السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كيف نجعل من أحداث الفواخر تاريخًا منسيًا؟ الرصاصة الحاسمة فى وأد الفتنة

كيف نجعل من أحداث الفواخر تاريخًا منسيًا؟ الرصاصة الحاسمة فى وأد الفتنة

لو فرضنا جدلا أن بناء كنيسة فى قرية الفواخر حقيقة وليس شائعة خبيثة، وأن الكنيسة بالفعل ‏تُبنى دون ترخيص، ما علاقة أهالى القرية من المسلمين بها؟ هم مجرد مواطنين، والبناء ‏قضية ينظمها القانون لا العرف، الإجراءات لا التقاليد، النظام العام لا التصرفات الفردية، ‏مؤسسات الدولة لا المشاعر الشخصية، وأقصى ما يمكن أن يفعله المعترضون هو إبلاغ ‏السلطات لا أكثر ولا أقل، أما الهجوم بشعارت دينية ونعرات قبلية، على بيوت مواطنين ‏مصريين مسيحيين وإشعال النيران فيها، فهو ليس عملا إجراميا موجها ضد هؤلاء ‏المواطنين فحسب بل هو ضد كل المصريين: الدولة وقوانينها وهيبتها ومفهومها، هو محاولة ‏لإعادة مصر إلى عصر القبيلة، هو إشاعة للفوضى ودهس للقانون، وأن يحل الفزع محل ‏الأمان، فى واقع مأزوم نعمل على كسر سلاسله.‏



 

المدهش أن مخالفات البناء فى مصر أو الاعتداءات على الأرض الزراعية تتجاوز حسابات ‏أى عقل طبيعى، ولم نسمع عن مواطنين يعيشون بجوار هذه المبانى المخالفة أو الأراضى ‏المعتدى عليها قد هددوا أو تربصوا او هجموا على أصحابها، وإنما لزم الجميع الصمت ‏وربما باركوا أصحابها، أو أهملوا أمرها للقانون وأجهزة الدولة، فلماذا يحدث هذا الصخب ‏العنيف عند شائعة بناء كنيسة دون ترخيص فى قرية نائية؟

يبدو أن هؤلاء المتطرفين والمتشددين يعانون من «ارتكاريا التديين» وليس التدين، وحين ‏يسمعون عن بناء كنيسة، يركبهم مليون عفريت أحمر، ويظلون يهرشون فى أجسادهم ‏بجنون، حتى تسيل دماؤهم الورعة، فيهيجون على من يتصورون أنهم وراء البناء، كما لو ‏أن عفاريت إيمانهم لا تهدأ إلا بمنع بناء دور العبادة، كما لو أنهم أدوا واجبهم فى حماية ‏الإسلام من خطرها الوهمى المحتمل!!‏

الأكثر دهشة أنهم يتجاهلون عمدا أحاديث لها حيثية من شيخ الأزهر، وهو عالم فى الدين ‏وأستاذ فى الفلسفة وقالها أكثر من مرة، ثم أعادها تعقيبا على أحداث قرية الفواخر: لا يوجد ‏فى الإسلام ما يمنع بناء الكنائس، ولا يوجد فى القرآن والسنة النبوية ما يحرم بناءها، وما ‏يحدث من مضايقات هى تقاليد وتراث ولا أصل لها فى الإسلام، القانون هو الذى ينظم بناء ‏دور العبادة، وليس مطلوبا منى كمسلم أن أغلق الكنيسة وأطفئ أنوارها وأمنع الصلاة فيها، بل ‏المطلوب أن أدافع عنها لو تعرضت لاعتداء.‏

كلام واضح لا لبس فيه.. ومن من؟ من الإمام الأكبر.‏

كنا تصورنا أننا تخلصنا من هذه الأعمال الغبية الإجرامية، وإن الرسائل التى بعث بها ‏الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى عموم المصريين وهو يحتفل مع مواطنيه المصريين ‏المسيحيين بأعيادهم أو وهو يوقع قانون بناء دور العبادة الجديد ليصبح أكثر إنصافا، قد ‏وصلت إلى الجميع دون استثناء، وفهموا مغزاها، وأن مواطنى الدولة متساوون فى الحقوق ‏والواجبات تماما أيا كان ديانتهم وأشكالهم ومراكزهم الاجتماعية، ولن تتسامح مع أى أعمال ‏فتنة.

لكن  يبدو أن ذيول الجماعات المتطرفة التى تناهض استقرار الدولة لم تقطع بعد، وما زالت ‏تلعب وتحاول أن تعيدنا إلى مربعات الفتنة التى أغلقناها فى السنوات الأخيرة، فتختبرنا فى ‏قرية نائية من أعمال محافظة المنيا!‏

لكن فى هذه المرة الموضوع مختلف كليا.. فلا جلسات صلح ولا قعدات عرفية ولا تبويس ‏لحى ولا كلام مطيباتية.. القانون هو السيد، هو الدرع والسيف لحماية هذا الوطن، خاصة أن ‏الدولة تعلمت الدرس ووعت أن التساهل مع المتزمتين الذين يلجأون إلى العنف أو يحرضون ‏عليه لا يصلح فى الجمهورية الجديدة، ويهدد سلامة تأسيسها.‏

وقد بثت تصريحات الأنبا مكاريوس أسقف المنيا الطمأنينة فى قلب كل مصرى، وهو يقول: ‏إن المسئولين على مستويات عدة أعلنوا أن الدولة لن تترك هذا الأمر يمر، ولن تدع ‏المتورطين فيه دون حساب، وهذا دور الدولة وهيبتها وسيادتها، ولا يمكن التفريط فيه، حتى ‏لو تسامحنا نحن، لسنا فى غابة، وكل شيء فى قرية الفواخر سيعود إلى أصله، وسوف تعود ‏بيوت المتضررين أفضل مما كانت عليه، دون تبرعات من أحد أو مساعدات من أحد.‏

إذن القانون السيد ودور الدولة فى حماية مواطنيها وتعويضهم عما لحق بهم إنسانيا ونفسيا ‏وماديا يغلق ملف الفواخر بطريقة تهين المجرمين سواء الذين حرضوا على الفتنة أو الذين ‏مارسوا العنف فعلا، وعليهم وثائق دامغة هم الذين نشروها بأنفسهم من باب التفاخر الهمجي!‏

لكن نريد أن تكون أحداث الفواخر هى آخر هذا النوع من الأعمال المشينة، طبعا حزم ‏القانون وصرامته رادع، لكن الثقافة رادع أقوى، لأن القانون مرتبط بواقعة، لكن الثقافة ‏مرتبطة بمفاهيم وحالة دائمة.‏

والثقافة لا تعنى إهمال مفاهيم دينية أو تعاليم دينية، وإنما تعنى كيفية التعايش مع العالم ‏والآخرين بوعى وتسامح وفهم.

وطبعا القبلية قبل أن تكون نظاما اجتماعيا، هى «حالة ثقافية»، لأنها مرتبطة بتقاليد ‏وموروثات وقيم، ومن يريد من المصريين أن يعود إلى جذوره القبلية، ويشعر أن انتماءه إلى ‏قبيلته أكثر قيمة من مصريته، عليه أن يعود أدراجه إلى الأرض التى هاجر منها ويعيش مع ‏قبيلته وعاداتها، فمصر أقدم دولة فى التاريخ.‏

وما حدث فى الفواخر يشى بالأبواب التى يجب أن نطرقها ونفتحها، لإحداث هذا التغيير ‏الثقافى، وأولها المدرسة، فالبنات المسيحيات فى الفواخر تعرضن لمضايقات فى المدرسة بعد ‏عمليات التحريض الهائلة التى امتلأت بها شبكات التواصل الاجتماعى، بل أن مدرسا سخر ‏منهن، وحين اعترض أولياء الأمور وراحوا إلى الناظر، لم يفعل شيئا.‏

إذن نحن فى حاجة كبيرة إلى إعادة تقييم وتأهيل مدراء المدارس والمدرسين والإدارات ‏التعليمية ليس فى المنيا فقط، وإنما فى محافظات الصعيد مبدئيا، فكما قلت التطرف له ذيول ‏والخلايا النائمة يمكن أن تنشط فى أى وقت حسب الأوامر التى تصدر إليهم من الخارج.‏

والتعليم بكل مستوياته كان واحدا من مراكز «العمل» المكثف للجماعات الدينية بكل أطيافها ‏لأكثر من أربعين سنة.‏

المدرس هو «عمود» التربية والتعليم الأول وليس المنهج، ونحن فى حاجة ماسة إلى إعادة ‏تدريب وتأهيل كل مدرسينا، من أجل رفع مستوى التعليم بشكل عام، وليتنا نضيف مادة جديدة ‏اسمها الآخر، نجمع مادتها من مؤلفات وكتابات كبار مثقفينا على مدار القرن الماضى كله، ‏وهى متوفرة وسهل الوصول إليها، عن قيم التسامح والمشاركة والتعاون والمواطنة والفهم ‏الإنسانى والمساواة والحقوق والواجبات..الخ.‏

وهذه مجرد بداية ضرورية..‏

أما المنيا  فهى صاحبة تاريخ طويل مع التطرف الدينى، حتى قبل أسيوط نفسها التى شهدت ‏عملية غزو من الجماعات الإسلامية لمديرية أمنها عقب اغتيال الرئيس أنور السادات فى ‏أكتوبر 1981، وسقط أكثر من مئة قتيل فيها، وقد وصلت إلى الدولة المصرية أول خيوط ‏التطرف الجديد فى عام 1968، لكنها لم تفهم الرسالة ولم تحاول أن تفسرها، كانت الشرطة ‏وقتها تطارد مجموعة من تجار المخدرات فى الجبل الشرقى لمدينة المنيا، وتقتحم الكهوف، ‏وبالمصادفة عثرت على مجموعة شباب ملتحين يتدربون على فنون المصارعة واستخدام ‏الأسلحة، وأثبتت التحقيقات معهم عدم وجود علاقة بينهم وبين تجار المخدرات، ولم يتجاوز ‏خيال المحققين واقع المخدرات إلى شىء آخر، وتصوروا أنهم مجرد شباب طائش «غاوي» ‏رياضة عنيفة، فأفرجوا عنهم بكفالات.‏

ربما لم ينتبه المحققون، لأن الخلايا النائمة لجماعة الإخوان لم يكن لها نشاط بارز وقتها، ‏والجماعة نفسها كانت فى محنة بعد محاولة الانقلاب والتدمير الفاشلة فى عام 1966، وكان ‏لها قيادتان بارزتان فى المنيا، الأول أمالت الحكومة رأسه وضمته إلى صفوفها وأرسلته فى ‏بعثه إلى الخارج وهو الشيخ أحمد إسماعيل نقيب مدرسى الابتدائى ورئيس الجمعية الشرعية، ‏والآخر الشيخ محمود عبد المجيد الذى أسس جمعية التقوى والإيمان بالقرب من محطة ‏السكك الحديدية، فى المساحة الفضاء تحت الكوبرى العلوى الذى يربط شرق المنيا بغربها، ‏ومن هاتين الجمعيتين تخرجت اللبنات الأولى فى تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية، ومنهم ‏خالد الإسلامبولى قاتل الرئيس السادات.‏

والمنيا محافظة فقيرة تحتاج إلى نمط غير تقليدى من التنمية، وقوافل ثقافية وفنية ودعوية لا ‏تتوقف، تجوب المراكز والقرى، تفك الجمود الفكرى وتروى التصحر الوجدانى الشائع.‏

تبقى كلمة أخيرة، إذا كان تنفيذ القانون كاملا وعقاب الفاعلين فى أحداث الفواخر هو مرحلة ‏فاصلة فى مثل هذا النوع من الفتنة، فإن إغلاق باب الحيل فى بناء دور العبادة بعد القانون ‏الجديد سيكون بمثابة «وأد» مسبق لتحريض المتطرفين على الفتنة.‏