الأحد 28 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
تنفيذ القانون لا يقطع أكل العيش!‏

تنفيذ القانون لا يقطع أكل العيش!‏

من عاداتى السيئة متابعة كل ما يخص الطريق والمرور والشوارع، عادة مؤلمة موجعة، ‏لكنها ضرورية، فالطريق أو الشارع ليس مجرد «مسار» على الأرض يتحرك عليه البشر ‏والمركبات، هو عنوان صارخ للحالة الحضارية التى عليها المجتمع، وإذا كانت الطرق ‏المصرية السريعة قد تطورت فى الآونة الأخيرة وارتفعت جودتها إلى المعدلات العالمية، إلا ‏أن كثيرا من شوارعنا البعيدة عن «بؤر الاهتمام والمراكز النافذة» لم تقترب منها «الحداثة»، ‏ولا تقتات إلا على فتات من النظام والانضباط!‏



ولهذا سعدت جدا بأخبار مجلس الوزراء وموافقته على مشروع تعديل قانون المرور، بتغليظ ‏العقوبات على بعض الجرائم المرورية، للحد من حوادث الطرق، وتقول أرقام الجهاز ‏المركزى للتعبئة والإحصاء إن عدد المتوفين فى حوادث الطرق عام 2024 بلغ «5260» ‏شخصا، وعدد المصابين 67362 فردا.‏

والحديث قديم ومتشعب عن أسباب الحوادث، ويظل العنصر البشرى مستخدم الطرق هو ‏المسئول الأول عنها صاحب بتصرفاته أو بقيادته مركبات تفتقر متطلبات الآمان.‏

ولأن الحكومة تعرف هذه الحقيقة، انصبت تعديلات تغليظ العقوبات على سلوكيات السائقين ‏والمركبات غير المرخصة.‏

وقد توقفت عند المادة 54 فقرة أولى، التى تنظم تسيير أية مركبة فى الطريق دون ترخيص، ‏وسألت نفسي: هل مجلس الوزراء يصنف التوكتوك ضمن المركبات التى يجب أن تٌرخص أم ‏لا؟ ‏

قد يتساءل البعض ساخرًا: ما هذه الهيافة؟، كيف تركت مغزى القانون فى ضبط السير على ‏الطرق السريعة التى حوادثها كوارث وتمسك فى التوكتوك الضعيف، أنتم الصحفيون تهتمون ‏بخبر الإنسان الذى عض كلبا، ولا يعنيكم الكلب الذى عض إنسانا، تستهويكم الإثارة لا ‏الموضوعية، ألا تعلم أن «التوكتوك» يوفر «اللقمة» لبضعة ملايين من المصريين؟، هل تريد ‏أن تقطع عيشهم؟

كلام يبدو منطقيا، لكنه ينسف فلسفة القانون من أساسه، فالقانون هو مجموعة قواعد ملزمة ‏لتنظيم سلوك الأفراد وعلاقاتهم داخل المجتمع، مع فرض عقوبات على من يخالفها، حفاظا ‏على النظام وضمانا للاستقرار، وتحقيقا للعدالة، والتنازل عن تنفيذ هذه القواعد طواعية أو ‏سهوا لأى سبب هو نوع من إسقاط هيبة القانون والسخرية منه، والهيبة رادع ضد الجريمة، ‏وقطعا أى مجتمع مهما كانت صرامته لا يخلو من حالات التلاعب بالقانون، لكن فى ‏المجتمعات العفية هى حالات فردية مهما كثر عددها بحيث لا تهدد فكرة القانون وفلسفته.‏

والسؤال: ماذا يعنى أن تتحرك بضع ملايين من المركبات فى شوارع المحافظات دون ‏تراخيص لها ولا لسائقيها الذين نصفهم صبية؟، ما الذى يفهمه أصحاب هذه المركبات ‏وسائقوها من تركهم أحرارا من قانون المرور، ومنهم بلطجية ومشاغبون صدروهم مفتوحة ‏لجر الشكل؟

قطعا القانون ينظم حركة أى مركبة مهما صغرت، لكن التنفيذ هو الذى «يسهو» أو يغمض ‏عينيه، ولهذا لا تحترم التكاتك أى قواعد مرور، وقد رأيت بنفسى مواطنين ضربتهم تكاتك ‏تمشى عكس الاتجاه، بعضها فى طرق رئيسية بين المحافظات.‏

القانون له معنى واحد، وأى انتهاك علنى له دون عقاب يفقده عذريته، ويجعل شرفه مثل ‏ولاعة يستخدمها كل منحرف، ولنا مثال زاعق فى مخالفات البناء التى غزت مدننا وشوهتها ‏تماما، وأجبرت الحكومة على الاعتراف بها والتصالح معها مقابل غرامات، والغرامات لن ‏تعيد للمدن والبشر ما خسروه من «حقوق ومصالح» لأكثر من خمسين،نتيجة عدم الالتزام ‏بشروط البناء، وهى خسائر ممتدة فى الزمن لأجيال!‏

صحيح أن الحكومة تعمل الآن على إحلال وسائل انتقال أكثر جودة من التكاتك، لكن هذه ‏عملية تستغرق سنوات لأسباب كثيرة مزروعة فى أرض الواقع، لكن إذا نفذت الحكومة ‏القانون على التكاتك جميعها، فربما تنصلح الأحوال، وتنتظم الحركة فى الشوارع بطريقة ‏صحيحة، والنظام لا يمكن أن يكون ضد أكل العيش.‏

المدهش أن عدوى التكاتك أصابت سائقى المكيروباصات والموتوسيكلات وعددا غير قليل من ‏أصحاب السيارات الخاصة، الذين رأوا فى احترام الطريق وقواعد المرور فى شوارع ‏الأحياء نوعا من العطلة والسذاجة وقلة الحيلة، ويمكن أن نصطحب أى مسئول عن المرور ‏ونمر على بعض أحياء القاهرة أو الأسكندرية أو طنطا ..الخ، ونرصد سويا سلوكيات ‏السائقين فى الشوارع التى ليس بها رجال مرور، ويمكن أن نبدأ من شارع بورسعيد أطول ‏شوارع القاهرة أو شارع طومان باى أو روض الفرج أو مصر والسودان، أو شارع أبوقير ‏بالإسكندرية فى الجزء الشرقى منه، أو..أو، وهى شوارع رئيسية وعليها حركة كثيفة.‏

نعم نضحت أخلاق التوكتوك على كثير من بهوات أهل مصر، فاختفى الفارق بين ‏العشوائيين والمتعلمين فى التعامل مع الطريق.‏ وذات مرة سألت ضابط مرور عن سبب ترك التكاتك وعبثها..‏

أجاب مبتسما: الناس هى السبب

قلت متعجبا: إجابة غير متوقعة..‏

قال: بالعكس الصورة واضحة جدا، حين تمسك الشرطة «توكتوكا» وتحبس سائقه للتحقيق، ‏وفى الغالب يكون حدثا أقل من 18 سنة، لا تمر ساعة إلا وتجد على باب القسم خمسين أو ‏ستين مواطنا، أبوه وأمه وإخواته البنات والجيران يتوسلون ويصرخون: حرام عليكم تقطعون ‏عيشنا، يعنى نموت من الجوع! 

سكت وقال: هذا ضغط اجتماعى ثقيل جدا يصعب تجاهله.‏

قلت: تنفيذ القانون يضبط حركة المجتمع، وينظم ضغوطه الاجتماعية، صحيح أن الرحمة ‏فوق العدل أحيانا، لكن الرحمة لا تعنى الفوضى.. إهمال القانون لأى سبب يصنع نوعا من ‏الفوضى القابلة للاتساع تدريجيا حتى لو بدأت ضئيلة غير مؤثرة، مثلما حدث مثلا فى شارع ‏‏26 يوليو ما بين ميدان الأسعاف ومطلع كوبرى الزمالك، المحلات تكاد تغلق الشارع بما ‏تعرضه من بضائع أخذت مساحات وساسعة من الشارع، ثم امتدت إلى شارع الجلاء وحول ‏مستشفاه وشارع الصحافة..الخ.‏

قال: فى ظروف مجتمعنا يصعب أن نتجاهل روح القانون وأحوال الناس وثقافتهم، هى حالة ‏عامة وليست نماذج فردية يمكن حصارها وضبط تصرفاتها.. قبل أيام ضبطت ميكروباصا ‏يسير عكس الاتجاه ويعرض ركابه والمارة للخطر، تخيل لم أخلص من الركاب أنفسهم، ‏نزلوا يدافعون عن الخطأ، ويرجون العفو عنه، وحين رفضت احتراما للقانون ومنعا للخطر، ‏تحولت كلماتهم إلى سهام نارية، ربنا على الظالم يعنى هو أخطر من تجار المخدرات، لا ‏تقطعوا عيش الغلابة..الخ، خذ عندك ما يحدث عند إزالة المبانى المخالفة أو طرد الباعة ‏الجائلين المعتدين على الأرصفة.. الناس ترفض، هذه ثقافة شائعة فى المجتمع.‏

قلت: أرجوك لا تغضب مني..الحكومة هى من ربتهم على هذه الثقافة من عشرات السنين.‏

ارتسمت دهشة واسعة على وجهه..‏

قلت: لا تتعجب..المواطن ابن نظامه العام، ومن زمن بعيد جدا والحكومة تترك للناس الحبل ‏ممدودا، لعلهم ينسون عدم قدرتها على حل مشكلاتهم فى الإسكان والصحة والتعليم ‏والنقل..الخ، سابت الناس تتصرف على راحتها، ربما يجدون بأنفسهم حلولا بطريقة مقبولة ‏منهم، والناس بطبعه تميل إلى الأسهل والأسرع، فكانت العشوائيات حلا، والعشوائيات ليست ‏مبانى، وإنما هى سلوكيات وتصرفات ونمط حياة وأخلاق.‏

لكن الآن نحن نؤسس جمهورية جديدة، لا تصلح معها الأساليب القديمة، صحيح أن القديم ‏الذى تأقلم عليه الناس لا يتعدل بين يوم وليلة، لكن مهم أن نبدأ فورا، وتعمل الحكومة على ‏أن يشعر الناس بجديتها فى تطبيق القانون على الجميع دون استثناءات.‏ وانتهى الحوار مع الضابط المحترم بود شديد..‏

باختصار الشارع عنوان لنا وللجمهورية الجديدة، فهل يمكن تنفيذ القانون، دون أن نغفل ‏روحه بشرط إلا يسبب ضررا للآخرين فى حياتهم اليومية؟!‏