حسام سعداوي
100 عام من الاشتباك دون سعى لـوقف إطلاق النار..
غوايــــة «الست فاطمة»!
الصحافة ليست مهنة.. ليست وظيفة تمنحك أجرًا.. بل هى غواية.. نعم غواية لا يشفى منها صاحبها.. من ينزل بحرها لا يخرج منه أبدًا كما نزل.. الغواية نداء خفىٌّ يخاطب روحك.. قوة غامضة تشدك من أعماقك نحو طريق تعرف ابتداًء أنه محفوف بالمخاطر، ومع ذلك لا تستطيع أن تقاومه، قوة أكبر من مجرد إغراء، أو وعد زائف باللذة أو المجد.
الغواية هى أن تشتبك وأنت تعرف ما قد تدفعه ثمنًا لموقفك.. أن تظل تبحث عن الحقيقة حتى عندما يقرر الجميع أن يغمضوا أعينهم ويغضوا أبصارهم.. والصحافة فى جوهرها «نداهة» تأسرك فتسير خلفها راضيًا وأنت تدرك العواقب جيدًا.
تمنحك الصحافة القدرة على أن ترى ما لا يُرى، وأن تسمع ما لا يقال، وأن تكشف ما يحاول الجميع إخفاءه.. لكنها فى المقابل تطلب منك روحك وراحتك، بل وحريتك.
مهمة الصحفى ليست نقلًا لخبر هنا أو معلومة هناك، وأدواته ليست قوالب تحريرية صماء تسجن فيها الكلمات قبل أن تنقل للقارئ باردة لا روح فيها ولا طعم ولا رائحة.
بين الغواية والصحافة لغة مشتركة، فهى «فعل سلطة» إذ تمنحك الطريق لتشكيل وعى الناس وتحريك مشاعرهم، وتغيير آرائهم بكشف المستور عنهم.. وهى «فعل إدمان» يتحول من يمتهنها لمتعقب للحقيقة، يبقى دائمًا فى حالة ترقب.. إحساس السبق يخلق بداخله «نشوة» تحفزه على المزيد من الركض وراء المعلومة.
وهى أخيرًا «فعل صراع» بين المبدأ والمصلحة.. فدائمًا ما يجد الصحفى نفسه أمام سؤال بلا إجابة قاطعة: هل يبحث عن الحقيقة لذاتها أم لسطوع اسمه؟
حالة دائمة من التمرد
لم يعرف أحد كيف يمارس هذه الغواية مثلما فعلت «فاطمة اليوسف» تلك المرأة الشابة القوية الجميلة التى اجتذبتها غواية الصحافة من «خشبة المسرح» إلى «بلاط صاحبة الجلالة» لتتمرد على تقاليد المجتمع فى بدايات القرن العشرين، قبل أن تتحول بفضل جرأتها إلى أيقونة للحرية خلدها التاريخ.
أسست «الست فاطمة» مجلة فنية فى بدايتها، لكنها سرعان ما نزلت ساحة السياسة من بابها الملكى لتخلق بوجودها حالة ثورة دائمة، ثورة فى مواجهة التابوهات، «لا» كبيرة فى مواجهة السلطة السياسية والدينية بل والاجتماعية أيضًا.

منذ عددها الأول (1925) رفعت «روز» عبر صفحات مجلتها راية التمرد وأعلنت الحرب على كل ما هو مستقر وقالت منذ عددها الأول: «لن نكون لسان حال أحد... نحن لسان حال القارئ وحده»، وجذبت قرّاءها بفعل صدامها مع المألوف.
لم تكن «روزاليوسف» المجلة تُنشر لتُقرأ.. كانت تُنشر لتشتبك.. صفحاتها ليست محايدة، مقالاتها ليست ناعمة، ورسوماتها الكاريكاتيرية لم تكن تعرف الرأفة.. كانت مؤسستها تعرف أن الصحافة التى لا تغضب أحدًا ليست صحافة، وأن من يختار السلامة يخسر نفسه قبل أن يخسر قلمه.
جينات يتناقلها جيل بعد جيل
مررت فاطمة جيناتها إلى ولدها إحسان الذى قال: «الصحفى الجبان يكتب نصف الحقيقة، أما الصحفى الشجاع فيدفع ثمنها كاملة».. وفى افتتاحية أحد أعداد سنة 1948 كتب يقول: «لسنا ضد الملك كشخص، لكننا ضد الملكية كنظام، وضد أى سلطة تحجب الحقيقة عن الناس».هذا المقال الذى تسبب فى مصادرة العدد واعتقاله، لكنه رسّخ فلسفة أن الصحافة صدام لا مهادنة.
ولأن جينات الصحافة لا تنتقل فقط بالنسب فقد ورثها أحمد بهاء الدين الذى كتب فى أحد مقالاته سنة 1961: «مهنتنا لا تعرف الحياد أمام القضايا الكبرى، فالوقوف على الرصيف لا يصنع صحافة، الصحافة الحقيقية هى أن تنزل إلى قلب الميدان».
وفى حوار قديم مع مجلة الهلال سنة 1973، قال بهاء الدين نصًا: «إذا لم تكن الصحافة اشتباكًا مع الواقع، فهى تتحول إلى نشرات علاقات عامة، وظيفتها تلميع وجوه وتبرير قرارات».
كان بهاء الدين دائمًا يرى أن وظيفة الصحفى: «إزعاج المريحين وأصحاب المصالح» كتب مرة فى روزاليوسف: «الصحفى لا يكتب ليجعل القارئ ينام قرير العين، بل ليوقظه على ما يتجاهله أو يتغافل عنه».
على الدرب نفسه سار صلاح حافظ وهو يذكّرنا بأن الصحفى الذى يرتاح فى عمله ليس صحفيًا، ومن بعده جاء «كامل زهيري» ليهمس لنا بحقيقة موجعة: «الصحافة حرفة العذاب الجميل». فقد كان دائمًا يقول: «إذا صارت الصحافة صديقة للسلطة، فقدت وظيفتها».
هكذا صنعت روزاليوسف مدرسة كاملة، علمت أبناءها جيلًا من بعد جيل أن القلم ليس أداة للزينة، بل سلاح للوعى، وأن الصحافة فى حقيقتها العارية ليست نشرات علاقات عامة، ولا دفاتر وقائع باردة، بل حرب مفتوحة على الجهل والخوف والتزييف.
فى مدرسة روزاليوسف أنت لا تبيع معلومة لكنك تقدم موقفًا وتطرح رؤية وتصيغ وعيًا، ومعها تحول التاريخ إلى قصة عشق، يختلط فيها الفنى بالسياسى بالأدبى فى تناغم رائق، كانت أول من أدخل الكاريكاتير السياسى العنيف ليكشف فساد السلطة، وبسبب مقالات الرأى تعرضت لمصادرة متكررة، واعتقل رؤساء تحريرها أكثر من مرة، كل هذا صنع هالتها الخاصة.
روزاليوسف كاختبار للنفس
لن أدعى - مثلما يفعل الكثيرون - تعلقًا بالمجلة منذ نعومة أظفارى، فهو ادعاء لم أجد فى كثير من الحالات ما يدعمه، ولكنى سأعترف - والاعتراف هنا سيد الأدلة - أنى استجبت لنداء النداهة وذهبت معه بعيدًا، فوقعت فى حب المكان وصاحبة المكان، بل وكل من مر بعتبته، وأنى كلما استغرقت فى تاريخه وجدتنى مشدودًا إليه أكثر، تمامًا كمن يبحث عن الارتواء فى شرب ماء البحر ووجدتنى ممتنًا للعمر الذى قضيته بين جدرانها.
تعرفت بـ«روزا» شابًا فى مقتبل حياته المهنية، قادنى القدر فور التحاقى بالجريدة اليومية إلى قسم السياسة حيث المعارك الدائرة بلا هوادة.. اشتباك على جميع الجبهات والأصعدة تقريبًا، توليت مهمة صعبة فى أكثر الملفات سخونة.. الاشتباك على جبهة الإسلام السياسى، تلك المعركة التى مثلت تاريخيًا أحد الأعمدة الرئيسية فى شخصية روزاليوسف.
لم أزل أذكر كلمات أستاذى الراحل عبد الله كمال جيدًا «اسمع.. ملف الإخوان مش مجرد تغطية خبر أو نقل معلومة .. أنت لازم تقرا وتقرا كويس».. ظلت كلماته تتردد فى أذنى ليل نهار وأنا أغوص فى أدبيات الجماعة وتاريخها وأهم كتب مؤسسيها ومنظريها حتى أن أحد شبابها قال لى يومًا «إذا كنت قرأت كل تلك الكتب حقًا فلماذا لم تصبح إخوانيًا»..؟!
قالها والدهشة تقفز من عينيه وتكسو ملامحه، ابتسمت مكتفيًا بإجابة مقتضبة «لم أقرأها بعين القطيع ولكنى قرأتها بعين الباحث عن الحقيقة».
فى المجلة وجدت مساحات أوسع للحركة وعشت مع الصديق «هانى عبد الله» رئيس التحرير الأسبق واحدة من أجمل فتراتى المهنية.. صلنا وجلنا معًا، اشتبكنا هنا وهناك.. سهرنا وغفونا، اختلفنا وضحكنا وتعلمنا معًا.. وتعاهدنا على أن نبقى كذلك.
كما فى ورش الحرف والمشغولات، تجد دائمًا أسطوات المهنة فى روزاليوسف يجلسون بين المبتدئين، يلقنونهم أسرار المهنة، ويورثونهم أساطيرها وحكاياتها خوفًا عليها من الضياع أو النسيان، ودائمًا تنشق الأحداث عن نوابغ يعلم الجميع أن لهم مستقبلًا واعدًا فيها.. هكذا هو الحال دومًا فى صنعة لم يكتب لها الفناء.
تعلمت فى «روزا» أن الصحفى لا يمكن أن ينفصل عن الواقع، وفى طريقى اليومى منها وإليها التقيت بائع الجرائد، وسايس الجراج، وصاحب المطعم، ونادل المقهى، دارت بينى وبينهم حكايات ونوادر سرعان ما أصبحت ذكريات، جمعتنا الشواغل الإنسانية والقفشات السياسية، ولم تفرق بيننا الضوائق الاقتصادية.. داخل أروقة الدار جمعت المحررين بأقسام العمال والسعاة تفاصيل يومية مشتركة، عشنا معًا حياة كاملة بالألوان الطبيعية، تشاركنا القصص والهموم، تقاسمنا السجائر والساندوتشات، واستلفنا من بعضنا آخر جنيهات فى جيوبنا انتظارًا لموعد أخذ المرتب.
الغواية الحقيقية لم تمت
مرت الأيام والسنون، تبدلت الأحوال والمواقف، وتغير المشهد الصحفى بصفة عامة، أصبحنا أمام مشهد عام مشتِت ومشتَت، تتزاحم فيه المنصات وتتدفق الأخبار بلا توقف، لكنه ما زال - بشكلٍ عام- يحتاج لمزيد من روح المغامرة. تلك المغامرة، التى صنعت تاريخ ومجد روزاليوسف.
صرنا فى زمن التشبع بالمعلومات، وغدا كثير من الصحفيين الآن يخشون الاشتباك. ويكتفون غالبًا بنقل البيانات، وإعادة صياغة الخطابات الرسمية.. ووقعت المهنة فيما حذّرنا منه أحمد بهاء الدين قبل عقود: «حين تتحول الصحافة إلى نشرات علاقات عامة... فإنها تكف عن أن تكون صحافة».
لكن الغواية الحقيقية لم تمت.
هى مختبئة فى جينات هذه المهنة، فى دم كل صحفى حقيقى يعرف أن وظيفته ليست أن يُرضى أحدًا، بل أن يظل عين القارئ وأذنه وصوته.
روزاليوسف علمتنا أن القلم بلا موقف مجرد قطعة خشب، وأن الصحفى الذى لا يعرف الخوف قد لا يكون شجاعًا، لكن الصحفى الذى يتجاوز خوفه هو من يصنع التاريخ.. ولعل السؤال الذى يفرض نفسه اليوم: متى نملك شجاعة أن نستعيد غواية الصحافة؟ وهل يمكن أن نعيد للصحافة روحها المتمردة بعد أن صار أغلب ما يُكتب مطبوخًا بعناية لإرضاء الجميع؟
الإجابة «نعم»، الصحافة كما علمتنا إياها «الست فاطمة» هى فعل حبّ للحقيقة.. وفعل حرب على كل ما يخفيها.. ولأن الغواية الحقيقية لا تموت، فستظل الصحافة اشتباكًا مفتوحًا.. حتى آخر سطر.







