الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

وداعا.. أسامة فوزى

وداعا..  أسامة فوزى
وداعا.. أسامة فوزى


 «أحيانا أمر بحالات إحباط تصل إلى اليأس لكننى مازلت متمسكًا بالحد الأدنى من حلمى أو أطراف هذا الحلم على الأقل.. ومع ذلك لقد أصبحت واثقًا – إلى حد كبير – من أن حلمى فى السينما والحرية التى أريد الوصول إليها من خلالها، لن يتحقق.. فالسنوات تمر وحالة السينما لا تشير لأى احتمال بأن يتحقق حلمى عن حرية هذا الفن فى المستقبل القريب»..

كانت تلك كلمات المخرج «أسامة فوزى» والذى رحل عن عالمنا صباح الثلاثاء الماضى 8 يناير 2019 عن 58 عامًا.. هكذا تحدث «أسامة» فى حوار أجريته معه ونشر فى 3 يونيو عام 2008.. قبل عشر سنوات كانت تلك حالة «أسامة»، كان وقتها يقوم بالتحضير لآخر أفلامه (بالألوان الطبيعية).. دون أن يعلم أنه سيكون بالفعل آخر أفلامه. ولا أحد يعلم كيف مرت السنوات العشر تلك على «أسامة» حتى يسقط هذا الفارس السينمائى تاركا وراءه أربعة أفلام فقط حققها فى 23 عامًا.
مخرج مثل «أسامة فوزى» بموهبته النادرة، وحسه الفنى غير المتكرر وجرأته وشجاعته.. كان لا يلقى سوى رفضًا تامًا من السوق السينمائية والقائمين عليها وقد فسر ذلك قائلا: «اكتشفت أن العيب ليس فى أفلامى ولكن فى السوق وآلياته والمسيطرين عليه والذين للأسف غير منتبهين لأهمية السينما، فلديهم مفاهيم معينة لا يريدون تغييرها ولا يريدون أن يقبلوا شيئًا آخر، فالمسيطرون على الصناعة ينظرون تحت أقدامهم ولا توجد لديهم سياسة صحيحة لمستقبل ومصلحة صناعة الفيلم المصرى، فقط يهمهم مستقبلهم ومصالحهم المادية».
مؤكدًا، بعد ما واجهه «أسامة» فى مشواره الفنى من قبح وتنمر وسلطوية ومحاولات دؤوبة ومستمرة لإحباطه وقمعه.. أن يقتل معنويًا ثم جسديًا.. نعم.. قتلوه، كلهم تآمروا على قتله، قتلوا موهبته وأحلامه. هؤلاء الجالسون على كراسى لا تليق بهم فى مكاتب مكيفة، مرتدين ملابسهم الرسمية،  متخيلين أنفسهم ولاة الفن والأوصياء عليه.. يتحكمون ويأمرون، يحبسون فى أدراجهم أوراقًا تحمل أفكارًا لا يجرءون على مجرد النظر إليها، يحبسون فى رفوفهم شرائط أفلام ربما يموتون لو لمسوها.. يجلسون متفاخرين بسلطتهم الزائفة..(أنت يا أسامة، بأفكارك وطموحك وأحلامك.. لن نسمح لك بالعمل، بالأمل، لن نسمح لك بالوجود..أخرج من جنتنا) وها قد خرج وترك لكم جنتكم، جنة الشياطين.. وإن كانت الشياطين أرق منكم.
هؤلاء الذين قتلوه، وإياهم أن ينعوه، هم كل منتج وموزع ورقيب ومسئول كنيسة أو أزهر.. وقف فى يوم ما أمام أحد أفلامه الأربعة، نعم، كل فيلم صنعه «أسامة» كان يجد هؤلاء أمامه متربصين ومترصدين، كل فيلم من الأفلام الأربعة تعرض لما يفوق طاقة أى إنسان وكأنه الوحيد الذى يصنع أفلامًا هنا، كل فيلم لم يأخذ فقط جزءًا من عمر «أسامة» ولكن أخذ من روحه أكثر حتى فاضت الروح وانتهى العمر.
ولأن السيرة أطول من العمر، فعلينا أن نتذكر كيف عاش هذا الحالم فى ذلك العالم، إليكم حكايته:
لعائلة فنية، والد وأخ منتجين، وياللسخرية، فقد كان العذاب الأكبر الذى يتعرض له «أسامة» يأتيه من المنتجين..الأب هو المنتج الكبير «جرجس فوزى» الذى صنع ما يتجاوز المائة فيلم..ثم حمل الشعلة من بعده الابن «هانى جرجس فوزى» ليستكمل هو الآخر رحلة صناعة الأفلام.. «أسامة» كان شابًا ذا صفات مميزة جدًا، عاش فى بيت يسكنه صناع سينما، لم تجعله (يشرب الصنعة) بما فيها من أرقام وحسابات. ولكنه شرب خلاصة الفن بروحه وأفكاره وهمومه.. التحق بمعهد السينما – قسم إخراج. وتخرج فى عام 1984، وقبل تخرجه وربما قبل التحاقه بالمعهد عمل كمساعد مخرج فى بعض الأفلام التى أنتجها والده، ومع العديد من المخرجين أصحاب الأسماء اللامعة فى عالم السينما مثل (بركات، أشرف فهمى، حسين كمال، يسرى نصر الله ورضوان الكاشف).
فى عام 1996 كانت بدايته كمخرج مع فيلم (عفاريت الأسفلت)، الذى أنتجته شركة والده، القصة كانت غريبة وجريئة، رغم أن أجواءها لا تختلف كثيرًا عن أجواء أفلام واقعية مخرجى الثمانينيات ولكن «أسامة» بسيناريو «مصطفى ذكرى» أضاف لها نوعًا من الجرأة والخروج غير العادى عن المألوف.. فالحكايات التى نعيشها فى يومين فقط، أقرب لحواديت ألف ليلة وليلة التى يحكيها أحد الأبطال فى بعض المشاهد.. ولكن ألف ليلة الخاصة بـ«أسامة» كانت تجرى أحداثها فى الحوارى الشعبية ومع مجموعة من المهمشين الحالمين بلحظات سعادة تبخل عليهم بها الحياة فى كثير من الأحيان.. بالطبع واجه الفيلم أزمة رقابية، فمن غير المعقول اعتبار أن مثل علاقات الحب والجنس هذه والتى نشاهدها بين جميع الأبطال فى أحداث الفيلم قابلة للحدوث فى الواقع أو فى الخيال.. يعرض الفيلم ويصبح علامة مميزة فى تاريخ السينما وأحد أهم أفلام التسعينيات، تختاره المهرجانات الدولية ليمثل مصر وينال العديد من الجوائز.. ويقرر الثلاثى (أسامة فوزى مخرجًا- مصطفى ذكرى كاتبًا- ومحمود حميدة بطلًا) أن يتعاونا معا من جديد فى مشروع ثان أكثر جموحًا يخرج للنور فى 1999.
(جنة الشياطين) سيناريو جمع مزيجا بين خيال ورواية لـ«مصطفى ذكرى» حملت عنوان «هراء متاهة قوطية» ورواية «الرجل الذى مات مرتين» للبرازيلى «جورجى أمادو».. قصة صعبة عن ثلاثة شباب يتجولون طوال الليل بجثة صديقهم، قصة غير عادية وأجواء غريبة أكثر مئات المرات من أجواء «عفاريت الأسفلت».. تحطيم كامل لكل صناديق الأفكار بما فيها صندوق البطل الميت من أول الفيلم لآخره. 85 دقيقة من السينما الخالصة. ولكن كالعادة يمارس الموزعون قهرهم المعهود، ويتجلى ضيق أفق موزعى الفيديو فيرفضون توزيع الفيلم طالما لم تصل مدته لـ90 دقيقة، يأخذ الفيلم جولته فى مهرجانات العالم ويحصد عددًا من الجوائز ولكن تكون نتيجته ابتعاد «مصطفى ذكرى» عن عالم السينما و«محمود حميدة» عن عالم الإنتاج.. وعودة «أسامة» لأحلامه  بمشروع سينمائى جديد، لعل هذا المشروع يكون أكثر رحمة مما سبق ولكن المشروع التالى يمثل التجربة الأقسى فى حياة «أسامة» الفنية.. فيعيش سنوات طويلة فى مأساة حقيقية اسمها «بحب السيما»، حيث تمارس عليه كل ألوان القهر والعذاب من وصاة الفن سالفى الذكر.
فى آخر فيلمين من إخراجه (بحب السيما) و(بالألوان الطبيعية) يتعاون «أسامة» مع الكاتب «هانى فوزى»، وإن كانت القراءة الأولى والواضحة للفيلمين تقول بأنهما عن سيرة ذاتية لـ«هانى» فى طفولته وشبابه إلا أنه وبنظرة أكثر عمقًا سنجد أنهما يعبران أيضًا عن «أسامة فوزى»، ولكن ليس كطفل وشاب يافع، بل كرجل ناضج واجه أنواعًا مختلفة من محاولات القمع والإحباط، ما يعيشه  «نعيم» ثم «يوسف» – الطفل ثم الشاب – فى الفيلمين هو ما عاشه «أسامة» فى مشواره الفنى، مواجهة المتشددين والمتطرفين والراغبين فى كبت كل أنواع الحرية، مواجهة أعداء الفن والذين يعتبرونه نقمة ولعنة تصيب المجتمع وليس نافذة للإصلاح والانطلاق.. الوقوف فى وجه أفكاره وأحلامه السينمائية ووضع المعوقات من أصحاب شركات الإنتاج والتوزيع، التدخل الرقابى، لجان التظلمات، اعتراضات الكنيسة والأزهر. من يفرضون سلطتهم على بطلى الفيلمين هم نفس الذين حاولوا فرض سلطتهم على المخرج الحالم، الذى لم يرتكب جرمًا فى حياته سوى (حبه للسيما).
فى نفس الحوار وردًا على سؤال حول سعيه الدائم لتحطيم التابوهات قال «أسامة»: «لا أتعمد ذلك أثناء صناعة الأفلام ولا أضعه فى اعتبارى، ولكنه يظهر فى النهاية أو يبدو كذلك أمام المجتمع المتحفظ، وربما يظهر لأننى أتعامل مع الفن كما تعلمته، ولأننى أؤمن أن فى داخل الفن ثورة، إن لم تتواجد فلن يكون الفن متفاعلا مع المجتمع ولن يحقق أى شيء، فوظيفة الفن هى التغيير والتمرد على الواقع الرديء الساقط تحت سيطرة أفكار بالية وتقاليد عفى عليها الزمن فقد وصلنا إلى درجة من التخبط فى فهم القيم والمفاهيم تصل إلى الفوضى».
مات «أسامة» كمدا، مات بعد أن سرقت أحلامه وتحطمت آماله، بعد أن مكث فى بيته عشر سنوات دون عمل.. دون أمل.. رحل إلى مكان أفضل، تاركا الحياة والسينما لكل من آذوه وأحبطوه، تاركًا لهم جنتهم يعيثون فيها غباءً.. تاركًا لهم (جنة الشياطين).>