة المتفق عليها من الجميع.
وهو ما تم تقديمه من مجلس أمناء الحوار الوطنى إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى فى 19 أغسطس 2024 الذى وجه بإحالته إلى الحكومة لسرعة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل التوصيات المتوافق عليه.. استمرارًا للإصلاح السياسى الذى بدأت مسيرته بعد ثورة 30 يونيو، وإصدار الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان فى 11 سبتمبر 2021، وإلغاء قانون الطوارئ فى 25 أكتوبر 2021.
المعنى..
«الحبس الاحتياطى» هو إجراء قانونى يستخدم لضمان سلامة التحقيقات من خلال وضع متهم «يشتبه فى ارتكابه جريمة» تحت تصرف المحقق من خلال احتجازه أثناء جلسات محاكمته، ويُعتبر هذا الإجراء وسيلة لضمان عدم هروب المتهم الموقوف أو تعطيله لسير التحقيقات. وفى الوقت نفسه، يثير الحبس الاحتياطى جدلًا كبيرًا بسبب تأثيره على حقوق الإنسان واحتمالية إساءة استخدامه. وذلك حسبما كتبت مقالًا بعنوان «مصر أولًا.. الحبس الاحتياطى فى مرمى الحوار الوطنى.. محقق معه على ذمة التحقيق، وليس مدانًا!» على صفحات مجلة روزاليوسف فى 27 يوليو 2024.
أسباب الحبس الاحتياطى..
1 - منع الهروب: وهو أحد الأسباب الأساسية للحبس الاحتياطى.. كضمان عدم هروب المتهم قبل موعد المحاكمة، ويتيح هذا الإجراء للسلطات القضائية التأكد من حضور المتهم لجميع جلسات المحكمة.
2 - حماية الأدلة: يستهدف الحبس الاحتياطى حماية الأدلة ومنع المتهم الموقوف من إتلافها أو التلاعب بها، ويمكن أن يكون هذا الأمر حاسمًا فى الجرائم التى تعتمد على الأدلة المادية والشهادات.
3 - حماية الشهود: قد يكون هناك أحيانًا خوف من أن يقوم الموجه له الاتهام بتهديد أو إلحاق الأذى بالشهود، ولذا يستهدف الحبس الاحتياطى.. حماية الشهود وضمان سلامتهم.
4 - منع تكرار الجريمة: الحبس الاحتياطى هنا هو وسيلة لمنع أى احتمال بأن يقوم الموجه له الاتهام بارتكاب نفس الجريمة مرة أخرى.
بدائل متاحة..
استحدث القانون رقم 145 لسنة 2006 تعديلًا لبعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية فيما يخص بدائل الحبس الاحتياطى فى الفقرة الثانية من المادة 201 إجراءات. والتى تنص على: (يجوز للسلطة المختصة بالحبس الاحتياطى أن تصدر بدلًا منه أمرًا بأحد التدابير). وذلك بعد تأكيد بعض الثوابت، منها:
- تحديد سلطة إصدار قرار الحبس الاحتياطى بناء على حكم قاضٍ مسقل، وليس من قضاة التحقيق أو النيابة العامة.
- عدم توقيف المفرج عنهم بعد استنفاذ مدة حبسهم الاحتياطى عند الإفراج عنهم بدعوى الاشتباه أو على ذمة قضايا أخرى.
- تعديل المادة 54 من الدستور المصرى لتكون أكثر وضوحًا وتفصيلًا فى حسم ما هو مختلف عليه فى سبيل الحفاظ على الحرية الشخصية للمواطن المصرى.
ولذا يمكن حصر وطرح عدة بدائل للحبس الاحتياطى.. استنادًا إلى بعض التجارب الدولية، وذلك على غرار:
- الإقامة الجبرية بإلزام الموقوف بعدم مبارحة مسكنه.
- المراقبة الإلكترونية عليه عبر الإسورة الإلكترونية.
- حظر ارتياد الموقوف احتياطيًا لأماكن محددة.
- المنع من السفر.
ويحبس الموقوف احتياطيًا.. إذا خالف الالتزامات التى تفرضها التدابير السابقة. ويسرى فى شأن مدة التدبير أو مدها والحد الأقصى لها واستئنافها نفس القواعد المقررة بالنسبة إلى الحبس الاحتياطى.
إن النص على (إلزام الموقوف بعدم مبارحة مسكنه.. مع الرقابة عليه عبر الإسورة الإلكترونية) يتواكب مع التطور التكنولوجى واستخدام نظام الرقابة القضائية الإلكترونية من جهة، ومع تطور التدابير التى أصبحت غير مقبولة الآن مثل أن يسلم الموقوف نفسه لقسم الشرطة فى أوقات محددة من جهة أخرى.
تعريفات إنسانية..
ذكرت أيضًا فى مقالى السابق.. التعريفات الهامة لبعض الفقهاء عن الحبس الاحتياطى، مثل د. أحمد فتحى سرور (إن الحبس الاحتياطى لا يخرج عن كونه إجراء من إجراءات التحقيق فى جميع الأحوال، وأنه بهذه الصفة ليس عقوبة كما أنه ينبغى ألا يتحول إلى تدبير احترازى يجعله فى مصاف العقوبات).
وتعريف د.عبدالرؤوف مهدى (الحبس هو سلب حرية المتهم فترة من الزمن بإيداعه أحد السجون والأصل فيه أنه عقوبة، وبالتالى يجب ألا يوقع إلا بحكم قضائى بعد محاكمة عادلة تتوفر فيها للمتهم ضمانات الدفاع عن نفسه، وذلك إعمالًا لأصل عام من أصول المحاكمات الجنائية – بل هو حق من حقوق الإنسان – هو أن الأصل فى المتهم البراءة، ومع ذلك أجازه المشرع للمحقق فى التحقيق الابتدائى بمجرد أن يبدأ التحقيق أو أثناء سيره، فالحبس الاحتياطى إجراء من إجراءات التحقيق يتعارض مع أصل البراءة المفترض فى الانسان).
جلسات ومحاورات..
تناولت جلسات النقاش المغلقة والمتخصصة.. العديد من القضايا الجدلية الشائكة التى دائمًا ما كانت ضمن توصيات غالبية منظمات المجتمع المدنى الحقوقية وجمعياته. وقد تناول النقاش العديد من الأشكاليات على غرار: مدة الحبس الاحتياطى، وبدائل الحبس الاحتياطى، والحبس الاحتياطى عند تعدد الجرائم، والتدابير اللازمة للحبس الاحتياطى، والأهم هو التعويض عن الحبس الاحتياطى الخاطئ.. تقديرًا لثوابت حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية.
تأتى أهمية الوصول لتحديد تلك التوصيات الخاصة بالحبس الاحتياطى، ورفعها إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى.. لكونها خطوة مهمة ومطلبًا ملحًا ضمن أولويات العمل الوطنى لكونها قضية ذات صلة مباشرة بمنظومة الحريات العامة وحقوق الإنسان. فضلًا عن أهمية التعامل معها من منطلق العدالة الجنائية فى التوازن بين ضمان حق من يخضع للتحقيق من جانب، وبين الحق القانونى فى حماية الأمن العام للمجتمع من جانب آخر.. تطبيقًا لمبدأ سيادة القانون.
دلالات التوصيات..
1 – تبنى الرئيس عبدالفتاح السيسي تنفيذ توصيات مجلس أمناء الحوار الوطنى.. ارتكازًا على خلفية اهتمامه بتحقيق التوازن بين حقوق المواطنين ومتطلبات الأمن القومى. وهو دليل عملى على التزام القيادة السياسية بجدية الحوار الوطنى الذى طالما تم التشكيك فى جلساته ونقاشاته وتوصياته من خلال متابعة نتائج الحوار وتطبيقها على أرض الواقع بتحقيق العدالة الناجزة بتطوير النظام القضائى المصرى.. بما يتواكب مع تطلعات الشعب المصرى ومعايير حقوق الإنسان.
2 – استجابة النظام السياسى المصرى لتلك المطالب.. التى سيتم ترجمتها لتعديلات ترتكز على تحقيق ودعم الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بما سيكون له تأثير مباشر فى ترسيخ صورة مصر على المستوى الدولى.. لكونها تمثل تطبيق مواد الدستور المصرى ومبادئه.. بما لا يخل بمنظومة العدالة الناجزة من جهة، والحفاظ على سير التحقيقات من جهة أخرى.
3 - إجراء تلك التعديلات المرتقبة.. سيترتب عليه حسم هذا الملف بوضع ضوابط قانونية من شأنها تخفيض مدة الحبس الاحتياطى بتحديد حد زمنى أقصى لقضايا الجنح وقضايا الجنايات.. لكونه يؤكد على مدى التطور فى البنية التشريعية والقانونية لصالح المواطن المصرى فى إطار تحقيق العدل والحق والمساواة. وما يترتب على ذلك من زيادة الثقة فى أداء النظام السياسى المصرى من خلال تطور الأداء التنفيذى لوزارة الداخلية.
4 - إجراء من شأنه شيوع حالة من الرضا القانونى والحقوقى لمطلب تاريخى.. يؤكد على وجود اتجاه عملى لصون حقوق المواطنين وضمان سلامتهم وحريتهم ضد أى ممارسات تؤثر على تمتعهم بالحقوق، وفى انحياز مباشر لمطالب القوى السياسية والحزبية والحقوقية. إن الوصول إلى الاتفاق على توصيات محددة من خلال مجلس أمناء الحوار الوطنى.. يؤكد على ترسيخ وجود نموذج استثنائى متفرد فى مسار الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصرية.. لكونه استحدث وجود منصة حوارية تفاعلية حقيقية بالانفتاح على كل الآراء دون استبعاد أو تهميش رأى أو مقترح بعينه.
نقطة ومن أول السطر..
فى تقديرى، أن توصيات مجلس أمناء الحوار الوطنى فيما يخص ملف الحبس الاحتياطى.. يعد واحدًا من أكبر إنجازاته الوطنية، والتى تعكس إرادة حقيقية فى الإصلاح بما يتوافق مع ضمان قيم العدالة القانونية وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان وضمانها. إن التوصيات المقدمة.. تستهدف بالدرجة الأولى.. تنظيم استخدام إجراء الحبس الاحتياطى بشكل محدد ودقيق بما يتناسب مع العدالة، وفى خطوة مؤثرة لتعزيز الثقة فى مؤسسة النظام القضائى المصرى.
الحبس الاحتياطى هو وسيلة قانونية مهمة لضمان سير العدالة، وما يجب معالجته سريعًا هو مجابهة ما يحمله فى طياته من مخاطر بسبب الانحراف عن استخدامه بشكل صحيح.. من خلال تحديد مدة الحبس، وإجراء مراجعات قضائية دورية، واستخدام بدائل للحبس، وتوفير محاكمات عادلة وسريعة.. ضمانًا لتحقيق العدالة وحماية حقوق المواطنين من الحبس ظلمًا والتعرض للاحتجاز وتقييد الحرية الشخصية وتشويه السمعة بما يمكن أن يؤديه ذلك من نبذ مجتمعى.
وقد جاءت توصيات مجلس أمناء الحوار الوطنى لإعادة النظر فى ملف الحبس الاحتياطى بالتأكيد على تطبيق منظومة المواطنة المصرية.. التى هى السبيل لتحقيق الدولة المدنية المصرية.. دولة العدل والمساواة والحق ونفاذ القانون وقوة تطبيق أحكامه.
الحبس الاحتياطى فى الحوار الوطني
- 12 ساعة من المناقشات.
- شارك فيها 120 متحدثًا يمثلون كل الأطياف والتيارات السياسية المصرية.
- 9 توافقات أساسية.
- 20 توصية بالتوافق الكامل، و4 توصيات متعددة الآراء لأسلوب تنفيذها.
- 75 ساعة عمل لمجلس الأمناء.
- 180 ساعة عمل للأمانة الفنية للحوار الوطنى.
- إجماع على تعديل تشريعات الحبس الاحتياطى.
- الثقة الكاملة فى الإرادة السياسية العليا الداعمة لحل ملف الحبس الاحتياطى.
- الرئيس عبدالفتاح السيسى يوجه بإحالة توصيات مجلس أمناء الحوار الوطنى إلى الحكومة.