ألحان السماء بأنامل «بليغ حمدى»

محمود صالح
الأيام القليلة الماضية فى القاهرة كانت مبهجة على نحو كبير، فما من وسيلة مواصلات عامة أو خاصة، وفى كل المقاهى والمحطات الإذاعية والتليفزيونية، إلا وكانت تتسلل إليها الأغنيات احتفاء بذكرى الملحن بليغ حمدى، ومن فرط التنوع ستندهش من أن أغلب الأغنيات التى أحبها المصريون «بشدة» وتعلق وجدانهم بها على نحو خاص، من أجيال متعددة، كانت من إبداعه.
أعظم أغانى عبدالحليم وأم كلثوم وشادية ووردة وميادة وعفاف راضى ونجاة وغيرهم من المطربين الكبار تتسلل مقطعا هنا ومقطعا هناك فى إطار احتفالات بدت هذا العام جادة ومقدرة لقيمة وحجم بليغ.. الملحن الأعظم.. ومن فرط الرقة والموهبة والتأثير لن تجد كلمة تعبر بها عن سعادتك بما أسداه بليغ للمصريين من فن سوى أن تردد عميقا من قلبك: الله.. ساعتها لابد أن تعرف أنه إلى جانب أغنياته العاطفية والوطنية الشهيرة فإن بليغ حمدى أيضا هو أهم من لحن أغانٍ دينية وصوفية.. أهم من لحن وقدم «الله» فى نوتة موسيقية.. أبدع من خاطب المصريين دينيا بالموسيقى.. وهذه فصول خفية من هذه القصة بعد عام 1967 وفى أعقاب الهزيمة العسكرية المروعة التى عرفت إعلاميا بـ«نكسة 1967» كان بليغ حمدى قد قدم عددا كبيرا من الأغانى الوطنية المباشرة، الحادة، الصاخبة، فى رفض الهزيمة، وفى ضرورة مواصلة المعركة التى كانت جبهاتها ممتدة وضارية، وفى أعقاب رحيل عبدالناصر، كان مشروع بليغ الأساسى لا يزال متوهجا لكنه يبحث عن منفذ جديد إلى قلوب الناس، خلال العامين 1971 و1972 تبدت الصورة ملتبسة بالنسبة لموعد الحرب القادمة، ما دفعه إلى أن يطرق باب الأغنية الدينية، مستكملا مرحلة كان قد أمضى فيها شوطا كبيرا خلال الخمسينيات والستينيات باستلهام الفولكلور والتراث الغنائى المصرى، هذه المرة أراد أن يطرق وجدان الشعب المصرى من خلال الدين، وعلى الرغم من شيوع حكاية أن الرئيس الراحل أنور السادات هو من أقنع بليغ حمدى بالتعاون مع الشيخ سيد النقشبندى فى حفل زفاف نجلته، وهى الحكاية التى أفاض فى تكرارها الإذاعى الراحل وجدى الحكيم، إلا أن الحقيقة أن بليغ كان قد بدأ بالفعل هذا التوجه قبلها بفترة، حيث لحن أهم أغنيات فيلم الشيماء، الذى قامت ببطولته سميرة أحمد وأحمد مظهر، وتم عرضه فى بدايات عام 1972، ويحكى قصة الدعوة الإسلامية من خلال سيرة شقيقة النبى، تبارى الملحنون فى تقديم أغنيات داخل الفيلم الذى حقق نجاحاً جماهيريًا لافتا، إلا أن بليغ حقق النجاح الأكبر من خلال تلحينه أغنية كتبها عبدالفتاح مصطفى تصور لحظة نجاة النبى من مشريكى قريش لحظة الهجرة، بدا لحن بليغ دراميا يصور كل لحظة، وتعلق جمهور الفيلم بصوت سعاد محمد الذى ظهر فى الأغنية حارا يفارق رتابة اعتادها الجمهور منها، هذه المرة كان صوتها هادرا وهى تغنى «يا داعيا ما أشجعه.. تعهدت قريش بقتله بضربة مجمعه.. لقد نجا.. لقد نجا».. وظلت هذه الجملة هى الأكثر نجاحًا فى الفيلم إلى يومنا هذا!
فى نفس العام أيضا 1972، كان المنشد الآتى من طنطا، والدرويش المهيب، حافظ القرآن، المتردد فى التعامل مع الفنانين والسياسيين، الشيخ سيد النقشبندى، ينال حظًا ما من الشهرة فى القاهرة بسبب موشح كان يردده فى الموالد وحلقات الذكر قام بتسجيله فى الإذاعة هو «أغيب وذو اللطائف لا يغيب» كتبه أحد مشايخ الأزهر القدامى هو عبد الرحيم البرعى، وعندما اقترح السادات أن يقدم أدعية وابتهالات من ألحان بليغ لم يكن يفاجئ بليغ الذى كان قد بدأ هذا الطريق بالفعل وبحسب ما رواه لى الكاتب الكبير محمود عوض، فإن بليغ كان يضع اسم النقشبندى فى نوتة صغيرة يدون فيها أفكاره وكان النقشبندى هو مشروع بليغ فى هذا العام، وكان قد تكلم مع الشاعر الغنائى الكبير عبدالفتاح مصطفى فى تجهيز عدد من الأغنيات الدينية ليغنيها النقشبندى قبل واقعة حفل زفاف نجلة السادات بشهور، من هذه الأغنيات «أقول أمتى».. كان بليغ ورغم حياته الشخصية الصاخبة نهمًا للقراءة، وقد اتصل بمحمود عوض ليخبره بأنه تكلم مع عبدالفتاح مصطفى ليكتب أغنية عن شفاعة الرسول للمؤمنين.. وكان تأثره شديدًا.. وكان يريد توثيق هذه الشفاعة فى أغنية!
داخل الاستوديو كان النقشبندى مترددا فى التعامل مباشرة مع بليغ، وكان يقول: «أنا بسمع أنه بيشرب وكده».. بعد أن استمع للمقدمة الموسيقية وصوت الكورال يدق الباب «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى» صرخ فى وجه الحضور «بليغ حمدى يإما راكبه عفريت.. يا إما أكثر قربا من الله من أى مخلوق».. ولم يخرج من الاستوديو لأيام قبل أن ينتهى من تسجيل «رباه يا من أناجى، يا ليلة فى الدهر، أشرق المعصوم» وغيرها من الأغنيات الست التى ظلت متوجة باعتبارها أفضل وأرقى وأعظم ما سمعه المصريون من ابتهالات إلى اليوم!