نبيل عمر
تنفيذ القانون لا يقطع أكل العيش!
من عاداتى السيئة متابعة كل ما يخص الطريق والمرور والشوارع، عادة مؤلمة موجعة، لكنها ضرورية، فالطريق أو الشارع ليس مجرد «مسار» على الأرض يتحرك عليه البشر والمركبات، هو عنوان صارخ للحالة الحضارية التى عليها المجتمع، وإذا كانت الطرق المصرية السريعة قد تطورت فى الآونة الأخيرة وارتفعت جودتها إلى المعدلات العالمية، إلا أن كثيرا من شوارعنا البعيدة عن «بؤر الاهتمام والمراكز النافذة» لم تقترب منها «الحداثة»، ولا تقتات إلا على فتات من النظام والانضباط!
ولهذا سعدت جدا بأخبار مجلس الوزراء وموافقته على مشروع تعديل قانون المرور، بتغليظ العقوبات على بعض الجرائم المرورية، للحد من حوادث الطرق، وتقول أرقام الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء إن عدد المتوفين فى حوادث الطرق عام 2024 بلغ «5260» شخصا، وعدد المصابين 67362 فردا.
والحديث قديم ومتشعب عن أسباب الحوادث، ويظل العنصر البشرى مستخدم الطرق هو المسئول الأول عنها صاحب بتصرفاته أو بقيادته مركبات تفتقر متطلبات الآمان.
ولأن الحكومة تعرف هذه الحقيقة، انصبت تعديلات تغليظ العقوبات على سلوكيات السائقين والمركبات غير المرخصة.
وقد توقفت عند المادة 54 فقرة أولى، التى تنظم تسيير أية مركبة فى الطريق دون ترخيص، وسألت نفسي: هل مجلس الوزراء يصنف التوكتوك ضمن المركبات التى يجب أن تٌرخص أم لا؟
قد يتساءل البعض ساخرًا: ما هذه الهيافة؟، كيف تركت مغزى القانون فى ضبط السير على الطرق السريعة التى حوادثها كوارث وتمسك فى التوكتوك الضعيف، أنتم الصحفيون تهتمون بخبر الإنسان الذى عض كلبا، ولا يعنيكم الكلب الذى عض إنسانا، تستهويكم الإثارة لا الموضوعية، ألا تعلم أن «التوكتوك» يوفر «اللقمة» لبضعة ملايين من المصريين؟، هل تريد أن تقطع عيشهم؟
كلام يبدو منطقيا، لكنه ينسف فلسفة القانون من أساسه، فالقانون هو مجموعة قواعد ملزمة لتنظيم سلوك الأفراد وعلاقاتهم داخل المجتمع، مع فرض عقوبات على من يخالفها، حفاظا على النظام وضمانا للاستقرار، وتحقيقا للعدالة، والتنازل عن تنفيذ هذه القواعد طواعية أو سهوا لأى سبب هو نوع من إسقاط هيبة القانون والسخرية منه، والهيبة رادع ضد الجريمة، وقطعا أى مجتمع مهما كانت صرامته لا يخلو من حالات التلاعب بالقانون، لكن فى المجتمعات العفية هى حالات فردية مهما كثر عددها بحيث لا تهدد فكرة القانون وفلسفته.
والسؤال: ماذا يعنى أن تتحرك بضع ملايين من المركبات فى شوارع المحافظات دون تراخيص لها ولا لسائقيها الذين نصفهم صبية؟، ما الذى يفهمه أصحاب هذه المركبات وسائقوها من تركهم أحرارا من قانون المرور، ومنهم بلطجية ومشاغبون صدروهم مفتوحة لجر الشكل؟
قطعا القانون ينظم حركة أى مركبة مهما صغرت، لكن التنفيذ هو الذى «يسهو» أو يغمض عينيه، ولهذا لا تحترم التكاتك أى قواعد مرور، وقد رأيت بنفسى مواطنين ضربتهم تكاتك تمشى عكس الاتجاه، بعضها فى طرق رئيسية بين المحافظات.
القانون له معنى واحد، وأى انتهاك علنى له دون عقاب يفقده عذريته، ويجعل شرفه مثل ولاعة يستخدمها كل منحرف، ولنا مثال زاعق فى مخالفات البناء التى غزت مدننا وشوهتها تماما، وأجبرت الحكومة على الاعتراف بها والتصالح معها مقابل غرامات، والغرامات لن تعيد للمدن والبشر ما خسروه من «حقوق ومصالح» لأكثر من خمسين،نتيجة عدم الالتزام بشروط البناء، وهى خسائر ممتدة فى الزمن لأجيال!
صحيح أن الحكومة تعمل الآن على إحلال وسائل انتقال أكثر جودة من التكاتك، لكن هذه عملية تستغرق سنوات لأسباب كثيرة مزروعة فى أرض الواقع، لكن إذا نفذت الحكومة القانون على التكاتك جميعها، فربما تنصلح الأحوال، وتنتظم الحركة فى الشوارع بطريقة صحيحة، والنظام لا يمكن أن يكون ضد أكل العيش.
المدهش أن عدوى التكاتك أصابت سائقى المكيروباصات والموتوسيكلات وعددا غير قليل من أصحاب السيارات الخاصة، الذين رأوا فى احترام الطريق وقواعد المرور فى شوارع الأحياء نوعا من العطلة والسذاجة وقلة الحيلة، ويمكن أن نصطحب أى مسئول عن المرور ونمر على بعض أحياء القاهرة أو الأسكندرية أو طنطا ..الخ، ونرصد سويا سلوكيات السائقين فى الشوارع التى ليس بها رجال مرور، ويمكن أن نبدأ من شارع بورسعيد أطول شوارع القاهرة أو شارع طومان باى أو روض الفرج أو مصر والسودان، أو شارع أبوقير بالإسكندرية فى الجزء الشرقى منه، أو..أو، وهى شوارع رئيسية وعليها حركة كثيفة.
نعم نضحت أخلاق التوكتوك على كثير من بهوات أهل مصر، فاختفى الفارق بين العشوائيين والمتعلمين فى التعامل مع الطريق. وذات مرة سألت ضابط مرور عن سبب ترك التكاتك وعبثها..
أجاب مبتسما: الناس هى السبب
قلت متعجبا: إجابة غير متوقعة..
قال: بالعكس الصورة واضحة جدا، حين تمسك الشرطة «توكتوكا» وتحبس سائقه للتحقيق، وفى الغالب يكون حدثا أقل من 18 سنة، لا تمر ساعة إلا وتجد على باب القسم خمسين أو ستين مواطنا، أبوه وأمه وإخواته البنات والجيران يتوسلون ويصرخون: حرام عليكم تقطعون عيشنا، يعنى نموت من الجوع!
سكت وقال: هذا ضغط اجتماعى ثقيل جدا يصعب تجاهله.
قلت: تنفيذ القانون يضبط حركة المجتمع، وينظم ضغوطه الاجتماعية، صحيح أن الرحمة فوق العدل أحيانا، لكن الرحمة لا تعنى الفوضى.. إهمال القانون لأى سبب يصنع نوعا من الفوضى القابلة للاتساع تدريجيا حتى لو بدأت ضئيلة غير مؤثرة، مثلما حدث مثلا فى شارع 26 يوليو ما بين ميدان الأسعاف ومطلع كوبرى الزمالك، المحلات تكاد تغلق الشارع بما تعرضه من بضائع أخذت مساحات وساسعة من الشارع، ثم امتدت إلى شارع الجلاء وحول مستشفاه وشارع الصحافة..الخ.
قال: فى ظروف مجتمعنا يصعب أن نتجاهل روح القانون وأحوال الناس وثقافتهم، هى حالة عامة وليست نماذج فردية يمكن حصارها وضبط تصرفاتها.. قبل أيام ضبطت ميكروباصا يسير عكس الاتجاه ويعرض ركابه والمارة للخطر، تخيل لم أخلص من الركاب أنفسهم، نزلوا يدافعون عن الخطأ، ويرجون العفو عنه، وحين رفضت احتراما للقانون ومنعا للخطر، تحولت كلماتهم إلى سهام نارية، ربنا على الظالم يعنى هو أخطر من تجار المخدرات، لا تقطعوا عيش الغلابة..الخ، خذ عندك ما يحدث عند إزالة المبانى المخالفة أو طرد الباعة الجائلين المعتدين على الأرصفة.. الناس ترفض، هذه ثقافة شائعة فى المجتمع.
قلت: أرجوك لا تغضب مني..الحكومة هى من ربتهم على هذه الثقافة من عشرات السنين.
ارتسمت دهشة واسعة على وجهه..
قلت: لا تتعجب..المواطن ابن نظامه العام، ومن زمن بعيد جدا والحكومة تترك للناس الحبل ممدودا، لعلهم ينسون عدم قدرتها على حل مشكلاتهم فى الإسكان والصحة والتعليم والنقل..الخ، سابت الناس تتصرف على راحتها، ربما يجدون بأنفسهم حلولا بطريقة مقبولة منهم، والناس بطبعه تميل إلى الأسهل والأسرع، فكانت العشوائيات حلا، والعشوائيات ليست مبانى، وإنما هى سلوكيات وتصرفات ونمط حياة وأخلاق.
لكن الآن نحن نؤسس جمهورية جديدة، لا تصلح معها الأساليب القديمة، صحيح أن القديم الذى تأقلم عليه الناس لا يتعدل بين يوم وليلة، لكن مهم أن نبدأ فورا، وتعمل الحكومة على أن يشعر الناس بجديتها فى تطبيق القانون على الجميع دون استثناءات. وانتهى الحوار مع الضابط المحترم بود شديد..
باختصار الشارع عنوان لنا وللجمهورية الجديدة، فهل يمكن تنفيذ القانون، دون أن نغفل روحه بشرط إلا يسبب ضررا للآخرين فى حياتهم اليومية؟!











