احمد باشا
«المتحف المصرى الكبير» أقوى من «الجاهلية»
لم يكد المصريون يلتقطون أنفاسَهم من حفل افتتاح المتحف المصرى الكبير، حتى خرجت علينا أصوات تقتات على الجهل، وتعيد إنتاج خطاب التكفير القديم فى ثوب جديد. شيخ من شيوخ السلفية يُحرّم زيارة المتحف، وآخر يَعتبر تماثيل الفراعنة أوثانًا، فى مشهد لا يمكن فصله عن مشروع أشمل يستهدف العقل المصرى وهويته الحضارية منذ عقود. هذه ليست مجرد فتوَى عابرة؛ بل جرس إنذار جديد، يُذكرنا بأن معركة الإرهاب لم تكن فقط مع البندقية؛ بل مع الفكرة التى تغذيها.
قد يُغرى البعض الاستخفاف بمثل هذه الفتاوَى، واعتبارها ضربًا من الهذيان الفردى، لكن التاريخ القريب يُذكرنا أن الرصاصة تبدأ دومًا بكلمة، وأن الإرهاب الأسود الذى دفعنا ثمنه دمًا ونارًا، لم ينشأ فى فراغ؛ بل خرج من رحم فتاوى كانت- فى البدء- رأيًا شاذًا يُقال همسًا، قبل أن يتحول إلى فعل معلن يقتل ويسبى ويهدم. فما الذى يمنع أن تتحول الكلمة إلى قنبلة غدًا؟ ومن يضمن ألاّ يتحول اعتبار التماثيل «أوثانًا» إلى دعوة لإسقاطها، كما فعل دواعش الموصل وتمبكتو ودرنة؟
الأمر، إذن، ليس فقهًا مختلفًا؛ بل مشروع منظم يعادى الحضارة ويختصم الجمال ويدوس هوية وطن بقدمى الفتوَى. وما يزيد الخطر اتساعًا، أن لهذا التيار ذراعًا سياسية تتدثر بالشرعية الحزبية وتشارك فى البرلمان، بينما تتبنى- صمتًا حينًا ومناورة حينًا- ذات الخطاب الذى يقوض مدنية الدولة ويعبث بدستورها. حزب النور، ممثل السلفيين فى المشهد السياسى، صمت عن افتتاح المتحف المصرى الكبير، لم يصدر عنه بيان يهنئ الأمّة فى لحظة كان يفترض أن يُعلن فيها انحيازه لوطنه وتراثه ودستوره قبل جمهوره. لكن الصمت، هنا، ليس حيادًا، بل تهربٌ محسوبٌ، ومغازلة لأتباعه على حساب الدولة التى منحته حق الوجود.
الصمت هنا صمت عن الوطن. ومن يساوم على حضارة مصر، يساوم على وحدتها ومِنعتها. لقد سقط حزب النور فى أول اختبار حقيقى، حين انكشف وجهه أمام لحظة فارقة، كانت فرصة ليثبت أنه شريك حقيقى فى بناء الجمهورية الجديدة، فإذا به يُفضّل الاحتماء فى كهف صمته، تاركًا الدولة تواجه خطاب الرجعية وحدها.
هذه ليست دعوة لمصادرة رأى أو تطويع دين؛ بل نداء لإصلاح خلل فى مفهوم الوطنية حين يتعارض مع المصالح الحزبية، وجرس تنبيه للدولة قبل أن تتسرب الفتوَى من خانة القول إلى ميدان الفعل. المواجهة هنا لا تحتمل المُداهنة، ولا تجدى معها رسائل الطمأنة الباردة. نحن بحاجة إلى مواجهة خشنة، لا تقِل حَزمًا عن تلك التى خضناها مع الإرهاب المسلح. فالفكرة أخطر من السلاح، والفتوَى المسمومة أسرع انتشارًا من الرصاص.
على الدولة ألا تسمح لأحد بأن يختبئ خلف لافتة حزب، يتذرع بالسياسة ليهرب من المساءلة، ولا أن يرفع المصحف فى وجه المتحف. فالدين الحنيف لا يُعادى الحضارة، والوطن لا يقبل أنصاف الولاء. إن معركة الوعى لا تنفصل عن معركة الأمن، وحماية الآثار لا تنفصل عن حماية الأرواح. وقد آن الأوان لنقولها واضحة مَن يصمت عن المتحف اليوم لا يؤتمن على البرلمان غدًا.
إن حماية المتحف المصرى الكبير ليست شأنًا أثريًا؛ بل رهان على مستقبل أمة. وحضارة مصر ليست «أوثانًا» تُكفَّر؛ بل ذاكرة أبدية وشهادة ميلاد لهذا الوطن. وحين تُصبح الفتوَى رصاصة، يصبح السكوت خيانة. وهنا، لا خيار إلا أن ندافع عن هوية مصر؛ دفاعًا عن عقلها وقلبها وروحها.











