عبد الله رامي
وقائع أحداث يناير 1977 أشعلتها الحكومة وأطفأها السادات
فى قلب سبعينيات القرن الماضى، ومع فجر 18 يناير 1977، استيقظت مصر على صدمة اقتصادية هزت أركانها.
لم تكن مجرد قرارات حكومية عابرة، بل شرارة أشعلت لهيبًا فى الصدور، انتفاضة شعبية سميت رسميا بـ«انتفاضة الحرامية» و«ثورة الجياع» أو «انتفاضة يناير»، بينما كانت تعبيرًا عن غضب من سياسات أرهقت كاهل المواطن.
فى وسط هذا الغليان، كانت مجلة «روز اليوسف» حاضرة ومشتبكة، لم تكتف بنقل الخبر، بل تعمّقت فى تشريح الأزمة وتقديم قراءة نقدية بلسان الشعب، لا بلسان الحكومة.. روزا وقتها كان يرأس مجلس إدارتها الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى وعلى كرسى رئيس التحرير يجلس المايسترو صلاح حافظ.

قرارات السادات الاقتصادية
كانت الأجواء الاقتصادية فى مصر وقتها محفوفة بالتوتر؛ فبعد سنوات من التحديات عقب حرب أكتوبر، كانت جيوب المواطنين تعانى ضغطًا مستمرًا. وفى هذا المناخ، فاجأت الحكومة، برئاسة ممدوح سالم، الشعب بإعلانها عن حزمة قرارات اقتصادية قاسية، مستندة إلى توصيات صندوق النقد الدولى. تضمنت هذه القرارات رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية، الخبز، السكر، الأرز، زيت الطعام، السلع التى تمثل شريان حياة لملايين المصريين، خاصة من الطبقات الفقيرة ومحدودى الدخل. ورغم محاولات الحكومة تبرير هذه الإجراءات بضرورة «الإصلاح الاقتصادى»، إلا أنها نزلت كالصاعقة، مفجرة بركانًا من الغضب الشعبى فى يناير 1977.
سرعان ما اشتعل الشارع المصرى. تحولت المظاهرات، التى اندلعت عفويًا فى القاهرة وعدة مدن أخرى، إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن. علت الهتافات المنددة بقرارات الحكومة، معبرة عن رفض قاطع لتدهور الأحوال المعيشية. وبينما اضطرت الحكومة للتراجع عن قراراتها فى غضون 24 ساعة، كشفت الانتفاضة عن شرخ عميق بين الحكومة والنبض الشعبى.
روزا صوت الشعب
فى هذا المشهد المضطرب، كان قرار «روز اليوسف» واضحًا بالانحياز للحقيقة. فى حين كانت الروايات الرسمية تصف المتظاهرين بـ«الحرامية» و«المخرّبين» وتربط الأحداث بمؤامرات خارجية، تبنت المجلة خطابًا مغايرًا، متفردًا فى جرأته. لم تكن المجلة مجرد ناقل للأحداث، بل كانت ساحة للاشتباك ومساحة للمعرفة والفهم، سعت لفهم الأسباب العميقة وراء هذا الانفجار الشعبى.. لتشعل روزا شتاء 1977 فى مواجهة حكومة ممدوح سالم.
صحافة بلا خوف
غطّت «روز اليوسف» الأحداث بموضوعية لافتة، بنشر تقارير مصورة من قلب المظاهرات، ومستمعة إلى أصوات المواطنين الغاضبين. لم تتردد المجلة فى التأكيد على أن القرارات الاقتصادية كانت هى الشرارة المباشرة للغضب، وأن الأزمة أعمق من كونها مؤامرة خارجية.
فى المواجهة كان التبرير الحكومى، بضرورة «ترشيد الإنفاق» و«إصلاح الهيكل الاقتصادى»، يبدو بعيدًا عن واقع الحال المرير الذى يعيشه المواطنون. فبالنسبة لرب الأسرة، لم تكن تلك مجرد أرقام فى ميزانية دولة، بل كانت تعنى عجزًا عن توفير الطعام لأطفاله، وزيادة فى المعاناة اليومية التى تآكلت بفعلها أوجاع السنين. كانت الصدمة قاسية، والشارع المصرى لم يتمهل طويلًا فى ترجمة ألمه إلى غضب صريح.
روزا كانت تسمع همس من خرجوا غاضبين من مصانع حلوان الصناعية، ومن الأزهر الشريف، ومن الأحياء الشعبية فى القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، تسجل هتافاتهم ورسائلهم.. لتحقق هدف الصحافة الأسمى كوسيط فعّال بين المواطن والمسئول.
هتف المتظاهرون بشعارات لم تكن مجرد مطالبات بأسعار أقل، بل كانت تعبيرًا عن رفض شامل للسياسات التى تتجاهل نبض الشارع ووجع البسطاء.
تفاقمت الأحداث سريعًا، ووصلت إلى أوجها فى 19 يناير، عندما أُحرقت بعض أقسام الشرطة والمقار الحكومية والمؤسسات التى رأى فيها المتظاهرون رموزًا للاستغلال.
اضطرت الحكومة فى النهاية إلى احترام الغضب الشعبى، وأعلن الرئيس أنور السادات، مساء يوم 19 يناير، التراجع الكامل عن جميع قرارات رفع الدعم. ورغم أن هذا التراجع جاء ليطفئ لهيب الشارع، إلا أن الانتفاضة تركت ندوبًا عميقة.

تحليل معمق درس روزاليوسف
لم تكتف «روز اليوسف» بتغطية السطح، بل تعمقت فى تحليل الأسباب الكامنة وراء الانتفاضة. تناولت المجلة قضايا الفقر المتزايد، وغياب العدالة الاجتماعية، والتأثير السلبى لسياسات الانفتاح الاقتصادى على الطبقات الفقيرة والمتوسطة. أكدت المقالات التحليلية هنا على صفحات المجلة أن سياسات رفع الدعم دون توفير شبكات أمان اجتماعى كافية أو بدائل حقيقية، أدت إلى تدهور مستويات المعيشة وشعور عام باليأس والإحباط.
عناوين مثل «الوهج والغموض فى مواجهة المخرّبين» لم تكن مجرد وصف، بل كانت دعوة للتأمل فى «غموض» الرواية الرسمية، ومحاولة لتجاوز التفسيرات السطحية.
واجهت «روز اليوسف» الرواية الرسمية التى سعت لتحميل المسئولية على «عناصر شيوعية» أو «عملاء أجانب»، من خلال تحقيقاتها ومقالاتها، أوضحت المجلة أن الانتفاضة كانت شعبية الطابع، وأن المشاركين فيها كانوا فى غالبيتهم من الطبقات العاملة والفئات الشعبية التى طالتها قرارات رفع الدعم بشكل مباشر.
كانت المجلة حريصة على إبراز الجانب الإنسانى للأزمة، وتسليط الضوء على معاناة الأسر المصرية، فنشرت قصصًا عن ربات البيوت اللاتى لم يعد بمقدورهن توفير الخبز لأطفالهن، وعن العمال الذين تآكلت أجورهم بفعل التضخم. هذا التركيز على معاناة المواطن ساعد فى إضفاء الشرعية على غضب المتظاهرين، وفند وصفهم بأنهم مجرد «حرامية».
نقد صريح لسياسات الحكومة
رغم حساسية الموقف والقبضة الحكومية الشديدة آنذاك، لم تتوان «روز اليوسف» عن توجيه النقد، المبطن أحيانًا والصريح أحيانًا أخرى، لسياسات الحكومة. كشفت روزا عن قصور التخطيط الاقتصادى، وغياب الرؤية الشاملة، والتأثير السلبى للتبعية الاقتصادية على اتخاذ القرار السيادى.
يمكن قراءة هذه الانتقادات بين السطور فى عناوين منها العنوان الأشهر «الحكومة أشعلت الحريق والسادات أطفأه»، الذى وإن كان ينسب للسادات دور «المطفئ»، إلا أنه يؤكد بوضوح أن «الحكومة أشعلت الحريق» فى المقام الأول، ويبرز مسؤوليتها عن إثارة الأزمة، وينفى رواية أن الانتفاضة نتاج مؤامرة.
الكاريكاتير رأس الحربة
استخدمت «روزاليوسف» الكاريكاتير كأداة بليغة للتعبير عن الرأى العام والنقد الساخر للوضع. كانت الرسوم الكاريكاتورية التى نشرتها المجلة تتجاوز الكلمات فى توصيل رسائل سياسية واجتماعية عميقة، وعكست بذكاء تناقضات الواقع ومفارقاته. هذه الرسوم كانت بمثابة صمام أمان للتعبير عن الغضب الشعبى، أحيانًا بطريقة تتجاوز قيود الحكومة.
درس انتفاضة الخبز
بعد أن تراجعت الحكومة، لم تتوقف «روز اليوسف» عن متابعة تداعيات الانتفاضة. نشرت المجلة تحقيقات حول الاعتقالات التى طالت الآلاف، وسلطت الضوء على ضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية لضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث.
ورغم مرور قرابة النصف قرن على هذه الأحداث.. تعد معالجة «روز اليوسف» صحفيًا لانتفاضة الخبز عام 1977 نموذجًا يُحتذى به فى الصحافة المسؤولة. لقد قدمت المجلة صوتًا بديلًا للرواية الرسمية، وسعت إلى فهم الأسباب الجذرية للأزمة، وسلطت الضوء على معاناة المواطنين.
ورغم التحديات والضغوط، حافظت «روز اليوسف» على مكانتها كمنبر جرىء للنقد والتحليل، وأسهمت بفاعلية فى تشكيل الوعى العام حول واحدة من أهم المحطات المفصلية فى تاريخ مصر الحديث.
لقد علمتنا تلك الانتفاضة، وبتوثيق «روز اليوسف» أن الصحافة مناعة هذا الوطن ضد الروايات الكسولة للحكومة.











