الأربعاء 5 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف
إنسانيـة الصحافــة وجينات روزاليوسف

تحية لسيدة المجلات فى مئويتها

إنسانيـة الصحافــة وجينات روزاليوسف

منذ أن لامست قدماى درجات سُلَّم «روزاليوسف»، وتجولت فى طوابق المؤسسة، وتعرفت على كبارها، طاردتنى فكرة أن الصحافة ليست تلك المهنة المشغولة فقط بالإخبار، ولا بطرح المعارف على الرأى العام، ولا هى المتباهية بالفن ونجومه، ولا المشغولة بالأدب أو بالأدباء، ولا حتى هى واجهة السياسة أو فاترينة الساسة.



إنها حقًا وصدقًا، الفاعل الإيجابى والحقيقى فى القرن العشرين؛ فالصحافة كانت الصوت السياسى الواضح، وكتّابها هم السياسيون الحقيقيون والمؤثرون.

 

بكل أريحية، قادت الصحافة - وفى القلب منها «روزاليوسف» - كل مشروعات الحداثة، وطرحت أسس التنوير جميعًا، وبلورت فكرة الوطنية المصرية المعاصرة، ودعمت المجتمع وساندته فى مواجهة كل ما هو فاسد ومتخلف.

 

حاربت الجهل والمرض، وخاضت المعارك الواسعة ضد الاستعمار، وحاصرت الرجعية فى صورتها الكلية، وظلت أمينة لكل هذه المهام، حتى فى أصعب الأوقات وأشد الأزمات التى عاشتها الأمة المصرية.

 

دخلت الصحافة المصرية القرن العشرين وهى بلا أى أسنان أو أظافر، كما لم تكن لديها قدرة على خوض المعارك السياسية. لكن رجال صحافة تلك الفترة اعتبروا السياسة قدرهم، وخاضوا معاركهم مع مختلف الأطراف: المحتل، والسلطان أو الملك، ثم مع النخب الفاسدة.

 

نعلم جميعًا أن بيئة نهاية القرن التاسع عشر كانت محبطة وشديدة الانهزامية، سياسيًا بطبيعة الحال، لكنها فى ذات الوقت كانت قد تقدمت مهنيًا بشكل ما، خاصة فى أساليب الكتابة وفهم المحتوى المطلوب لبناء العلاقة مع القارئ المفترض، فصارت الأرض ممهدة لأصحاب مهنة الكتابة للقيام بمهمة لم تكن مهمتهم.

 

كان حال السياسة شديد الارتباك، والساسة فى المنافي، ومن تبقى منهم بقى يلعب أدوارًا غير مفهومة، ومرتبكة، ومربكة لمن يراجع مواقفهم فى كتب التاريخ.

 

عند منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، وتحديدًا فى عام 1925، كانت مصر تعيش فترة سياسية معقدة وحرجة.

 

كانت السياسة المصرية قد أنجزت مهمتها فى ثورة 1919، وارتفعت الأصوات المطالِبة بالاستقلال، وبالتزامن، لعبت الصحافة دورًا حيويًا فى مراقبة السلطة السياسية وتصحيح المسار الوطني، مستفيدة من الزخم الذى أوجدته الثورة ودستور 1923، حيث جرت أول انتخابات برلمانية، وبعدها صار قدر الصحافة إدارة العلاقة بين مختلف القوى السياسية، مما جعل السياسة والصحافة فى رباط وثيق.

 

فى هذا الجو العام، وُلدت «روزاليوسف» كمنبر ثقافى واعٍ، مقاوم، ينتصر للحق، جريء، لا يعرف الخوف.. يحترم الفن، ويؤمن بالمعرفة كرافعة للتقدم.

 

تميز هذا المنبر بكونه اكتشف مبكرًا دوره السياسى ومهمته الوطنية، فخاض تجاربه وهو يعلم أنه يدخل بكامل إرادته إلى حقول الألغام. وإن نجا، فستلاحقه ضربات قناصة الرجعية وأتباع القصر، ومن الساسة الذين اتخذوا من السياسة وسيلة لاغتصاب كل ما يجب أن يكون للوطن ومواطنيه.

 

هذا الوعى المبكر الذى عرفته صحافة «روزاليوسف» على يد سيدتها فاطمة اليوسف، اعتنقته مطبوعاتها طويلًا بلا خوف ولا كلل، جيلًا بعد جيل، وكأنهم يُورِّثون جينات المقاومة لمن سيجلسون على مقاعدهم أو من سينشرون على ذات صفحاتهم. سواء على مستوى الموقف المهنى الشغوف بكل فنونه، تحريريًا وفنيًا، أو على مستوى صياغة الموقف الوطنى المنحاز للبلاد ومصالحها الكبرى، متوجهة فى كل الأحوال للقارئ/المواطن، مخلصة له ولقضاياه، وفى حقه الكامل فى المعرفة.

 

أرشدنا محمد التابعي، أستاذ الأساتذة، إلى كتابة ذات سمات جديدة، وشقّ بأسلوبه ومنهجه غالبية أنهار وجداول الصحافة اللاحقة. أما صلاح حافظ فقد طبع المجلة بروح أخرى، مستمدة من وعيه بالحداثة والتقدم، وطبيعة دراسته فى كلية الطب، فخورًا بتجارب السجن والاعتقال، وبالروح الوطنية التى طبعت المجلة فى جميع عهودها، مع خلطة العدالة المستوحاة من إيمانه باشتراكية كنا نحبها فى ذلك الوقت.

 

تسلل أسلوب الأخير وطَعم كتابته، بطريقة ما، إلى عادل حمودة، الذى خبزها بمعرفة مختلفة وعجينٍ آخر، وسوّى منها أرغفة طازجة فى صورة موضوعات ووصفة جاهزة، وصلت ملامحها لبعض أبناء جيلي، محمّلة بكل أفكاره الليبرالية المتمردة على الاشتراكية التى خانتنا بعض الشيء.

 

توسعت هذه الجينات أحيانًا كشجرة لها أكثر من فرع، لكنها تنتج الظل بكثافة.

 

رأينا فتحى غانم، الابن المخلص لليبرالية ما قبل 1952، لكنه يعمل بعقلية لاعب شطرنج محترف، وبشخصية رجل القانون..

رجل صامت طوال الوقت بين جدران المجلة، لكنه الصاخب دومًا على صفحاتها.

 

بفضل تلك الليبرالية، وصل فتحى غانم إلى حل شفرة العهد الجديد، وتمكن من صياغة معادلة تجمع بين أدب معتبر – لم يأخذ حقه حتى الآن – وفنون صحفية مكثفة مثل «الأخبار المخبأة» (حاول أن تفهم)، والمقالات التى تراوغ الرقيب لكنها تعرف جيدًا طريقها للوصول إلى القارئ.

 

ربما كان الأستاذ أحمد بهاء الدين أسرع من الجميع فى الوصول إلى هذا القارئ، لأن شعاره كان أن «العقل ضرورة واجبة»، حتى وأنت تكتب عما يحدث فى زوايا السياسة والتاريخ، كما أن العاطفة عليها أن تستريح أحيانًا.

 

آمن بذلك رغم أنه بطل شعار مجلة «القلوب الشابة والعقول المتحررة»، الذى رفعته مجلة «صباح الخير»، ولا يزال شعارًا لها.

 

ما بين عاطفة فتحى غانم وعقلانية أحمد بهاء الدين، خلقت «روزاليوسف» تيارات جديدة فى الاشتباك مع تغيرات الواقع السياسى المصري. هذه التيارات، أعتقد أنها حققت الكثير من النجاحات، عبر استرشاد عقل صانع القرار بما أنتجه جين (غانم/بهاء) من كتابة سياسية رائقة.

 

وإذا كانت «روزاليوسف» قد نشأت قبل مئة عام كمنبر ثقافى (كشأن غالبية المطبوعات آنذاك)، فقد تألقت على يد رجاء النقاش، ومدّت أصوات منبرها فى أرجاء العالم العربي، وخلقت نوعًا خاصًا من الصحافة اعتمده النقاش، الذى فتح بابًا جديدًا لدعم قضايانا القومية. وهو دور لا يقل عظمة عن دور شاعرنا الأكبر صلاح عبد الصبور، وفهمه المغاير لدور مصر الجديد، حين كتب سلسلة تحقيقات صحفية عن ضرورة أن تحصل الفتاة أيضًا على مفتاح المنزل مثل شقيقها (لاحظ أنه لم يكن مشغولًا بقصيدة النثر مثلنا!).

 

فهل يدهشك أن تكون «روزاليوسف» لاحقًا هى المدافع الأكبر عن المرأة المصرية وحرياتها المتعددة؟

 

بل المطبوعة الأكثر اشتباكًا مع كل القضايا الاجتماعية فى زمن التحولات الكبرى؟

 

عشتُ أيامى كلها أتعرف على هذه السردية،

 

لكن فى أيامى الأولى داخل المبنى العريق، وقبل ما يقرب من أربعين عامًا، قال لى منير عامر ونحن نقف فى صالة تحرير مجلة «صباح الخير»

«بما إنك تحب موسيقى كارمينا بورانا، فأنت ستنجح معنا!»

 

فى ذات اليوم، قال لى أستاذى الأول علاء الديب فى منزله بحى المعادى - ونحن نستمع لهذه الموسيقى سويًّا -»الكتابة كالصلاة، تحتاج إلى طهارة ووضوء»

 

ثم أكد لى رؤوف توفيق، فى وقت لاحق، أن السينما ضرورة لفهم السياسة والحياة، بينما منحنى مفيد فوزى أوراقًا نقدية مزينة بتوقيعه الشهير، تحية لما أكتبه.

 

اعتدت فى المساء أن يصطحبنى رؤوف عياد وفوزى الهوارى بودّ إنسانى غير مسبوق، لنأكل ونسهر، ليكشفا لى أننى لن أستطيع الحياة فى هذه المؤسسة دون قراءة تاريخها، ودون فهم ماذا يرسم فنانوها..

 

فى نهار ساطع، أقنعتنى نجلاء بدير ببساطة أن هدف الصحافة الوحيد إنساني، وأن نكون جميعًا – كُتّابًا وقرّاء – أكثر إنسانية. فعرفتُ على الفور أننى فى المكان الصحيح، وهذا بالضبط ما كنت أبحث عنه.

 

خلال السبعينيات، وفى زمن الغضب على عبدالناصر وصبّ اللعنات عليه،

 

وحدها روزاليوسف أنصفته، وقدّمت بشجاعة، وبشهامة أحيانًا، ما له وما عليه، بتدقيق مهنى محترم، حتى لو أغضب هذا الإنصاف السادات.

 

حينما قرر ثلاثة من كبار المؤسسة – عبدالرحمن الشرقاوي، فتحى غانم، وصلاح حافظ – ذِكر حقيقة ما جرى فى انتفاضة يناير 1977، كانت «روزاليوسف» فقط على ضفة الشجاعة، حتى لو كلف ذلك رحيل الفرسان الثلاثة وترجّلهم بقرار رئاسى غاضب، ربما كان غضبًا متراكمًا وبأثر رجعي. عرفتُ ذلك كقارئ للمجلة.

 

هذا الجين تحديدًا – جين الجرأة والإنصاف – تجلّى فى تسعينيات المجلة، حينما تصدّى وارث عظيم لصحافة «روزا» وقيمها (عادل حمودة) لإحياء جديد، لكل الصفات الحميدة فى الصحافة، فكان عقدًا مذهلًا من النجاح، نجاحًا على خطى الأولين.

 

ولأن الإرهاب الأسود كان مسيطرًا، كانت «روزا» فى مقدمة المجاهدين من أجل تنوير البلاد، بعد أن خاف البعض، وهرب البعض الآخر.

 

نشرنا النصوص الممنوعة، واستقبلنا كل الكُتّاب، وأشهرنا كل الأسلحة فى وجه الذين كانوا يرغبون فى عودتنا لخندق الموالسة. وجدنا أنفسنا أمام لحظات البداية ذاتها:  سياسة معقدة، وواقع سياسى بليد:

 

لكن هذه المرة، لم يخربه الاستعمار، بل خرّبه صدام (وآخرون بالطبع)، وفلسطين تئن كعادتها، وساسة مشغولون بتوافه الأمور، ودول ترغب فى تراجع بلادنا

 

وكعادتها، لعبت «روزا» الدور المطلوب، ووقفت على الجانب الصحيح من التاريخ، دون رهبة من أحد قلنا كل ما يجب أن يُقال كنا الصحافة والسياسة معًا، كنا الصحفيين والساسة

هل يصدق أحد أننا كنا حزبًا مهمًا وناجحًا أيضًا؟

هل يصدق أحد أن صحيفة «الأهالي» وكُتابها كانوا أكثر تقدمية وصراحة من الحزب الذى يصدرها؟ وهل من المعقول أن يتراجع «الوفد» والوفديون، وتتقدم الصحيفة ذات الشعار الأخضر والعناوين المنحازة للحرية؟ هكذا كانت بعض الصحافة ممسكة بالجمر

كانت الجينات أكثر تطورًا، وكنا أكثر معرفة بخريطة جينوم «روزاليوسف

مجدى مهنا حاول أن يأخذ كل صفات الشجاعة ممن سبقوه، بينما أصر عاصم حنفى على موقفه بأن الكتابة عن السياسة الخارجية يمكن أن تكون ظريفة، وأن ثقل الظل ليس ضروريًا للتدليل على جديّة القضايا التى نكتب عنها.

 

أما شفيق أحمد علي، فكان يبهرنا بأسلوبه فى كل مرة يكتب فيها، ويؤكد أن الرشاقة فى الكتابة لها محل ميلاد معروف.

 

كل ذلك فى حضور ريشة جمعه فرحات، التى كانت قادرة على صياغة أعقد المواقف الاقتصادية، دون أن ندري، كان جمال سليم يواصل التفتيش فى دفاتر التاريخ، ليزيح الستار عن مجرمين أحرقوا القاهرة، أو حاولوا قتل عبدالناصر، فيما ذهب المستشار سعيد العشماوى إلى عمق التاريخ الإسلامى ليواجه حاضر التطرف واستمر يوسف الشريف فى وصف ما يحدث فى السودان واليمن وكل قضايانا العربية.

 

فعلًا... إنه جين محترم.

 

كل هذه الجينات حضرت لأبناء جيلي، فاستمرت «روزاليوسف»

 

وأعتقد أنه حتى لو تعطل عمل هذه الجينات بعض الوقت، فإنها جينات مراوغة، وقادرة على استعادة نفسها، وخلق مجلاتها وصحافتها، لتكتب التاريخ من جديد.