الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ليالى الأنس والفرفشة فى مصر القديمة

ليالى الأنس والفرفشة  فى مصر القديمة
ليالى الأنس والفرفشة فى مصر القديمة


عرف الإنسان المصرى - منذ قيام الدولة الفرعونية - بإتقانه الشديد للحرف اليدوية التى نافس فيها كل الشعوب المتزامنة فى تلك الفترة، مما منحه لقب (أبو الحضارات).
حضارة مصر لم تقف فقط عند حد المهن اليدوية، بل امتدت لتشمل العلوم المختلفة، والتى تطورت تطوراً كبيراً - لم تصل إليه أى من الحضارات الأخري- بشهادة التاريخ - من (طب) و(هندسة) و(فلك) وغيرها من العلوم الإنسانية. وظل هذا التطور مستمراً حتى بدايات الدولة العثمانية ليأتى السلطان (سليم الأول) وينقل كل الحرفيين المهرة ومعهم القضاة إلى الأستانة فى تركيا - مقر الدولة العثمانية - وهذا هو قدر مصر التى كانت منذ فجر التاريخ مطمعاً لكل حكام العالم.
  وبما أن (مصر ولادة) فلم ينضب معينها وأفرزت البديل، وبقوة الحماس والإرادة، امتدت رقعة المهن اليدوية وتعددت أشكالها وألوانها، خاصة مع نهاية الدولة العثمانية، وبداية حكم الأتراك لمصر. فى تلك الفترة ظهرت مهن كثيرة فى الشارع المصرى ، وارتبطت به ارتباطاً وثيقاً، خاصة فى الأحياء الشعبية التى تمثل القاعدة الجماهيرية الكبرى، والتى تمثلها أيضاً تلك المهن بشكل كبير، فهى سلاح ذو حدين بالنسبة لهم، إما لكفاية احتياجاتهم، أو للعمل والارتزاق عن طريقها، فهى مهن فى النهاية للبسطاء.. منهم وإليهم، باستثناء بعضها الذى ظهر لخدمة  البسطاء والأثرياء معاً، مثل (الداية) التى كانت تمنحها وزارة الصحة رخصة رسمية لممارسة مهنتها بعد خضوعها لتدريبات واختبارات تمكنها من مزاولتها. (الداية) كانت تحصل فى حالة الولادة الواحدة - فى عشرينيات القرن الماضى - على ربع جنيه من الأسرة المتوسطة وعلى جنيه واحد من الأسرة الثرية - وهو مبلغ فى وقتها ليس بالقليل - كذلك (الصييتة) - وهى مشتقة من (الصوت) - أى الذين يمارسون مهنة الغناء والإنشاد الدينى .. كانت هى الأخرى مهنة لخدمة الفقراء والأغنياء، فكلاهما يستعينون بهم إما فى زواج أو طهور أو عودة من أداء مناسك الحج أو فى الأعياد لإحياء تلك المناسبات و(الصييتة) تبدأ أجورهم من ( 5 ) قروش للمناسبات فى الأحياء الشعبية وصولاً إلى (3) جنيهات فى القصور والسرايات ، ومن أشهر الصييتة الذين ظهروا فى الفترة الخديوية (ألمظ وعبده الحامولي).
(فرقة حسب الله) كانت البديل (للصييتة) فى المناسبات والاحتفالات الخاصة سواء للفقراء أو الأغنياء، والتى ظهرت بقوة فى عشرينيات القرن الماضى بشارع (محمد علي) - أشهر شوارع الأنس والفرفشة فى تلك الفترة - فرقة حسب الله - بعيداً عن ارتباطاتها المسبقة المتفق عليها - كانت تجوب شوارع مصر عزفاً للموسيقى وفى كل الأحياء وبشكل يومى كنوع من  الاسترزاق، وهى ظاهرة اعتاد عليها المصريون كانت تشعرهم بالبهجة والسعادة، ومقابل ذلك كانوا يتسابقون فى إلقاء (القروش) البسيطة للفرقة من شرفاتهم ونوافذهم تحية لهم، أما عند إحيائهم المناسبات فيحصلون من البسطاء فى الليلة الواحدة على (50) قرشاً ومن الأثرياء علي
(2) جنيه.
(عازف الربابة) كان يعتبره الريفيون - سواء فى الوجه القبلى أو البحرى وخاصة القبلى - أيقونة المزاج الخاص بهم، وتحديداً فى لياليهم القمرية، فحكاواه تلمس أوتار وجدانهم كما تلمس أصابعه أوتار ربابته، وبالأخص الحكاوى المرتبطة بالبطولات والانتصارات كسيرة (أبو زيد الهلالي) و(عنترة بن شداد) ، ولايمنع أن يكون لأساطير الحب العذرى مثل (قيس وليلي) والجانب العاطفى من (عنتر وعبلة) نصيب من حكاواه.
  (الكتاب) - بضم الكاف - مهنة انقرضت منذ ستينيات القرن الماضى بعد أن ظلت تفرز حفظة القرآن الكريم من صغار السن الذين يصبحون شيوخاً للمستقبل، المهنة انتشرت على وجه الخصوص بالقرى والنجوع فى ريف مصر بوجهيه القبلى والبحرى، ليخدم كل طبقاته..الاختلاف الوحيد أن البسطاء كانوا يرسلون أبناءهم إلى (الكتاب)، والأثرياء كانوا يأتون بسيدنا-مسئول الكتاب - إلى سراياهم لتحفيظ أبنائهم، البسطاء كانت أجرتهم لسيدنا عبارة عن بيض وفطير مشلتت وفتة وما شابه، والأثرياء كانت أجرتهم تتراوح ما بين 50قرشاً - جنيه شهرياً ، إلى جانب مالذ وطاب من الطعام.
(السقا) كان يخدم أيضاً الطبقتين، بسبب عدم وجود مرافق وخدمات سواء فى الأماكن الشعبية أو الأماكن الراقية، وكان (السقا) يخضع لكشف طبى دورى للاطمئنان على سلامة صحته المرتبطة بدورها بصحة المواطنين، كما أن (السقا) كشرط من شروط حصوله على الرخصة الخضوع لاختبارات قياس قوة تحمله وقدرته على رفع الأثقال على اعتبار أن (القربة) المملوءة بالماء تزن حملاً ثقيلاً لابد من القدرة عليه.
كذلك (الشربتلي) الذى كان يحصل بموجب تلك المهنة على رخصة رسمية من الحكومة المصرية معتمدة من وزارة الصحة حفاظاً على صحة المصريين.. (الشربتلي) مهمته بيع الشربات ، خاصة فى الأحياء الشعبية، وكان الأشهر وقتها هو (شربات الورد)  الذى كانت تستخدمه معظم البيوت المصرية - آنذاك - احتفالاً بنجاح أولادهم فى المراحل التعليمية المختلفة وخاصة الشهادات.. أما كوب الشربات عند (الشربتلي) فكان سعرها 3مليمات فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى وحتى الخمسينيات.
(البيانولا) كانت أيضاً للفقراء والأثرياء، حيث تجدها منتشرة فى أحياء (السيدة زينب) و(الحسين) و(باب الشعرية) وفى المقابل تجدها أيضاً منتشرة فى أحياء (جاردن سيتي) و(مصر الجديدة) و(المعادي) إلى جانب معظم الأحياء الشعبية والراقية فى جميع أنحاء مصر، وكان الكل يستمتع بعزفها الرائع الذى كان له سحره ووقعه النفسى على كل من يستمع إليه والجزاء من نفس العمل فكان كل من يستمع إلى (البيانولا) لايبخل على صاحبها بما يجود به الله من حسنة تكافئه على جميل صنعه.
ويقابل (البيانولا) فى سحرها على الناس (الساحر) أيضاً،  وخاصة (الرفاعي) - لاعب الثعابين - وهى مهنة اختص بها الحى الشعبى والحارة الشعبية دون غيرها من بالأحياء الراقية، فلكل مقام مقال، كذلك اختص باالأحياء الشعبية (حلاق الرصيف) الذى كان يمارس مهنته نظير (بيضتين ورغيف عيش) - هكذا كانت أجرته مقابل عمله - ولامانع من الأجرة النقدية فى بعض الأحيان والتى كانت لاتزيد فى بدايات القرن الماضى عن (تعريفة) - أى (5) مليمات، وصلت فى نهاية الستينيات قبل انقراضها إلى ربع جنيه.
(العربجي) بعربته (الكارو) كانت وسيلة الانتقال الشعبية لدى كثير من الأسر الفقيرة، سواء فى المناطق العشوائية أوالشعبية والتى تحتل مساحة لابأس بها فى مصر. البسطاء كانوا يلجأون إلى (الكارو) لسببين .. الأول : رخص أجرتها حيث كانت لاتزيد عن تعريفة (5) مليمات للفرد، الثانى:عدم وجود وسائل بديلة وقتها- بداية العشرينيات - فلم يكن موجود سوى السيارات الملاكى أو الأجرة، حتى الأتوبيسات لم تكن قد ظهرت بعد، فلم تظهر إلا مع نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات مع ظهور شركة (مقار)، وظلت (الكارو) شريكاً فى وسائل الانتقال حتى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بعد انتشار الأتوبيسات وظهور الميكروباصات.
(مكوجى الرجل) لم يعد له وجود منذ الستينيات ، بعد أن ظلت سوقه رائجة على مدار أربعة عقود - منذ العشرينيات - سبقته إلى سوق كى الملابس (مكواة الفحم) التى انتشرت فى بدايات القرن، لكنها لم تدم طويلاً بسبب مخاطرها سواء من ناحية تلوث البيئة.. أو من ناحية تلوث الملابس التى قد يطولها سواد الفحم، فحلت (المكواة الرجل) بديلاً لها وحققت نتائج جيدة خاصة من ناحية فرد الملابس بطريقة جيدة وتحديداً بالنسبة للأصواف.
أما (صائد التماسيح)  فلابد من تمتعه بقدرات جسمانية ومهارية فائقة تعينه على صيد التماسيح فى مواسم الصيد التى تكون غالباً ما بين فصلى الخريف والشتاء.. مهمته صيدها وتمليح جلودها ودباغتها ثم تجفيفها وبيعها فى الأسواق لتجار الجلود الذين بدورهم يقومون بتصنيعها شنطاً نسائية وبالطبع تكون غالية الثمن، لندرة التماسيح، وبالتالى فهى مهنة البسطاء التى لاتخدم إلا الأثرياء.. ومن ذكرالتماسيح يستخرجون ما يسمى بـ (الحلل) وهو مقوى جنسى طبيعى للمصابين بالبرود الجنسى وأيضاً غالى الثمن لعدم توفره فى الأسواق بكميات كبيرة لدرجة أن سعره يفوق بكثير سعر الذهب، ولهذا السبب تم منع (صيد التماسيح)، الذى أدى إلى انقراض المهنة.>