أحمد إمبابى
كل الطرق تؤدى إلى القاهرة
عام إدارة الأزمات.. هل نجحت «الدبلوماسية النشطة»؟
فى الشهر الأول من عام 2025، كنت قد استمعت إلى تقدير موقف مباشر من وزير الخارجية، الدكتور بدر عبد العاطى عن واقع السياسة الخارجية المصرية وتحدياتها فى الفترة الراهنة، وشخّص الأمر وقتها، بأنه «لم يحدث فى تاريخ الدولة المصرية أن شاهدنا انفجارا للأزمات فى كل الاتجاهات، وفى توقيت واحد».
كان هذا الحديث ضمن إحاطة قدمها وزير الخارجية، لأعضاء المجلس المصرى للشئون الخارجية، فى مؤتمرهم السنوى، واعتبر أن «الظروف الضاغطة، تستدعى وجود سياسة نشطة خارجيا، أو«دبلوماسية نشطة»، تتعاطى مع كل الملفات والأزمات القائمة»، حماية للأمن القومى المصرى ومصالح مصر الخارجية.
ربما هذا الحديث، يفسر الفلسفة التى تتعاطى بها الدولة المصرية، مع حزام الأزمات النارى المحيط بها من كل اتجاه، خلال الأشهر الأخيرة، والقائمة على سياسة نشطة خارجيًا، تطرق كل الأبواب فى سبيل تهدئة الأوضاع الإقليمية، لاسيما فى دول الجوار المباشر، التى ترتبط بشكل مباشر بأمنها القومى، كالوضع فى غزة وليبيا والسودان.
والواقع ونحن فى ختام عام، ملىء بالتغيرات والتحولات فى كل اتجاه، كانت الدولة المصرية رقمًا أصيلًا فى معادلات الحل، ومحورًا مؤثرًا فى مسارات التسوية، بأدوار قائمة على مبادئ أساسية، أهمها «تغليب الحلول السياسية» على الخيارات العسكرية والصراعات، والحفاظ على كيانات ومؤسسات الدولة الوطنية.
فى هذا العام، كانت «كل الطرق تؤدى إلى القاهرة»، على غرار المثل شائع الاستخدام، «كل الطرق تؤدى إلى روما»، فى إشارة إلى أن هناك طرقًا متعددة لتحقيق نفس الهدف، أو للوصول إلى نتيجة واحدة، فالهدف المصرى الذى تعمل من أجله مصر تغليب إرادة السلام على منطق الصراع، وواجهت فى سبيل ذلك الضغوط، ولاتزال، من «عدو»، تدرك الدولة المصرية جيدًا ممارساته وأكاذيبه.
على مدار هذا العام، كانت طرق التهدئة والتسوية فى الإقليم تبدأ من القاهرة، هكذا قادت الدولة المصرية جهود وقف الحرب المأساوية فى قطاع غزة، وكانت فى نفس الوقت حائط صد لكل مخططات تهجير الفلسطينيين، وهكذا كانت محورًا لترتيبات وقف الصراع فى ليبيا والسودان، والحفاظ على كيانات تلك الدول، وهكذا كانت صوتًا داعيًا للتهدئة والاستقرار الإقليمى مع كل جبهة صراع أو نزاع مسلح، مثلما حدث فى الحرب الإسرائيلية الإيرانية فى شهر يونيو الماضى.
والمعنى هنا، أن المفهوم الغالب فى تحركات الدولة المصرية الإقليمية، كان «إدارة أزمات» هذه المنطقة، وتفكيكها بالصيغة التى تحفظ بها أمنها القومى ومصالحها الاستراتيجية، وتحافظ على سيادة الدول، وهو ما لخصه وزير الخارجية، بمفهوم «الدبلوماسية النشطة».
السودان ما بعد بيان 18 ديسمبر
نقطة التوقف الأولى، فى هندسة القاهرة لحلول أزمات الإقليم، ستكون مع أحدث المواقف الحازمة التى اتخذتها الدولة المصرية هذا العام، وهو الوضع فى السودان، والذى جرى صياغته فى بيان الثامن عشر من ديسمبر 2025، ببيان من رئاسة الجمهورية، رسمت فيه الدولة المصرية مجموعة من الخطوط الحمراء، للحافظ على وحدة وكيان الدولة السودانية.
صحيح أن محددات الموقف المصرى تجاه السودان ثابتة، وقائمة على مجموعة من المبادئ الأساسية، أهمها استقرار السودان، ودعم مؤسساته وعدم التدخل فى شئونه الداخلية، وإنهاء النزاع المسلح، غير أن الموقف المصرى هذه المرة كان شديد الحزم والوضوح، برسم الخطوط الحمراء التى تمس أمنها القومى المباشر، والتى لن تسمح بتجاوزها.
قيمة الموقف المصرى وتأثيره، يستند إلى ميراث من المواقف المشابهة، فهو نابع من دولة تجيد رسم خطوطها الحمراء، التى لا تسمح بتجاوزها، فهكذا رسمت فى وقت سابق، خط «سرت- الجفرة»، فى ليبيا كخط أحمر، ولم يستطع أى طرف دولى لاعب فى الساحة الدولية تجاوزه، ونفس الأمر، فى قطاع غزة، حينما صاغت من اليوم الأول موقفها الرافض لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، واعتبرته «خطًا أحمر» لن تسمح بحدوثه، كانت هى حائط الصد الذى أحبط كل هذه المخططات.
السودان لا يزال أسيرًا لدوامة النزاع المسلح، المستمر لأكثر من عامين ونصف عام، ولاتزال فاتورة هذا النزاع يدفعها الشعب السودانى ومؤسسات دولته يوميًا، ووصلت تعقيدات الأمور للحد الذى أصبحت معه الأوضاع عصية على أى حلول داخلية أو مبادرات إقليمية مطروحة، خصوصا مع التطورات الأخيرة فى دارفور، وسيطرة ميليشيا «الدعم السريع» على مدينة الفاشر، ومعها كانت التحولات الميدانية الخطرة على السودان نفسه، ذلك أن «الميليشيا» هى التى تسيطر على منطقة الغرب، فى مقابل سيطرة الحكومة الشرعية على باقى أجزاء السودان، كأننا أمام تكرار للنموذج الليبى واليمني.
ولم يعد خفيًا على أحد، الأطراف التى تدعم «الميليشيا»، أو التى تتساهل مع مسألة ظهور كيانات موازية فى السودان، بالشكل الذى قد يؤدى بالتقسيم الميدانى على الأرض، إلى تقسيم سياسى جديد، والأخطر من ذلك، أن «الدعم السريع» ليست الحركة الوحيدة التى تحمل السلاح فى السودان، فهناك حركات وكيانات أخرى دارفورية ومن الجنوب والشرق، لاتزال تحتفظ بالسلاح، وتصطف فى هذه الحرب إلى جانب الجيش، ومواقفها مرهونة بمصالحها ومصالح القوميات التى تعبر عنها، ما يعنى أن التسوية ليست مرهونة فقط بطرفى الحرب القائمة حاليًا.
والواقع أن السودان يعيش أيضا منذ ثورة ديسمبر 2018، التى أطاحت بنظام عمر البشير، فى دوامة من الانقسامات والاستقطابات الداخلية، التى تُصعِّب أى حلول سياسية يمكن أن تُصاغ، والتى كان أحدثها من «الرباعى الدولي»، مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، من هنا يمكن أن نفهم المعانى التى تضمنها بيان رئاسة الجمهورية، الذى تزامن مع زيارة رئيس مجلس السيادة السودانى للقاهرة.
كانت الرسالة الأساسية التى أرادت القاهرة التأكيد عليها، قائمة على رسم مجموعة من الخطوط الحمراء، التى لن تسمح بها وسط هذا المشهد المعقد، وحددت تلك الخطوط، فى مجموعة من النقاط الأساسية، وهي: «وحدة السودان واستقراره وسيادته، وعدم السماح بانفصال أى جزء من أراضى السودان، ورفض أى كيانات موازية والاعتراف بها»، وفى نفس الوقت احتفظت مصر بحقها فى اتخاذ ما يلزم لحماية أمنها القومى، وفقا للقانون الدولى واتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين.
لا أذكر أن الدولة المصرية اتخذت موقفها بهذا الوضوح والحزم، بشأن الأوضاع فى السودان، حتى وقت انفصال الجنوب فى 2011، والأحداث الذى مهدت له قبل اتفاق نيفاشا 2005، الذى أقر بحق تقرير المصير للجنوبيين، وقتها لم يكن موقف الدولة المصرية بهذا الوضوح والحزم، دفاعًا عن وحدة السودان واستقراره.
من هذا المنطلق، نستطيع أن ننظر للبيان الرئاسى تجاه السودان، كنقطة تحول فى المشهد السودانى، سيصاحبها تحركات تحقق المعانى الذى تضمنها هذا البيان، وأهمها حماية وحدة السودان واستقراره من أى محاولات للتقسيم، ورفض أى كيانات موازية من «الميليشيا»، ومنع الاعتراف بها.
وقف الحرب على غزة
وإذا كنا نتحدث عن تحرك دبلوماسى نشط فى الملف السودانى، فإن الدور المصرى المؤثر فى ملف الحرب على قطاع غزة، تكلل هذا العام بانتصار للإرادة المصرية، ولصوت السلام التى تتبناه كخيار استراتيجى، حينما حققت اختراقًا لحرب العامين، بقيادة ملف الوساطة بكفاءة فى مدينة شرم الشيخ، والوصول لاتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانب الإسرائيلى وحركة حماس.
فالنتيجة التى انتهت بها المفاوضات، التى قادتها القاهرة فى شهر أكتوبر الماضى، بمشاركة الوسطاء الدوليين، فى مدينة السلام «شرم الشيخ»، بوقف إطلاق النار بعد عامين من عدوان لم يُبق من القطاع سوى بقايا أنقاض، ما هو إلا «انتصار لإرادة السلام»، على حساب «منطق الحرب»، وانتصار لإرادة مصرية كانت تدعو منذ اليوم الأول لخيار الحل السياسى، فى مواجهة «تهور» إسرائيلى، لا يرى سوى خيار العدوان العسكرى.
وبعد أن أعطت القاهرة لهذا الاتفاق، الشرعية الدولية، باستضافة قمة شرم الشيخ للسلام، بحضور الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وقادة الدول الضامنة للاتفاق، تواصل تحركاتها لاستكمال بنوده، والانتقال للمرحلة الثانية منه، بما يضمن تثبيت وقف إطلاق النار، ووقف الممارسات العدوانية الإسرائيلية، والتمهيد لمرحلة إعادة الإعمار وتمكين السلطة الفلسطينية من إدارة القطاع مع الضفة الغربية.
ما يجب تسجيله للدولة المصرية، فى هذه القضية، أنها كانت حائط الصد، الذى أحبط كل مساعى إسرائيل لتهجير الفلسطينيين من غزة، وهذه شهادة أكد عليها رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلى السابق (الموساد)، يوسى كوهين، فى كتاب جديد له فى شهر نوفمبر الماضى، والواقع أيضا أن الجهود والمواقف المصرية، ما هى إلا خطى فى طريق السلام الشامل، الذى تتبانه الرؤية المصرية للقضية الفلسطينية، والقائمة على منح الشعب الفلسطينى حقوقه وتقرير مصيره، بتنفيذ مشروع حل الدولتين، وإعلان دولة فلسطين المستقلة.
مقاربة الحلول السياسية
ومن السودان وغزة، كانت القاهرة حاضرة بسياسة «نشطة»، أيضا فى إدارة باقى أزمات الإقليم، وترتيباته المختلفة، بداية من الأوضاع فى ليبيا، واليمن والصومال والبحر الأحمر، وصولا لإيران، والرابط بين هذه الملفات، المقاربة التى تتبناها الدولة المصرية، للتهدئة أو التسوية فى تلك الملفات، والقائمة بالأساس على فلسفة الحلول السياسية الداعمة لكيان الدولة الوطنية، ويبدو ذلك فى المواقف التالية:
فى ليبيا، لا يتقيد الحضور المصرى، بالخط الأحمر الذى رسمته فى وقت سابق، «سرت – الجفرة»، وإنما تتعاطى القاهرة برؤية ثابتة، قائمة على إنقاذ كيان الدولة الليبية، من الانقسام السياسى الحاد فى مؤسساتها، نتيجة وجود حكومتين، فى الشرق والغرب، وتبدأ خطة الإنقاذ، بضرورة استعادة وحدة المؤسسات الوطنية الليبية، حفاظا على وحدة الأراضى الليبية، تنفيذ القرارات الأممية الخاصة بخروج القوات الأجنبية والمرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا، ودعم الحل السياسى«الليبى - الليبى» دون إملاءات أو تدخلات خارجية، وصولًا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بالتزامن.
من هذا المنطلق، كانت القاهرة حاضرة فى عدة مناسبات على مدار العام، فى ترتيبات المشهد الليبى، من بينها استقبال الرئيس عبدالفتاح السيسى، قائد الجيش الليبى، المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، وفيها كان يتم التشديد على الثوابت المصرية، ومن بينها الالتزام بتقديم جميع أشكال الدعم والمساندة للجيش والمؤسسات الوطنية الليبية.
وفى الصومال، كانت القاهرة حاضرة دعما للسيادة الصومالية ووحدتها، بإعلان ترفيع العلاقات الثنائية إلى مستوى الشراكة الاستراتجية الشاملة فى هذا العام، مع دعم موقف مقديشيو، فى مواجهة الممارسات الإثيوبية، الهادفة للسيطرة على ميناء بحرى فى إقليم (أرض الصومال)، فى خرق واضح للسيادة الصومالية.
وأمام التحدى الوجودى لوحدة الأراضى الصومالية، ومؤسساته الشرعية، جاء الموقف المصرى، داعمًا لشرعية المؤسسات الوطنية فى الصومال، وترجم هذا الموقف اتفاقيات عديدة، منها بروتوكول تعاون عسكرى بين البلدين، وإعلان القاهرة مشاركتها فى بعثة قوات حفظ السلام الأفريقية بالصومال.
وفى البحر الأحمر، وأمام التهديدات التى تتعرض لها المصالح المصرية الاستراتيجية فى هذا المجرى الملاحى، على وقع هجمات الحوثيين أثناء حرب غزة، وتأثيراتها المباشرة على قناة السويس، كانت القاهرة حاضرة أيضا فى إدارة حالة الهشاشة وعدم الاستقرار فى منطقة القرن الأفريقى، بمقاربة حازمة، تستند إلى ضرورة «حوكمة إدارة وتأمين البحر الأحمر»، من خلال حماية السيادة الوطنية للدول المطلة، والتعاون الجماعى لحماية المصالح المشتركة.
من هذا المنطلق، كانت القاهرة قبلة لعديد من الترتيبات مع دول القرن الأفريقى، وتحديدا الصومال وإريتريا وجيبوتى، بهدف تفعيل المبادرات الإقليمية لحماية الملاحة ومكافحة الإرهاب البحرى، ومن بينها تفعيل التعاون الأمنى فى إطار مجلس «الدول العربية والأفريقية المتشاطئة على البحر الأحمر وخليج عدن»، وهو مجلس جرى تشكيله بمبادرة من السعودية عام 2020.
وفى لبنان، تقف القاهرة داعمة لاستقراره ووحدته الوطنية، والأهم تجنب عودة التصعيد مرة أخرى فى الجبهة اللبنانية من الجانب الإسرائيلى، وهنا تقود الدولة المصرية جهودًَا مكثفة بهدف تثبيت وقف إطلاق النار فى الأراضى اللبنانية، والتشديد على رفض الانتهاكات الإسرائيلية للأراضى اللبنانية، وضرورة الانسحاب الفورى من منطقة الجنوب.
وربما تعكس الزيارات المتبادلة بين كبار المسئولين فى البلدين، والاتصالات المستمرة، مستوى التنسيق المصرى اللبنانى، ومساحة الثقة والمصداقية التى يحظى بها الدور المصرى الداعم للبنان، ذلك أن التقدير المصرى، ينظر لاستقرار لبنان، ركيزة أساسية لأمن واستقرار المنطقة العربية بأسرها.
الاتفاق النووى الإيرانى، حققت القاهرة اختراقًا لهذا الملف الإقليمى، وطرحت نفسها كفاعل أساسى فيه، حينما قادت الوساطة بين طهران، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، انتهت بتوقيع «اتفاق القاهرة»، فى شهر سبتمبر الماضى، بهدف استئناف التعاون بين الجانبين، بما يشمل إعادة إطلاق عمليات التفتيش على المنشآت النووية الإيرانية.
ورغم التعثرات التى يوجهها الاتفاق، فإن اتصالات القاهرة لاتزال حاضرة فى هذا الملف، بهدف بناء الثقة وتهيئة الظروف لاستمرار التعاون بين إيران والوكالة، دعمًا للتهدئة الإقليمية.
والخلاصة، أن التدخل المصرى النشط فى كل قضايا وملفات الإقليم، ما هو إلا تعبير عن رؤية سياسة خارجية، تستهدف التأثير الإيجابى فى أزمات المنطقة، وتهيئة الظروف لتغليب الحلول السياسية، على حساب منطق الصراع، حمايةً للأمن القومى المصرى، وتتبنى القاهرة فى هذا الإطار نظرية «الاتزان الاستراتيجي»، القائمة على مجموعة من المحددات، من بينها عدم الاستقطاب، والانحياز لمبادئ القانون الدولى والمواثيق الدولية، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والأهم احترام المؤسسات الوطنية للدول.











