هاني لبيب
المتحف بداية مشروع ثقافى مع العالم
مصر تعيد صياغة قوتها الناعمة
فى لحظة تاريخية تتقاطع فيها النزاعات وتضطرب فيها خريطة الإقليم بشكل غير مسبوق، تخرج مصر بخطاب ثقافى وحضارى مغاير.. يعبر فوق جدل الصراعات والخلافات. وبينما تتجه الأنظار شرقًا وغربًا إلى بؤر التوتر، يطل من محيط الأهرامات فى قلب الجيزة.. صرح ثقافى غير مسبوق، المتحف المصرى الكبير، بوصفه إعلانًا رمزيًا لقدرة الإنسان على البناء وسط العواصف، وتجسيدًا عمليًا لإيمان الدولة المصرية بأن الثقافة ليست ترفًا، بل هى أهم ركيزة من ركائز الاستقرار والأمان والسلام.
فكرة تتجاوز المكان
يقف المتحف المصرى الكبير بالقرب من الأهرامات، كأنما يتصل بالماضى المصرى البعيد من جذوره الأولى حتى حاضره. لم يكن اختيار مكانه.. مصادفة، بل تعبيرًا عن رؤية تربط الماضى بالمستقبل، وتجعل من التاريخ.. منصة للحوار مع العالم. تمتد قاعاته الحديثة على مساحة شاسعة، متضمنة أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل الذاكرة الكاملة لمراحل متتالية لحضارة عمرها آلاف السنين. تصميمه المعمارى المائل نحو الأفق الغربى يحاكى رمزية الغروب فى فلسفة المصريين القدماء، فى إشارة إلى رحلة البعث والخلود، كأن المتحف نفسه يمثل ولادة جديدة للروح المصرية فى ثوب معاصر.
لا يقرأ هذا المشروع بوصفه مجرد مكان للعرض الأثرى، بل هو كيان ثقافى متكامل يضم معامل ترميم متقدمة، ومراكز تعليمية، وقاعات تفاعلية مفتوحة للبحث والفنون. وهو بهذا المعنى لا يعيد الماضى إلى الحياة فحسب، بل يضعه فى سياق معرفى ومعلوماتى جديد، يربط بين العلم والجمال والهوية والفلسفة.
رسالة الحضارة..
لا تسعى مصر إلى تسجيل حدثًا سياحيًا بافتتاح مثل هذا المتحف الضخم، بقدر ما تقدم رسالة حضارية.. تعكس فلسفتها أمام العالم فى ظل بيئة إقليمية يطغى عليها العنف والحرب والموت. يطرح الافتتاح بهذا الشكل.. موقفًا يدعو إلى أن تكون الثقافة بديلًا عن الصراع. وهى رسالة مزدوجة لاستعادة الوعى بقيمة التاريخ، وتأكيد الثقة بقدرة الإنسان المصرى على الإبداع والتنظيم والتخطيط طويل المدى لأفكار طالما احتكرها الغرب لنفسه.
يعيد المتحف المصرى الكبير تعريف مفهوم القوة الناعمة. بعد التحول الذى طرأ على مفهوم القوة بأنها ليست فيما تملكه الدول من سلاح، بل فى قدرتها على صياغة رواية حضارية مقنعة. والمتحف بهذه الصورة يقدم لمصر روايتها الجديدة.. بلد يستطيع أن يربط بين جذور الإنسان الأول وتحديات الإنسان المعاصر، وأن يجعل من رموزه القديمة ركيزة.. لحوار إنسانى يتجاوز الحدود واللغات والاختلافات.
دلالات الحضور الدولى..
يعكس الاهتمام العالمى بالافتتاح.. إدراكًا متزايدًا بأهمية الدور المصرى فى حفظ التراث الإنسانى. ولذا فإن مشاركة الرؤساء والزعماء والقادة والمؤسسات الثقافية الدولية ليست مجرد إجراء بروتوكولى، بل هو اعتراف ضمنى بأن مصر ما زالت تملك الريادة والصدارة فى مجال الحضارة والمعرفة. وفى تقديرى أن هذه المشاركة.. تحمل عدة دلالات، من أهمها:
1 - شهادة على الثقة فى استقرار الدولة المصرية، وقدرتها على إدارة مشروع بهذا الحجم الضخم.
2 – نظرة العالم إلى مصر.. باعتبارها منصة للحوار الثقافى بين الشرق والغرب.
3 - رغبة المؤسسات الدولية المتخصصة بالشراكة والتعاون فى مجالات الترميم والبحث والتعليم الثقافى.
ينتج عن هذا التفاعل، أن يكون المتحف المصرى الكبير.. مركزًا دوليًا للتبادل الثقافى، بما يشجع على بناء جسور جديدة من التعاون الإنسانى تتجاوز فيه العلاقات الدبلوماسية التقليدية.
الإنسانى والمعرفى..
لا يكتفى المتحف الجديد بعرض المقتنيات الأثرية النادرة، بل يقدم حكاية جديدة لتاريخ الإنسان. وعبر مراحله الزمنية وتقسيماته، يستعرض تطور الفكر المصرى القديم من الزراعة إلى الكتابة إلى الفلسفة والعمران والجمال. السائح لا يشاهد الآثار فقط، بل يعيش تجربة فكرية تعيد إليه الوعى التاريخى بدوره على امتداد الحضارة الإنسانية.
من أبرز عناصر التميز عرض مجموعة الملك توت عنخ آمون كاملة للمرة الأولى، بما يزيد على 5000 قطعة تم إعادة ترميمها بعناية علمية دقيقة. هذه المجموعة ليست مجرد مقتنيات ثمينة، بل وثيقة عن علاقة الإنسان بالمقدس وبالخلود، وعن حس الجمال والإبداع الذى ميز المصريين القدماء. كما تتضمن القاعات وسائل عرض رقمية تفاعلية تسمح للسائحين بالتفاعل مع التاريخ عبر تقنيات الواقع الافتراضى، مما يحول الزيارة إلى تجربة تعليمية وجمالية فى وقت واحد.
متحف يتحدى الإقليم..
بينما تشهد دول الجوار والإقليم كله.. حروبًا وفقدانًا لذاكرتهم التاريخية والوطنية.. تظهر مصر كمركز توازن يرمم ما تهدم فى الوعى الإقليمى. افتتاح المتحف يحمل رسالة استمرارية بأن الحضارة لا تموت ما دامت هناك إرادة لحمايتها. وهو ما يؤكد أن الثقافة يمكن أن تكون خط الدفاع الأول فى وجه التطرف والتعصب والتشدد والإرهاب، وأن الحفاظ على التراث فعل مقاومة حقيقى ضد ثقافة الموت التى ظللت المنطقة بأكملها.
فى هذا السياق، يصبح المتحف المصرى الكبير بمثابة الصوت العقلانى الإنسانى.. وسط ضجيج المدافع. صوت.. يؤكد أن التنمية تبدأ من الوعى، وأن بناء الإنسان شرط لبناء الدولة. كما أنه يقدم نموذجًا للدولة القادرة على تحويل الاستثمار الثقافى إلى وسيلة لدعم الهوية الوطنية، وترسيخ مفهوم الانتماء، وصياغة صورتها الخارجية.
الاقتصادى والثقافى..
المتحف ليس مشروعًا ثقافيًا فحسب، بل سيكون أحد دعائم الاقتصاد الحقيقى. تشير التقديرات الأولية إلى أنه يستهدف جذب أكثر من 20 مليون سائح سنويًا خلال السنوات الأولى، وهو ما سيؤثر إيجابيًا على قطاعات الفنادق والخدمات والنقل فى منطقة الأهرامات. كما سيخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، ويسهم فى تطوير البنية التحتية المحيطة.
الأهم قطعًا، هو ما سيدعمه من آفاق متنوعة لما يطلق عليه «اقتصاد المعرفة»، وذلك على غرار مركز البحوث والترميم والتدريب بالمتحف، والذى سيجعل الثقافة موردًا منتجًا، وليس عبئًا ماليًا.. فحين تتحول المعرفة إلى قيمة اقتصادية، تصبح الثقافة رافدًا أساسيًا من روافد التنمية المستدامة. ونكون بالفعل دخلنا مرحلة «الاستثمار الثقافى» التى كتبت عنها كثيرًا على صفحات مجلة «روزاليوسف».
تحديات البقاء والاستمرار..
يحتاج كل مشروع عظيم إلى إدارة واعية تحافظ عليه سواء على المستوى اللوجستى أو بالحفاظ على البقاء والاستمرار والاستدامة. هنا يكون التحدى الحقيقى أمام المتحف هو الحفاظ على مستواه التشغيلى والبحثى عبر مرور الزمن. الصيانة الدائمة، والتطوير التقنى المستمر، وضمان جودة تجربة السائح.. هى كلها ثوابت ستحدد مستقبل المتحف كمؤسسة عالمية. كما أن تأمين المنطقة المحيطة، وتحسين شبكات النقل، وتوسيع البرامج التعليمية والتثقيفية.. من العناصر الأساسية لاستدامة النجاح. إن تحويل المتحف إلى مركز حى للتفاعل الإنسانى يحتاج إلى رؤية متجددة تدير المكان بروح المؤسسة وليس بروح المناسبة.
الصورة الجديدة..
يعيد افتتاح المتحف.. صياغة صورة مصر أمام العالم كله. فبدلًا من أن تعرف فقط بتاريخها القديم، تقدم نفسها الآن بوصفها دولة قادرة على إعادة إنتاج تاريخها فى شكل معاصر، يجمع بين الأصالة والتحديث التكنولوجى المذهل. هذه الصورة تفتح مجالات جديدة للتعاون الدولى فى مجالات التعليم والثقافة والسياحة، وترسخ فكرة أن الحضارة المصرية ليست مجرد ماضيًا عريقًا فقط، بل هى مشروع ثقافى للمستقبل.
المتحف المصرى الكبير بهذا المعنى يرسخ هوية مصر الحديثة.. كدولة مدنية تستثمر فى الثقافة بوصفها قوة للبناء والتواصل، وليست مجرد وسيلة للتجميل. فهو يربط بين وعى المواطن وهويته، ويسهم فى بناء جيل يرى فى تراثه مصدرًا للإلهام ولإبداع المعاصر.
ما بعد الافتتاح..
حين تضاء قاعات المتحف المصرى الكبير أمام العالم.. إيذانًا بافتتاحه، يبدأ فصل جديد من العلاقات بين مصر والعالم. المتحف ليس نهاية مشروع، بل هو بداية مسار طويل من العمل الثقافى والبحثى ومنصة للتعاون الدولى فى حماية التراث الإنسانى، ومركز للتعليم المتحفى وتبادل الخبرات. ومن المتوقع أن يسهم فى صياغة سياسات وقوانين دولية جديدة لحماية التراث فى الشرق الأوسط وأفريقيا، انطلاقًا من الخبرة المصرية المتراكمة.
يعزز هذا الافتتاح أيضًا، الحضور المصرى فى وسط المنظمات الدولية، ويمنحها صوتًا مؤثرًا ومكانة متميزة فى قضايا الثقافة العالمية، من حماية الآثار إلى الرقمنة وإدارة المتاحف الحديثة.
صناعة السلام..
فى اعتقادى، لا يمكن النظر إلى المتحف المصرى الكبير إلا بوصفه رسالة لرؤية إنسانية شاملة.. فهو ليس مجرد مبنى فخم، بل فكرة تتجسد فى الحجر والزمن والوعى والجمال. ومن خلاله تؤكد مصر أن الحضارة ليست بقايا أثرية للعرض، بل هى روح تم استدعاؤها من قديم الزمان.. لتؤكد أن الثقافة قادرة على أن تكون لغة المستقبل فى عالم تخلى عن إنسانيته.
يقدم المتحف فى زمن تتسارع فيه أخبار الحروب والانهيارات.. مشهدًا مختلفًا لأضواء فوق الرمال القديمة، ترسل إلى العالم كله نداء جديدًا على أن الإنسان الذى يتمسك بذاكرته، يستطيع أن يصنع سلامه وأمانه بيده.
نقطة ومن أول السطر..
المتحف المصرى الكبير ليس فقط هدية مصر للعالم، بل هو وعد وعهد بأن تظل الثقافة جسرًا أمنًا بين الشعوب، وأن يظل الإبداع الإنسانى أقوى من أى اضطرابات أو صراعات أو حروب.
المتحف المصرى الكبير.. يمثل تجسيدًا لفكرة أن الحضارة ليست مجرد كلمات تردد.. بل هى واقع قديم ملهم لواقع مستقبلى جديد.







