الإثنين 3 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
موعد مع المجد

رسائل المتحف الكبير الحضارية لمصر والعالم

موعد مع المجد

سيكون العالم، وليس فى مصر وحدها، على موعد مع حفل أسطورى جديد، بافتتاح المتحف المصرى الكبير، السبت، الأول من نوفمبر، فى حدث لا نبالغ فى وصفه بأن عمره أكثر من 7 آلاف عام، بالنظر إلى ما يحتويه من كنوز وتراث شاهِد على تاريخ أعرق الحضارات الإنسانية، وهى الحضارة المصرية.



 

هكذا يُقاس حاضر الأمم، بتاريخها وإرثها الحضارى والثقافى، وما يحتويه تاريخها من ملاحم تمتد جذورها لأعماق التاريخ، لذلك نقف أمامَ حدث تتجلى فيه كل معانى التاريخ والجغرافيا، فهو موعد مع المَجد المصرى العابر للأزمان، «قمة الحضارة» بكل ما تعنيه الكلمة، يجتمع فيها قادة وملوك من جميع أركان العالم، فى لحظة يقفون فيها شهودًا على تدشين أكبر متحف فى تاريخ البشرية، يحتضن تراثَ وكنوزَ الأجداد.

 

 

ولا نبالغ بهذه الكلمات، فقبل أيام، توقف مثلاً، الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى حديثه بقمّة شرم الشيخ للسلام، التى عُقدت فى الثالث عشر من أكتوبر الماضى، أمام قيمة الحضارة المصرية، حينما أشار إلى أن «مصر لها حضارة تمتد إلى أكثر من 6 آلاف عام، أى أقدَم من حضارة الصين التى تعود إلى 5 آلاف عام».. والمعنى فى هذه الكلمات، أن التقدير الدولى لمكانة مصر كدولة مركزية ومحورية فى محيطها، يستند إلى ما تمتلكه من تراث وتاريخ حضارى.

 

 

لا أعتقد أن هناك دولة فى العالم، لديها ما تمتلكه مصر من كنوز وتراث لتاريخها القديم، للحد الذى يمكنها من افتتاح متاحف جديدة فى حقب زمنية متتالية، فهى تفتتح أكبر متحف فى تاريخ البشرية حاليًا، بعد نحو أربع سنوات فقط، من إدهاش العالم، حينما أبهرت العالم بموكب نقل المومياوات المَلكية فى أبريل 2021، ثم إعادة فتح طريق الكباش بالأقصر فى نوفمبر من نفس العام، إلى جانب أعمال الترميم والتحديث والإنشاء لمتاحف أخرَى فى المحافظات والمدن الجديدة، كمتحف عواصم مصر فى العاصمة الإدارية.

 

 

إذن؛ نحن أمام حدث فريد، تتجاوز رسائله حدود الزمان والمكان، ذلك أن مصر، تقدم أهم مشروع ثقافى وحضارى فى القرن الحالى، بمتحف أثرى هو الأكبر فى العالم، لتجدّد التأكيد من خلاله على حماية تراثها والحفاظ على هويتها الحضارية، وتقديم ذلك، كأحد أركان وفلسفة الجمهورية الجديدة.

 

 متحف بحجم التاريخ

 

خلال التشغيل التجريبى للمتحف، قادتنى مناسبة لزيارته من الداخل، غير أن ما رأيته من عظمة فى التصميم، والتراث المصرى القديم، دفعنى لتكرار زيارتى للمتحف ومقتنياته؛ حيث استوقفتنى كثيرًا أركانه، وقبل كل ذلك، تصميمه الهندسى الهرمى، الذى يُحاكى الحضارة المصرية القديمة، والتناغم فى العرض المتحفى مع المنطقة المقام فيها المُتحف، إلى جوار الأهرامات.

 

 

داخل أروقة المتحف، مئات الروايات والقصص التى تحكى «ملحمة الخلود» للحضارة المصرية، على مدار آلاف السنين، أذكر أننى توقفت كثيرًا أمام منطقة «البَهو العظيم»، وهى الساحة الداخلية لمبنى المتحف، التى يتوسطها التمثال الضخم، والشامخ، للمَلك رمسيس الثانى، الذى شُيّد ليكون فى مقدمة مستقبلى زوار هذا المتحف، وإلى جواره مجموعة من القطع الأثرية وتماثيل لملوك وملكات من عصور مختلفة، كل قطعة تروى جزءًا من تاريخ الحضارة المصرية.

 

 

ومن البهو العظيم للمتحف، يجد الزائر نفسَه أمام واحدة من أبرز قاعات العرض المتحفى الفريدة، وهى منطقة الدرج العظيم، الذى يضم مجموعة من أفضل وأضخم القطع الأثرية الثقيلة، التى تجسد روائع فن النحت فى مصر القديمة، وتروى عصورًا مختلفة من التاريخ المصرى، بداية من الدولة القديمة حتى العصر اليونانى والرومانى، ومن إبداعه الهندسى، أنه ينتهى بمشهد بانورامى يوضح أهرامات الجيزة.

 

 

وبالتالى يروى المتحف فصولاً تاريخية ممتدة من عصور الحضارة المصرية القديمة، وقبل ذلك يقدم توثيقًا مذهلاً لتطور الفكر والفن والعمارة المصرية قديما؛ ليشكل فى الوقت نفسه أعظمَ موسوعة حية تخلد عبقرية المصرى القديم وتُبرز إبداعَه العابر للزمان.

 

 

وإذا كان الهدف الأساسى من فكرة إنشاء هذا المتحف، هو أن يكون الأكبر فى العالم؛ ليروى قصة تاريخ الحضارة المصرية القديمة؛ إلاّ أن القيمة الحقيقية له، تتجاوز مسألة أنه الأكبر من حيث المساحة (500 ألف متر مربع)، ذلك أنه يشكل صرحًا حضاريًا وثقافيًا وترفيهيًا عالميًا متكاملاً، تروى قاعاته وأجنحته فصولاً عديدة من التاريخ المصرى القديم، والأهم من ذلك القطع الأثرية التى ربما تُقدَّم لأول مرة فى عروض متحفية.

 

 

هنا أريد أن أتوقف مثلاً مع حديث الأرقام، الذى يشير إلى أن عدد القطع الأثرية التى تم نقلها يتجاوز 51 ألف قطعة أثرية، وتتجاوز عدد القطع التى تم ترميمها فى المتحف 50 ألف قطعة، فيما تضم المجموعة الأثرية للملك توت عنخ آمون أكثر من 5 آلاف قطعة، وهى إحصائيات تعكس حجمَ ما يحتويه هذا الصرح من كنوز تروى التاريخ المصرى.

 

 

 قطع أثرية فريدة

 

نقطة الاختلاف الأخرى التى ينفرد بها المتحف الكبير، عن غيره من ساحات العرض المتحفى للآثار المصرية، أنه يقدم لأول مرة اكتشافات أثرية لزواره، ذلك أن من بين القطع التى سيتم عرضها «فأس حجرية»، يعود تاريخها إلى نحو 700 ألف عام، «حسب إدارة الترميم فى المتحف»، وهى من أقدم الأدوات التى استخدمها الإنسان المصرى.

 

 

أمّا نقطة التفرد الأخرى، فى جناح الملك الذهبى توت عنخ آمون؛ فبعد مرور أكثر من قرن على اكتشاف مقبرته، سيقدم المتحف، لأول مرة، كنوز هذا الملك مجتمعة داخل مكان واحد، بعد أن كانت موزعة بين المتحف المصرى بالتحرير والمخازن والمعارض الخارجية.

 

 

أمّا نقطة التفرد الثالثة؛ فهى متحف مراكب الملك خوفو، أو متحف مراكب الشمس، وهى واحدة من أعظم الاكتشافات الأثرية فى القرن العشرين، وتعود تاريخها إلى 4600 عام، وهى تحمل رمزية دينية وفلسفية فى الحضارة المصرية القديمة، وتُعرَض لأول مرة بعد ترميمها..

 

 

 دبلوماسية المتاحف

 

وانطلاقًا إلى ما يشكله هذا الصرح العظيم، من قيمة ثقافية وتراثية وحضارية؛ فإن حفل افتتاح المتحف، ليس احتفالاً عاديًا، أو مجرد حضور لقادة وزعماء وضيوف من الخارج للافتتاح، لكن لحظة تبدأ فيها الدولة عهدًا جديدًا من الإبهار والتراث، وترسّخ لما يمكن أن نسميه «دبلوماسية المتاحف» فى تعزيز جسور التواصل بين الشعوب، وتعميق التفاهم بين الثقافات.

 

 

هكذا يمكن النظر إلى حالة الشغف الدولى والعالمى، لافتتاح صرح المتحف الكبير، كنهج يقوم على توظيف الإرث التاريخى والحضارى، وكقوة ناعمة فى تعزيز العلاقات الدولية، وبناء صورة إيجابية للدولة ترسخ مكانتها الثقافية على الساحة العالمية، وكجسر للتواصل بين الشعوب، وهى معانٍ تتجاوز فى تأثيرها حدودَ المفاهيم الدبلوماسية التقليدية، لتمتد إلى أدوات تأثير وإقناع أبعد.

 

 

هكذا كانت الرسالة المصرية حينما أبهرت قبل سنوات العالم، فى حفل نقل المومياوات الملكية، وافتتاح طريق الكباش، وصولاً للمتحف الكبير، فهى تُعَبر بحضارتها وتراثها الذى يمتد لآلاف السنين، إلى الحاضر؛ لتؤكد على رسالتها الإنسانية والتاريخية كإحدى أدوات التأثير والتقارب، وليس كمَظهر من مظاهر الهوية فقط.

 

 

 انتصار للإرادة المصرية

 

نقطة التوقف الأخرى فى هذا الحدث الفريد، هى أن المتحف الكبير، لا يمكن النظر إليه بِعَدِّهِ مقصدًا أو رمزًا أثريًا ينافس نظائره فى العالم، بالنظر للكنوز التى يقدمها لزائريه؛ وإنما يجسد معانى انتصار الإرادة المصرية فى إحياء قيم الحضارة والتراث والثقافة كأحد معالم الجمهورية الجديدة.

 

 

وهذه فى حد ذاتها قصة تستحق أن تُروَى مع حدث افتتاح المتحف، ذلك أن قطاع المتاحف والآثار، بما يشهده من طفرة فى أعمال تحديث وتطوير وبناء، كان قد عانى منذ 2011، حتى ما بعد ثورة 30 يونيو 2013، بسبب عمليات الإرهاب، وأعمال النهب والحرق أحيانًا، وهنا نذكر ما تعرض له مثلاً متحف ملوى بمحافظة المنيا، الذى تعرّض فى أغسطس 2013، للسرقة والإتلاف والحرق.

 

 

وفى يناير 2014، تعرّض متحف الفن الإسلامى، لحادث إرهابى، بتفجير سيارة مفخخة، أدت لتدمير واجهة المتحف المقابلة، وتدمير عدد كبير من القطع الأثرية، حتى إن أعمال المتحف الكبير نفسه، توقفت بعد أحداث يناير 2011، إلى أن أعاد الرئيس عبدالفتاح السيسي، العمل فى المشروع عام 2014، ليستكمل بناءه وصولاً إلى مشهد افتتاحه، بعد 23 عامًا من وضع حجر أساسه؛ ليجسّد بحق إرادة الدولة على تذليل العقبات والإنجاز.

 

 

والواقع أن الدولة المصرية لم تكتفِ بترميم ما أتلفه «أهل الشر»؛ بل عملت على تقديم أفضل صورة للحضارة المصرية القديمة للعالم، وتصدير رسالة تلك الحضارة، إلى العالم، بشكل عصرى، من خلال متاحف عصرية حديثة، مثل متحف الحضارة والمتحف الكبير، ومتحف عواصم مصر بالعاصمة الإدارية الجديدة؛ لتؤكد على أن حماية مصر لا تبدأ فقط من حدودها بل من روحها وتراثها وحضارتها، وعمقها الإنسانى.

 

 

 لماذا بناء المتاحف؟

 

ولعل السؤال الذى قد يطرحه البعض؛ هل نحن فى حاجة إلى بناء متاحف جديدة؟، وهل هناك جدوَى من المتحف الكبير، ستعود على المواطن؟، فى ظل وجود متاحف أخرى يصل تعدادها وفق إحصائيات رسمية إلى نحو 83 متحفًا، منها ما هو فى القاهرة، مثل المتحف المصرى فى التحرير.. والواقع أن هذه تساؤلات المكاسب المتوقعة من المشاريع الأثرية والتراثية، ومدى ارتباطها بالناتج القومى.

 

 

وبعيدًا عن فلسفة إنشاء المتاحف الأثرية، التى تستهدف جمع وحفظ القطع الأثرية والمعروضات القيّمة، والتوعية بتاريخ الحضارات والشعوب؛ إلاّ أن مصر تمتلك مخزنًا حضاريًا وتنوعًا لا يُضاهى فى الأنماط والمنتجات السياحية، يتسع لعشرات المتاحف الأخرى، التى تروى تاريخ الحضارة المصرية.

 

 

والربط بين العوائد والمكاسب وبين مشروع المتحف، أمرٌ مطلوب وضرورى، ذلك أن الدولة تستثمر فى أحد أهم روافد السياحة، وهى السياحة الأثرية والتراثية؛ لزيادة مساهمة هذا القطاع (السياحة والآثار) فى الدخل القومى؛ خصوصًا أن هذا القطاع يشهد نموًا متزايدًا، حسب الإحصائيات الرسمية، بعد أن سجلت أعداد السياحة الوافدة خلال عام 2024، 15.8 مليون سائح، (وهى نسبة قياسية تفوق ما كانت تستقبله مصر قبل 2011)، مع الإشارة أيضًا، إلى ما تشهده المنطقة من تحديات جيوسياسية.

 

 

وبعيدًا عن العوائد الاقتصادية والسياحية، فهناك أبعاد أخرى ترتبط بهذا المشروع الفريد، من بينها تعزيز قوى الدولة الشاملة، بدعم قوتها الثقافية (كأداة ناعمة)؛ لتواصل تأثيرها خارجيًا بشكل عصرى، من خلال تراثها وآثارها التى لا يضاهيها مَثيل فى العالم.

 

 

وليس غريبًا؛ أن يرتفع صوت مصر الحضارى للعالم من جديد، بافتتاح هذا الصرح من مكان قمة الحضارة، بعد أيام من فوز المرشح المصرى الدكتور خالد العنانى، بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو، وبعد رعاية مصر لقمة شرم الشيخ للسلام، التى جمعت كبار قادة العالم؛ لإيقاف الحرب فى قطاع غزة، وفى ختام شهر الانتصارات (شهر أكتوبر).

 

 

والخلاصة؛ أن المتحف الكبير، حتى إن طال انتظار افتتاحه؛ إلاّ أنه أصبح حقيقة واقعية، تُضىء أنواره شمس الحضارة المصرية إلى العالم، فهو ليس مزارًا أثريًا فقط، بالنظر إلى هذا الكم الفريد من كنوز الحضارة المصرية القديمة؛ وإنما رسالة سلام وتواصُل وتفاهُم تمتد جسورها إلى كل الثقافات وشعوب العالم.