الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

حكايات «ابن الذوات»

حكايات «ابن الذوات»
حكايات «ابن الذوات»


لكل مهنة أساطيرها .. بل إن شئت قل: ملوكها.. وفى مدينة الموهبة «روزاليوسف» التى أفرزت صنايعية وأسطوات الصحافة المصرية تربى ونشأ «إحسان عبدالقدوس».. حتى صار واحدًا من أقطاب الأدب والصحافة الذين رسموا لوحات عميقة لمجتمعهم، وصارت أعماله من العلامات المحفورة فى التاريخ والوجدان المصرى.. لم يكن إحسان مجرد كاتب بارع تظل كتاباته عالقة فى الأذهان على مرّ العصور.. بل كان هو نفسه ظاهرة تستحق الدراسة والبحث والوقوف أمامها بالرصد والتحليل.. سواء كان ذلك بتحليل إبداعاته ما بين الرواية والقصة القصيرة والصحافة والسيناريوهات السينمائية، أو من خلال التنقيب فى سطور حياته الشخصية والاجتماعية على امتدادها وتنوعها والتى سجلها فى الكثير من مقالاته بخط يده.
فى 293 صفحة مُقسمة إلى تسعة أقسام قدّم الكاتب الصحفى الأستاذ «رشاد كامل» برشاقته المتفردة العديد من دُرر وجواهر «إحسان» ليكشف زوايا وأبعادًا جديدة فى حياته .. ولتجد نفسك فى النهاية أمام مجموعة من الكنوز الحقيقية والنادرة فى كتاب تحت عنوان « إحسان عبدالقدوس.. أسطورة روزاليوسف».

فى القسم الأول بعنوان «إحسان وحديث الذكريات» تتوقف أمام العديد من محطات ذكريات ومتاعب وتحديات إحسان داخل جدران «روزاليوسف»، ولكن من المقالات التى تستوقفك تلك المعنونة بـ«الشخصية المصرية والبيت المصرى» والتى نُشرت فى 3 يناير عام 1956 فى مجلة «روزاليوسف»، ففيها يتكلم إحسان وكأنه يعيش بيننا اليوم فى 2019 فيقول «الشخصية الوطنية أو الشخصية القومية لا يمكن أن تستورد من الخارج، والتجربة التى قام بها مصطفى كمال أتاتورك عندما أراد أن يفرض الشخصية الأوروبية على تركيا هى تجربة فاشلة.. ولن نستطيع أن نرسم شخصية مصرية بمجرد فرض ارتداء البنطلون على الفلاح المصرى أو فرض رقصة المامبو والسمبا على الشبان والشابات أو الكتابة بحروف أفرنجية من اليسار إلى اليمين أو بإصدار قانون يحتم على كل مصرى أن يأكل بالشوكة والسكين.. إن كل هذه مظاهر لا ترسم الشخصية الأصيلة، إلا إذا أردنا أن تكون لنا شخصية القرود التى تقلد زوار حديقة الحيوان».
عقدة اسم «إحسان»
فى القسم الثانى يكشف الكاتب الصحفى «رشاد كامل» مدى المعاناة الشديدة والمواقف الطريفة التى تعرض لها الطفل «إحسان عبدالقدوس» بسبب اسمه، حيث ظن الكثيرون أنه اسم «أنثى»، وكان ذلك محل سخرية!
يقول «إحسان»: «عندما التحقت بالمدرسة الابتدائية واحتاج الأمر طبعًا إلى تقديم شهادة الميلاد وفعلاً قدمتها، ولكن طلب الالتحاق قوبل بالرفض.. لأن المدرسة للبنين ولا تقبل فيها البنات طيب ومين قال إن إحنا عاوزين ندخل عندكم بنات؟! فكان الجواب بأنه مكتوب أمام اسمى فى شهادة الميلاد أنى «أنثى» فبحلقت أنا ووالدى فى الشهادة المذكورة فإذا بالكلام ده صحيح! أى أننى مكثت عشر سنوات وأنا بنت بس مش دارى».
ويستطرد إحسان: أخذنى والدى إلى المحكمة الشرعية، حيث أثبت أنى مذكر من الجنس الخشن فغيروا شهادة الميلاد.
ورغم أننى قد بلغت من العمر عتيًا، وعتيًا هنا أى ما يوازى 19 سنة، فمازال اسمى موضع شجار وخناق بين والدى ووالدتي.. فوالدتى مصممة على أن تنادينى بـ«سونة» ويصمم والدى بدوره على أن ينادينى بـ«سانو» وحجته فى ذلك أن اختياره يحوى من معانى الرجولة ما لا يحويه اسم «سونة» ثم إن اسم «سانو» اسم فرعونى قديم يدل على العظمة والمجد».
حتى الأساتذة كانت تسليتهم الوحيدة أثناء الدرس هو محسوبكم الغلبان الذى يحمل اسم «إحسان» فما كانوا يخاطبوننى إلا بصيغة الإناث فيقولون: جاوبى يا ست إحسان! قومى ياست إحسان صفر على عشرة يابت يا إحسان!
والدتى «روزاليوسف» كانت تقول لى: إن السبب فى تسميتك باسم إحسان هو أنه أثناء ولادتى وقفت بجانبها صديقتها الممثلة «إحسان كامل» فأطلقت اسم «إحسان» على أول أبنائها!
وصايا «روز»
بعد خروجه من السجن اتخذت «روزاليوسف» قرارًا بتعيين ابنها الشاب «إحسان عبدالقدوس» (25 سنة) رئيسًا لتحرير مجلة روزاليوسف بدلاً منها وكتبت له خطابًا يتضمن وصاياها قائلة: ولدى رئيس التحرير، عندما اشتغلت بالصحافة وأسست هذه المجلة كان عمرك خمس سنوات وقد لا تذكر أنى حملت العدد الأول ووضعته بين يديك الصغيرتين وقلت: هذا لك، ومرت عشرون عامًا قضيتها وأنا أراقب فى صبر وجلد نمو أصابعك حتى تستطيع أن تحمل القلم، ونمو تفكيرك حتى تستطيع أن تقدر هذه الهدية التى كونتها بدمى وأعصابى خلال سنين طويلة لتكون لك اليوم.
والآن قبل أن أضعك أمامى لأواجه الناس دعنى أهمس فى أذنيك بوصية أم إلى ابنها وصية جيل إلى جيل: مهما كبرت ونالك من شهرة، لا تدع الغرور بداخل نفسك، فالغرور قاتل، وكلما ازددت علمًا وشهرة فتأكد أنك مازلت فى حاجة إلى علم وشهرة، حافظ على صحتك فبغير الصحة لن تكون شيئًا، مهما تقدمت بك السن فلاتدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك، بل كن دائمًا شاب الذهن والقلب وتعلق حتى آخر أيامك بحماسة الشباب، حارب الظلم أينما كان، وكن مع الضعيف على القوى ولا تسأل عن الثمن، حاسب ضميرك قبل أن تحاسب جيبك، كن قنوعًا، ففى القناعة راحة من الحسد والغيرة، ثق أنى دائمًا معك بقلبى وتفكيرى وأعصابى فالجأ إليّ دائمًا. وأخيرًا «دع أمك تسترح قليلاً».
وكتب إحسان معلقًا على تلك الوصايا: «إنى أدع للسيدة «فاطمة اليوسف» أن تحكم على مدى اقتناعى بنصائحها بعد أربع سنوات من رئاستى للتحرير، ولكنى أعلم أنى فشلت فى الأخذ بنصحيتين: الأولى هى المحافظة على صحتى والثانية هى أن أريح والدتى ولو قليلاً».
وفى القسم السابع من كتاب «أسطورة روزاليوسف» يستوقفك النقاش الذى يدور بين «روز» و«إحسان» فيقول إحسان: «الكائن الحى الوحيد الذى لا أناقشه هو السيدة فاطمة اليوسف» ولا أناقشها لأنى أخافها، وأخافها لأنى أحبها، ولكن السيدة فاطمة اليوسف لا تقدر فضيلة الخوف ولا تؤمن بأن الخوف نوع من الحب حتى لو كان خوفًا عليها وعلى أعصابها وعلى حسن ظنها بي.
وفى الأسبوع الماضى أدليت بحديث لمندوب الإذاعة قلت فيه إن الفن فى مصر ينقصه المال.. المال لنرتقى بالمسرح والمال لنرتقى بالسينما والمال لنرتقى بالفنان، واستمعت السيدة فاطمة اليوسف إلى هذا الحديث ثم ضغطت على الجرس الذى يصل مكتبها بمكتبى وقالت فى هدوء وأنا واقف بين يديها: ابن مطيع وتلميذ صغير: الفن فى مصر ينقصه الفنان.
قلت فى استسلام: حاضر وبهذا انتهت المناقشة، ولكن كلمة حاضر ظلت واقفة فى حلقى كالشوكة ووجدت نفسى مضطرًا لأن أكمل المناقشة بينى وبين نفسى، هل صحيح أن الفن فى مصر لا يحتاج إلا إلى الفنان؟!
ومضى إحسان يشرح فكرته قائلا: ثراء الفنانين لا يعنى ثراء الفن، وإذا أقام «فريد الأطرش» عمارة أو اشترت أم كلثوم حتة أرض فليس معنى هذا أن الفن قد ارتقى، وقد يكون هذا صحيحًا لو أن أم كلثوم فكرت فى بناء مسرح حديث فخم يحمل اسمها بدل المرمطة بين سينما ريفولى ومسرح الأزبكية والسرادقات التى تقام لحفلاتها، أو لو فكر فريد الأطرش فى إقامة معهد موسيقى فخم يتولاه أساتذة عالميون.
ثقافة واسعة
كان إحسان عبدالقدوس واسع الثقافة، يطال قلمه كل صغيرة وكبيرة بدقة متناهية، وهذا ما يرصده القسم السابع من الكتاب فى مقال بعنوان: «تاريخ الكرة» حيث قال: ثارت صحف إنجلترا لهزيمة الفريق الإنجليزى لكرة القدم وكتب أحد النقاد: «يجب ألا ينسى اللاعبون أن بريطانيا هى التى اخترعت الكرة وعلمت العالم كيف يلعبها» فردت صحيفة ألمانية على الناقد الإنجليزى لتؤكد أن لعبة كرة القدم عرفت فى الصين فى القرن 300 قبل الميلاد فى عصر الإمبراطور تشنج سى وأنه من وضع قواعدها التى لا يزال معظمها ساريًا ومنها أنه حدد عدد اللاعبين فى كل فريق بأحد عشر لاعبًا».
وكان احتكاك «إحسان» مع مشاهير ونجوم عصره من سياسيين ورجال أدب وفكر وفن تربى ونشأ على رؤيتهم فى بيته أحد أسباب اكتساب تلك الثقافة المتنوعة، كما أن له العديد من الذكريات التى سجلها مع هؤلاء المشاهير ومنهم أمير الشعراء «أحمد شوقى» الذى كان ضيفًا دائمًا على سهرات وندوات «روزاليوسف»، فيقول «إحسان»: «الصورة التى أحتفظ بها فى ذاكرتى لشوقى بك «صورة مهزوزة ليست واضحة المعالم، فقد كنت فى السابعة من عمرى عندما رأيته وجلست إليه لآخر مرة «وكنا نسكن طابقًا فى إحدى العمارات التى يملكها وكان رحمه الله قد اتخذ من بدروم هذه العمارة مكتبًا يقابل فيه زواره ويعقد فيه مجالسه الأدبية، وكان إذا اشتد الحر خرج «شوقى بك» وعقد جلساته فى الحارة التى تقع فيها العمارة!
وكان يحلو لى فى هذه الأثناء أن ألعب «البلى» أمامه وكنت أكثر من الصياح والتشاجر مع أولاد الجيران، فكان رحمه الله ينادينى إليه ويربت على كتفى ويحاول أن يقنعنى بعدم الصياح وأذكر أن صوته كان شديد الانخفاض وكان يتحرك ببطء والابتسامة لا تفارق شفتيه، ولم يفلح «شوقى بك» فى إقناعى بالكف عن الصياح فكانت والدتى تأمرنى بالعودة إلى المنزل كلما خرج «شوقى بك» إلى الحارة وقد قال لها رحمه الله يومًا: إن ابنك سيكون أى شيء إلا شاعرًا فإن صياحه ليس فيه وزن، وقد حاولت عندما كبرت أن أنظم الشعر فلم أفلح!.>