دافع عن اتهامه بالشيوعية وكتابة القصص الإباحية
مذكرات إحسان عبدالقدوس التى لم يكتبها
وفاء شعيرة
يظل إحسان عبدالقدوس مادة دسمة لعشرات الكتب التى لم يتوقف صدورها بين الحين والآخر تتناول جوانب شخصيته المتعددة كأديب وصحفى ومفكر وشريك فى صناعة العديد من الأحداث المهمة فى تاريخ مصر، وكان آخر الإصدارات كتاب تحت عنوان «إحسان عبدالقدوس سيرة أخرى» للكاتب إبراهيم عبدالعزيز، الذى رصد فيه حكايات عن بداية حياة إحسان عبدالقدوس الصحفية وأزماته المهنية.
تضمّن الغلاف أجمل ما كان يتمناه إحسان عبدالقدوس فى حالة عدم دخوله عالم الصحافة والأدب عندما قال «مرتان فى حياتى تمنيت فيهما أن أكون ضابطًا فى الجيش.. مرة وأنا فى السادسة عشرة من عمرى ومرة فى شهر يونيو عام 1948 عندما قابلت أحمد عبدالعزيز قبل استشهاده بشهرين، وكانت أمنيتى فى المرة الأولى تنحصر فى مجرد التفاخر بالزى العسكرى.. وكانت أمنيتى فى المرة الثانية أن أموت شهيدًا فقد أقنعنى أحمد عبدالعزيز بالموت.. أقنعنى أن مجرد الاستسلام للحياة جبن وأن الروح هى سلاح المرء والجسد هو طلقة السلاح طلقة يجب أن نطلقها فى أول مناسبة وإلا انعدمت قيمة السلاح».
الكتاب تناوَل أشياءً كثيرة فى حياة «إحسان»، من أهمها بداية عمله الصحفى فى «روزاليوسف»، والتى ذكرها «إحسان» نفسه بقوله: «كتبت أول خبر صحفى عندما كنت فى السنة الرابعة الابتدائية بمدرسة خليل أغا الملكية، وكان خبرًا عن زكى الإبراشى باشا وناظر الخاصة الملكية وكان طالبًا معى فى نفس المدرسة، وقدّمت الخبر إلى مصطفى أمين بك وكان يتولى تحرير باب الكلية فى جريدة «روزاليوسف»؛ فهنأنى عليه ثم مزقه وأعاد كتباته، وعرضه على الأستاذ التابعى فهنأه عليه ثم مزقه وكتبه من جديد».
أمّا أول قطعة أدبية نشرت لإحسان فى جريدة «روزاليوسف» اليومية فكانت عام 1935 وعنوانها «أخيرًا وجدها» قال «إحسان» «أرسلتها إلى الجريدة بالبريد وبلا أمضاء نشرت فى الصفحة الأدبية.. وذهبت بعدها إلى والدتى السيدة «روزاليوسف» لأكشف لها عن شخصية الكاتب العظيم صاحب هذه القصة الأدبية الخالدة.. لكنها ما كادت تعلم أن هذا الكاتب العظيم هو أنا حتى ثارت فى وجهى وحرمتنى من مصروف يدى، فقد كان موضوع القصة الأدبية يدور حول فتاة وخمر.. وكانت والدتى تظن حتى ذلك الحين أنى أجهل ما هى الفتاة وما هى الخمر..
وعندما نلت ليسانس الحقوق رفضت وظيفة سكرتير عرضها علىَّ المرحوم أمين عثمان باشا وزير المالية ورفضت الاشتغال فى مجلة «الاثنين» لأن رئيس تحريرها مصطفى أمين بك رفض أن يوقّع باسمى مقالاً كتبته ونشره.
ثم عملت فى جريدة «آخر ساعة» وارتقيت فيها إلى حد كان الأستاذ محمد التابعى صاحبها ورئيس تحريرها يعهد إلىَّ بالإشراف على تحريرها أثناء غيابه فى رأس البر.
ورغم ذلك لم يكن لى حق الأمضاء إلا بالحروف الأولى من اسمى «إ» ثم أصبح إمضائى مقصورًا على اسمى دون لقب فكنت أوقّع «إحسان»، وكان أغلب القراء يعتقدون أن الكاتب فتاة».
انتقام العقاد
ومع مرور الوقت أصبح «إحسان» كاتبًا كبيرًا له معاركه الصحفية والأدبية التى كان من أهمها معارك تشويه أدبه ونَسَبه، فاتهم بأن ما كتبه هو أدب الفراش، ولكن «إحسان» صحح هذه الحملة قال إنه أدب النفس الإنسانية بخيرها وشرها.. وأخطر ما اتهم به هو التشكيك فى نسَبه وكان صاحب هذا الاتهام هو الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذى كان يومًا ما كاتبًا فى «روزاليوسف» ويعرف «إحسان» جيدًا ولكن خصومات العقاد كانت عنيفة ومريرة.
والسبب كما قال «إحسان» «كنت أزور أمّى فى «روزاليوسف» حيث كانت المجلة تقع فى شارع «جلال» وكان أحمد شوقى يمتلك بيتًا فى هذا الشارع وخصّص البدروم للمجلة.
وكنت أعيش مع كبار الكتّاب كالتابعى والعقاد وأحمد شوقى وكنت طالبًا فى مدرسة فؤاد الأول، وكان الطلبة يأتون إلىَّ لكى يعلموا منّى الأخبار بحكم اتصالى بالصحافة، وعندما بدأ العقاد الهجوم على الوفد كنت معه وتناقشت معه فى هذا الهجوم وطرحت عليه ما يقوله الطلبة».
يبدو أن هذه الواقعة رسخت فى نفس العقاد فاتهمه فى أدبه ونسَبه وأن والدته لم تتزوج والده إلا أن «إحسان» تلقى خطابًا من موظف بمكتبة وزارة الشئون الاجتماعية موقّع بجملة «عمّك أبوالوفا محمود رمزى نظيم»، أكد فيه أنه كان شاهدًا على زواج أمّه من أبيه، وقال فى الخطاب «كنت فى خلال الحرب العالمية الأولى مقيمًا بالقرب من شبين الكوم هربًا من السلطة العسكرية، وفى سنة 1917 طلبت السلطة من الأستاذ جورج أبيض أن يقوم بإحياء ليالٍ تمثيلية فى عواصم المديريات لمساعدة الصليب الأحمر، وعلمت بقدوم فرقة جورج إلى شبين فسارعت للقاء أصدقائى من أفرادها، وعصر يومئذٍ كنت فى متنزه شبين وكان داخل المدينة فى رفقة من الأستاذ عزيز عيد ومحمد صادق صاحب صحيفة «المسامير»، ومن أعضاء الفرقة محمود رضا (ممثل)، وحضر محمد عبدالقدوس وفى صحبته الآنسة «روزاليوسف»، وبعد التحية اتجه أبوك إلى عزيز عيد وقال إن «روزاليوسف» منذ اليوم روزا عبدالقدوس، خلاص إحنا اتفقنا على الزواج.. ووافق عزيز وشهدنا على عقد الزواج.
وواجَه إحسان عبدالقدوس أيضًا المجتمع الأرستقراطى بسبب قصصه التى كانت تكشف عيوبه، فقال «إحسان»: «كانوا يكرهوننى لأن كتاباتى كلها قبل ثورة يوليو موجهة ضد مجتمعهم، ولعل أبسط دليل على عدم حبهم لى أنهم رفضوا أن يقبلونى عضوًا بنادى الجزيرة قبل الثورة.. فكانت القصص تكشف انحلال هذه الطبقة، وهذا ليس لأننى أؤيد هذا الانحلال على العكس أنا أكشف تفاهته وبشاعته».

عبد الناصر يحمي إحسان
بعد ثورة يوليو واجهت إحسان عبدالقدوس بعض الاتهامات غير الحقيقية بأن هناك إسقاطًا فى كتابته الأدبية من خلال السياسيين.. وهو الأمر الذى جعله يكتب رسالة مطولة للرئيس جمال عبدالناصر يدافع فيها عن نفسه الاتهامات المزيفة التى كان يهمس بها البعض للرئيس جمال حول «الإباحية» فى قصصه.
ونقل مسئول كبير إلى «إحسان» أن الرئيس معجب به غاية الإعجاب وأنه يحرص على مشاهدة أعماله السينمائية ولكنه يريد أن يعرف منه مباشرة أسرار الضجة حول إحدى رواياته «البنات والصيف».. وكتب «إحسان» رسالته إلى الرئيس جمال عبدالناصر الذى كان يتدخل بنفسه لمنع الأذى عن «إحسان» حين كتب روايته «لا أنام» و«البنات والصيف» حتى كانت الأزمة الكبرى بسبب روايته «أنف وثلاث عيون» التى طالب نائب بمجلس الأمة بمنع صاحبها من الكتابة ومنع قصصه من الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، بل وصل الأمر إلى نيابة الآداب لولا تدخل عبدالناصر الذى أنقذ إحسان.
وقال إحسان «إذا حكيت ما فعلته بى كل قصة كتبتها لن أنتهى، فكل قصة كانت لها مشكلة، أولى المشكلات هى الإسقاط الذى يمارسه بعض الكبار، فهذا يقول أنى أقصده وتلك تقول أنى أقصدها والحقيقة أنى لم أكن أقصد أحدًا بالذات.
وعندما كنت أنفى فى الصفحة الأولى أى صلة واقعية لشخصيات الرواية كنت صادقًا لأن الكثيرين اتهمونى بأنى أنقل حياتهم الخاصة والعامة إلى الورق، ولكن العبرة أنهم كانوا يرون أنفسهم فى المرآة، والعبرة أيضًا أنى كنت أرى أعماق المجتمع وأكتب عنها بصدق فيظن الجميع أنى أقصدهم شخصيًا».
وقصة «أنف وثلاث عيون» هى الأزمة الكبرى التى واجهها إحسان عبدالقدوس وقتها اتهم «إحسان» توفيق الحكيم أنه تخلى عنه يوم أن قامت القيامة فى مجلس الأمة ضد هذه القصة وقُدِّم بشأنها استجواب بدعوَى أنها تخدش الحياء العام..
وفى نفس الوقت الذى نجد فيه إحسان عبدالقدوس نفسه فى رسالته إلى توفيق الحكيم يتحدث فيها إليه بمحبة ومودة إلى درجة أنه يقول له بالنص «لم أجد أحدًا قريبًا منّى لأكتب له إلا أنت.. شكرًا لتحملك أزمتى».
وهذا جعل الكتّاب والنقاد أنفسهم حائرين مَن يصدق إحسان عبدالقدوس الذى يَتهم توفيق الحكيم بالتخلى عنه فى قصته أو أزمته فى حديث صحفى له بعد وفاة الحكيم بنحو خمسة شهور، أم يُصدق تلك الوثيقة التى كتبها بخط يده وأرسلها بإرادته إلى «الحكيم» أثناء أزمته؟.. ولا بُدّ أن نعترف قبل ثورة يوليو 1952 كان «إحسان» من أنصار إقامة الجمهورية فى مصر، وأجرى ثلاثة استفتاءات فى «روزاليوسف» انتهت إلى أن 95٪ من المصريين يؤيدون إعلان الجمهورية.
الوكالة اليهودية
اتهم «إحسان» وقتها بأنه يدير أكبر مركز شيوعى فى الشرق الأوسط، ودافع «إحسان» عن نفسه وعن تهمة الشيوعية التى ألصقتها به أمريكا، وقال: «إن السبب وراء هذا الاتهام هو عداؤه للوكالة اليهودية ومن ورائها أمريكا التى كانت تخطط مع قيادة الصهيونية العالمية لاغتصاب فلسطين». وهو ما عبّر عنه فى مقاله «لقد ضاعت فلسطين».. وهى نتيجة توصَّل إليها بعد رحلته التى قام بها إلى فلسطين بعد أن رأى هناك شواهد مؤكدة جعلته يحس بالخطر القادم، لذلك كان لا بُدّ من تشويه «إحسان» بالتهمة السائدة فى ذلك الوقت وهى تهمة «الشيوعية».

مذكرات إحسان
نعود إلى مذكرات إحسان عبدالقدوس، فالجميع يعرف أن إحسان عبدالقدوس لم يكتب مذكراته بيده، إلا أن إحدى دور النشر استطاعت ومن خلال الكاتب إبراهيم عبدالعزيز أن تعد مذكرات لإحسان عبدالقدوس بالصدفة عندما اكتشف «عبدالعزيز» حوارات أجراها محمد الشناوى مع «إحسان» فى مجلة «الجيل» التى كانت تباع على الأرصفة.
وتم تجميع هذه الحوارات التى تحدّث فيها «إحسان» عن جميع مراحل حياته ومعاركه الأدبية والسياسية والصحفية فى كتاب بلغ عدد صفحاته 726 صفحة.
والمعروف أن محمد الشناوى تقلد عددًا من المناصب، منها مذيع ومُعد ومُخرج بالإذاعة ومدير لإذاعة القرآن الكريم، وهو مَن كلفه الرئيس أنور السادات أن يؤهل نائبه حسنى مبارك لمخاطبة الناس لكفاءته فى اللغة العربية.
الكتاب بدأ بعبارة قالها «إحسان» عن والدته «فاطمة اليوسف» فى حوار له فى ديسمبر عام 1952 فى العدد الأول من كتاب «روزاليوسف» الذى تضمّن ذكريات «فاطمة اليوسف» حيث قال: «كنت أحيانًا أضع نفسى بعيدًا عنها وأجرّد نفسى عن عاطفتى نحوها، ثم أحاول أن أدرسها كما يدرسها أى غريب عنها لعلنى أجد مفتاحًا لشخصيتها، ولعلنى أخرج من دراستى بقاعدة عامة لحياتها أطبقها على بنات جنسها، ولكننى أخرج دائمًا بمجموعة من المتناقضات لا يمكن أن تجتمع فى إنسان واحد».
مذكرات «إحسان» التى كتبت من خلال الحوارات معه بها الكثير من الأسئلة عن قصصه وشخصياتها مثل اسم معين فى معظم القصص التى يكتبها عن الريف، فكان اسم «سبيلة»، ضحك «إحسان» وقال: «إنها شخصية حقيقية بالفعل اختزنها وجدانى من حياتى الأولى فى القرية أيام الطفولة والصبا.. كانت إحدى قريباتى الصغيرات، وكانت من سنّى وكنت أصحو مبكرًا لكى أسرع بلقياها والذهاب معها إلى الحقل نرعى المواشى معًا و«نسبّخ» الأرض بالسماد البلدى الذى تنقله «سبيلة» على الحمار وأنا سائر بجوارها سعيدًا بزمالتها راضيًا بمشاركتى لها فى هذا «الجهد» مستمتعًا بما كانت تحكيه لى من حواديت ساذجة عن «أمّنا الغولة» و«الشاطر حسن»..
وعندما سُئل «إحسان» عن السبب وراء الانتقال للعيش مع والدته «فاطمة اليوسف» عند وصوله إلى الجامعة بعد أن قضى سنوات طفولته وتعليمه حتی الثانوية فى بيت جده وعمّته التی قامت بتربيته، قال: «كنت قد تعبت من كثرة التنقل بين عمّتى وأمّى وأبى وأصدقائى، ولا أذكر فى العامين الأخيرين من سن 17 إلى 19 عامًا أنى أقمت فى بيت واحد لأكثر من شهرين.. يصيبنى بعدها المَلل، وكان هذا التنقل القلق والمستمر ينبعث أساسًا من إحساسى بالتمزق العاطفى والعقلى وقررت أن أستقر فى مكان واحد مَهما كلفنى هذا الاستقرار واخترت بيت أمى».
تصريحه هذا خلاف ما كان يشاع بأن والدته هى مَن كانت صاحبة فكرة الاستقرار معها.
وبسؤال «إحسان» عن أصدقائه فى مرحلة الجامعة وما بعدها قال: «كان أصدقائى يتنوعون تنوعًا غريبًا.. كنت بالنهار أقرأ أو أذهب للجامعة لكى أشاهد جموع الطلبة وأتفرج على المناقشات الحزبية الحامية بينهم، وفى الظهيرة أتغدى مرة مع زميلى «فهمى هاشم» الأرستقراطى المتحرر إلى درجة بالغة التحرر، وقد أجد نفسى بعد هذا الغداء الأرستقراطى مع فهمى أو لملوم أو سيف النصر فى الزمالك أو جاردن سيتى متجهًا إلى صديق عمرى «محمد عبدالهادى» الذى زاملنى فى المرحلة الابتدائية، ثم انقطع عن التعليم لكى يعمل بائع ملابس بالموسكى، وعلی مقعدين خشبيين بأحد مقاهى الحسين نجلس وسط صيحات مجاذيب الحسين ورائحة البخور وعبارات الغزَل الساذج التى يبعث بها رواد المقاهى فى «شقاوة» خلف بنات البلد».
إحسان والسادات
فى مذكرات «إحسان» أو حواراته الكثير من الحكايات والمواقف والحديث عن أشخاص فى حياته، ومنهم الرئيس الراحل أنور السادات وقصة مقتل أمين عثمان قبل ثورة 1952، قال «إحسان»: «كنت متفقًا فى الرأى تمامًا مع البوليس السياسى رغم اختلاف أهداف كل منّا على هذه المجموعة من الشباب الثائر، فقد تحركت نحو هدفها بتوجيه دقيق عن عقل ثائر كبير ما زال شخصية مجهولة رغم أن التفاصيل الدقيقة للخطة التى نفذت تؤكد وجوده، ولم أتردد يومها فى كتابة مقال بمجلة «روزاليوسف» اعتبره الكثيرون حتى من أخلص الأصدقاء وأكثرهم حماسًا نوعًا من التهور سيجلب لى المزيد من المتاعب وغضب السلطة وهى ترانى أؤيد علنًا ومن صفحات المجلة مقتل أمين عثمان الباشا الذى يُعبر عن رأى لندن أكثر مما يفهم لغة القاهرة..
وإذا كان البوليس السياسى- كما يقول «إحسان»- اعتبر مقالى يومها دليلاً جديدًا على انحرافى عن الولاء للسلطة الممثلة فى الملك وحكومته ومن خلفهما الوجود الاستعمارى لإنجلترا، فقد كتبت هذا المقال تحية من صحفى ثائر إلى الجندى المجهول الذى كان يختفى وراء العملية كلها، والذى استطاع أن يبعث الرعب فى قلب كل المتعاونين مع الإنجليز وعملائهم فى مصر وكأنه يقول لهم: هذا هو المصير الذى ينتظر كل من تسول له نفسه التعاون مع الإنجليز».

محاولات الاغتيال
ورجع إحسان عبدالقدوس إلى الوراء فى مذكراته وقبل ثورة يوليو 1952 وكتاباته المناهضة للاستعمار.. وذلك عند سؤاله هل أقدمت السلطة الحاكمة فى ذلك الوقت- قبل الثورة- على عمل من أعمال العنف ضد أحد من الكتاب؟ فقال: «المحاولات كثيرة.. وأنا شخصيًا تعرضت للاغتيال أكثر من مرة، وأذكر فى المرة الأولى كانت فى أعقاب ما كتبته عن قضية الأسلحة الفاسدة، قد تلقيت يومها عدة تهديدات تليفونية بالقتل ولم أعرها اهتمامًا وأخذتها مأخذ الدعابة مع أصدقائى!
وجاء التحذير الثانى وأنا أدلى بأقوالى فى التحقيق الذى أجراه معى النائب العام محمد عزمى فى بداية قضية الأسلحة الفاسدة، وأذكر يومها أنه اعترض على طلبى تأجيل التحقيق لليوم التالى بقوله: ومَن يضمن لى ألا تقتل عقب خروجك من مكتبى؟!
ورغم أن التحذير فى هذه المرة جاءنى على لسان النائب العام نفسه؛ فإننى لم أكن أتصور أن الثالوث المسيطر على الحكم آنذاك يمكن أن ينحط إلى درجة اغتيال خصومه فى الرأى، ولكن ما حدث لى بعد ذلك أكد لى أنى كنت ساذجًا أو حسن النية أو مثاليًا إلى حد بعيد!
أمّا المحاولة الثالثة فكنت مدعوًا للعَشاء ذات ليلة عند بعض الأصدقاء بعمارة «إيموبيليا» بشارع سليمان وامتد بنا السهر فى حديث ساخن حول فضائح الأسلحة الفاسدة والبورصة.. وقد داعبنى أحد الأصدقاء: أرجو ألا تدفع ثمن قضية الأسلحة الفاسدة رصاصة غير فاسدة يا إحسان!
وخرجت ولم أكد أغادر المصعد فى طريقى إلى الشارع حتى فوجئت بشخص مختبئ فى الظلام فى مدخل العمارة ينهال على رأسى بضربة عنيفة من عصا حديدية ثقيلة سقطت على إثرها والدماء تغطى وجهى.
وكانت محاولة صريحة ومتعمدة لاغتيالى، ولم يكشف التحقيق الذى أجرى يومها عن الفاعل أو المحرضين الذين أوعزوا إليه لقتلى.
وعندما قامت ثورة 23 يوليو أعيد التحقيق فى هذه القضية، واستطاع المحققون الشرفاء أن يصلوا إلى حقيقة مذهلة!
لقد اعترف الجانى بأنه ارتكب جريمته بتحريض من ابن عم الملك، وعرفت يومها أن المحرض على قتلى هو النبيل عباس حليم أحد المتهمين فى قضية الأسلحة الفاسدة، وتذكرت يومها زيارة غريبة قام بها عباس حليم لى فى منزلى وأنا طريح الفراش عقب محاولة اغتيالى! كما تذكرت ضحكته الساخرة وهو يقدم لى باقة الزهور الأنيقة التى حملها بنفسه وعبارته الملتوية وهو يجلس وهو المجرم الحقير، جاى يطمّن على البطل الخطير..
وكانت هناك محاولتان أخريان لاغتيالى، الأولى عندما كنت رئيسًا لقسم التحقيقات بصحيفة «الزمان» لعمل تحقيق عن نسف بيت زعيم الوفد فى ذلك الوقت مصطفى النحاس.. أسرعت لعمل تحقيق صحفى عن الحادث وأحَسَّ شباب الوفد المتزاحم حول بيت النحاس عقب الحادث بوجودى فأسرعوا يحيطون بى فى محاولة لقتلى باعتبارى أحد الكتّاب الذين يهاجمون سياسة الوفد!
وجاءت نجاتى من الموت المحقق على يد سيدة من أسرة البدراوى يقع بيتها فی مواجهة بيت النحاس؛ حيث أسرعت بإدخالى منزلها وحمايتى من موت محقق!
أمّا المحاولة الأخيرة فقد دبّرها الملك فاروق نفسه فى منفاه، عندما ذهبت عام 1953 مندوبًا عن مصر فى المؤتمر الدولى لرؤساء تحرير الصحف وطرأت لى فكرة لم أتردد فى تنفيذها رغم المخاطر التى كانت تهددنى، لقد تسامحت الثورة مع فاروق وأثبتت أنها أكبر من كل جرائمه.
فلم تحاكمه على خطاياه فى حق الشعب وسمحت له بالخروج هو وأسرته فلماذا لا يعترف بجميل هذه الثورة البيضاء التى لم تلوث يدها بدمه؟!
ولماذا يُصر على التآمر عليها فى الخارج؟ ولماذا لا يُسَلم بالأمر الواقع؟!
وعندما اختمرت الفكرة فى ذهنى التقيت بسكرتير فاروق وعرضت عليه أن يصدر فاروق كرد لجميل الثورة بيانًا يعلن فيه تسليمه بالأمر الواقع بما فى ذلك إعلان الجمهورية.
واقتنع سكرتير فاروق ووعد بعرض الأمر عليه شخصيًا، ثم عاد يبلغنى أن فاروق حدد لى موعدًا لكى يتحدث معى بنفسه، ويسلمنى بيده نص البيان المقترح وتدخل القدر فلم أذهب فى الموعد المحدد وفوجئت فيما بعد بأن سكرتير فاروق بعد أن انفصل عن سيده عاد إلى مصر ويعترف فى مذكراته التى نشرها فى مجلة «آخر ساعة»، بأن فاروق قد أعد خطة لاختطافى ثم اغتيالى عندما أذهب للقائه فى الموعد الذى حدده لكى يسلمنى صيغة البيان الذى طلبته منه».







