الجمعة 31 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف
غـرام المبـادئ وانتقام السياسة!

روزاليوسف ومصطفى النحاس باشا

غـرام المبـادئ وانتقام السياسة!

«عرفت أغلب الزعماء والكبراء.. وكان أغلبهم لا يتحدثون فى مجلسهم إلا بالطعن فى الآخرين، وكانت  أغلب المطاعن التى يوجهونها إلى غيرهم مطاعن شخصية!.. كنت أقف وراء كل سياسى كبير يلف حول عنقه شرفه ووطنيته وأتخلى عنه فى اللحظة التى يخلع فيها رباط عنقه!. قد تستطيع أن تحكم على الإنسان من اللقاء الأول لكن حكمك على «الإنسان السياسى» يختلف فى كل لقاء، وتستطيع أن تقول دائمًا إن هذا الإنسان صديقى لكنك لا تستطيع أن تقول أبدًا هذا السياسى صديقى، فإن صداقتك له معرضة فى كل يوم وفى كل ساعة لأزمة قد تقلبها عداوة!



إن الصداقة لدى الساسة هى مصلحة، وهم أصدقاؤك  مادمت صديقًا لمصالحهم، ويوم تقف ضد مصالحهم فى سبيل رأى، مهما كان رأياً حراً خالصاً، كان أول ما يبيعونه هو الصداقة».

 

هذه السطور التى تنبض بالصدق والشجاعة كانت للسيدة العظيمة «روزاليوسف» فى مناسبات مختلفة وهى القائلة أيضًا: «إن حياتى كلها فى هذه الصفحات التى تؤلف مجموعة.. روزاليوسف خلال ثلاثين سنة».

 

والسطور القادمة مجرد محاولة لرصد علاقة روزاليوسف ببعض هؤلاء الزعماء والكبراء سياسيًا وصحفيًا وإنسانياً أيضًا.

 

يأتى فى مقدمة هؤلاء الزعماء والكبراء «سعد زغلول باشا» زعيم الأمة صحيح أنها لم تقابله وجهاً لوجه لكنها أحبته وعشقت وطنيته وعقب القبض عليه ونفيه إلى جزيرة «مالطة» كانت على رأس المظاهرات التى ملأت الشوارع تصرخ بسقوط الإنجليز وهى حاملة العلم المصرى.

 

كانت ثورة سنة 1919 بداية اهتمام روزاليوسف بالسياسة وكما تقول: «كل ما كانت تفهمه أن البلد فيه إنجليز يغتصبونه، وأن «سعد زغلول» رجل عظيم قام يحرر هذا البلد، وأحبت سعد زغلول حباً شديداً وتتذكر أياماً سارت فيها على قدميها من ميدان باب الحديد إلى مصر الجديدة لتستمع إلى خطاب يلقيه سعد هناك، ولعل إعجابها بسعد وحرصها على سماعه كلما خطب فى مكان، كان له سبب آخر متعلق بالفن، فقد كان «سعد» صاحب أجمل صوت بين أصوات الخطباء، صوت يهدر كالرعد ويعصف كالريح ويهدأ كالموج المتكسر الصغير، وطريقته فى الإلقاء تعطى الكلمات - نفس الكلمات - رنيناً أخاذاً ومعانى جديدة، وكان كل الناس يحبون «سعدًا» بلا رهبة ولا خوف ولا نفاق».

 

وهكذا صدرت روزاليوسف وهى تحمل كل الحب والتقدير لسعد زغلول وحزب الوفد ومبادئه وتقول: «كان سعد زغلول قد تحول من شخصية ممتازة إلى فكرة ومن فكرة إلى عقيدة وطنية وصارت حركاته وسكناته متصلة بتصرفات الناس. وكانت مجلة الكشكول فى عنفوان جبروتها وكان لها سوط سليط تشرعه على كل كبير وكان «سعد زغلول الهدف الأول والأخير لهجماتها. وكنت كلما قرأت الكشكول وهو ينال من سعد العظيم» أقضى ليلة مزعجة أتمنى أثناءها أن يحولنى الله من امرأة إلى رجل لأذهب إلى الأستاذ «سليمان فوزى» صاحب الكشكول وأضربه علقة وزغدين!!

 

وازداد دفاعى عن سعد قوة وأخذت أجاهر بمظاهر عظمته، ولم أعد أخاف أن أصرح برأيى فيمن يحيطونه من رجال الوفد وأخذ الناس يتحدثون عن المجلة.

 

وفى أحد الأيام حمل إليّ كبير من المتصلين بالزعيم أن الباشا «سعد زغلول صرح بأن المجلة دمها خفيف وأن الكلام اللى بتقوله صحيح». وبدأ سائر أعضاء الوفد الكبار يقبلون على قراءتها ويترقبون صدورها، ولكنهم كانوا إذا دخلوا بيوتهم أخفوها فى جيوبهم حتى لا تقع عليها عيون أهليهم! فقد كان ما يزال غريبًا أن تحمل مجلة سياسية مرموقة اسم سيدة!

 

كانت السيدة «روزاليوسف» فى باريس عندما جاء نبأ وفاة «سعد زغلول» فى أغسطس سنة 1927 وتقول: حزنت لذلك حزنًا شديداً ولزمت غرفتى يومين لا أبرحها، حاولت أثناءها أن أسجل دموع العين والقلب فى سطور فلم أستطع، وهجس بخاطرى أن أهجر الصحافة، ولكن سرعان ما زال هذا الهاجس بعد أن أمعنت النظر فى الماضى وفى جهاد عامين مليئين بالمفاجآت والحوادث!

 

وصدرت المجلة مجللة بالسواد - العدد 95 - تحمل على صدرها صورة مهيبة لسعد، فكانت أول مرة تظهر فيها صورة رجل سياسى على غلاف المجلة!.

 

دارت معركة مكتوبة داخل حزب الوفد لاختيار خليفة «سعد زغلول» وهاجمت «روزاليوسف» الصحف المعارضة للوفد التى بدأت بث الفرقة والشقاق وزيادة الخلاف بين كبار رجال الوفد، واجتمع الوفد وتم اختيار «مصطفى النحاس» رئيسًا له، ورحبت روزاليوسف بهذا الاختيار ودافعت عنه بأنه رجل نزيه جداً، صعب جدًا فيما يراه حقًا، صريح جدًا». ونشرت على غلافها أول رسم كاريكاتير لمصطفى النحاس بريشة الرسام «حسين فوزى» - المخرج السينمائى فيما بعد.

 

كان أول اتصال مباشر للسيدة روزاليوسف مع «النحاس باشا» عقب مصادرة حكومة محمد محمود باشا للعدد 134 من المجلة بسبب صورة كاريكاتير الاعتداء على الدستور وتقول روزاليوسف:

 

كان أول عجبى أن يكون هناك شيء اسمه مصادرة لمتاع امتلكه اشتريته بدمى وكفاحى، وجريت إلى بيت الأمة بغير سابق موعد ولا استعداد وهناك كان يجلس مصطفى النحاس ومكرم عبيد وحولهما بقية أعضاء الوفد الكبار، والتف الجميع حولى يتأملوننى لأول مرة والدهشة ملء عيونهم، فهذه إذن هى السيدة التى تصدر مجلة سياسية والتى تدافع عن الوفد وتهاجم خصومه وتتفوق فى ذلك على غيرها من صحف الوفد دون أن تعرف واحدًا من الوفديين!

 

ولم أنتظر حتى تنتهى دهشتهم فقلت لمصطفى النحاس:

يا باشا - صادروا المجلة، وأنا عاوزة الإفراج عنها!

وقال لى النحاس: اقعدى يا بنتى إيه اللى حصل؟!

ورويت القصة كلها وقدمت له نسخة كنت أحملها من العدد المصادر.

وقال مكرم عبيد فى لهجة خطابية: لك الفخار يا سيدتي!

ولم يأمر النحاس طبعا بالإفراج عن العدد كما كنت أتوهم ولكنه استدعى عدداً من المحامين الشبان فى ذلك الوقت منهم «محمد صلاح الدين» وزير الخارجية فى آخر حكومة وفدية - وصبرى أبوعلم وسليمان غنام وكلفهم برفع دعوى مستعجلة بطلب الإفراج!

 

ظلت علاقة روزاليوسف بالنحاس باشا والوفد طيبة لا يشوبها شائبة وظلت تدافع عن مواقف الوفد وقراراته، ووصل الأمر بجريدة السياسة لسان حزب الأحرار الدستوريين وخصم الوفد اللدود أن أطلقت على الوفد اسم «حزب روزاليوسف» ولم يجد النحاس باشا، أى غضاضة فى هذه التسمية، بل وقف مرة وكان يخطب فى حشد من الوفديين قائلًا: إنه يفخر بأن يكون الوفد حزب روزاليوسف المجلة المجاهدة التى لا تبالى بالاضطهاد.

 

وتحكى «روزاليوسف» موقف بالغ الدلالة والأهمية من النحاس قائلة:

ذهبت مرة إلى سرادق الاحتفال بذكرى 13 نوفمبر وكان مكتظاً بالجماهير الملتهبة ومصطفى النحاس واقفاً يخطب على منصة فى صدر السرادق، وكان فى السرادق قسم خاص للسيدات، لم أشأ أن أذهب وأجلس فيه وسمع النحاس عند مدخل السرادق هتافًا وضجة: وسع يا جدع.. وسع أنت وهو!

 

وصاح النحاس فيه إيه هناك؟ ثم رآنى أدخل والواقفون يحاولون أن يفسحوا لى مكانًا أجلس فيه فصاح فيهم. شيلوها وهاتوها هنا»!!

 

وقبل أن أفكر فى الأمر كانت الجماهير قد حلمتنى وفى لمح البصر وجدتنى أجلس على المنصة بجوار النحاس.

 

وفى مرة أخرى أراد النحاس أن يكرم المجلة فقرر أن يقوم بزيارتها وجاء ومعه «مكرم عبيد» الذى ألقى خطبة رنانة فى عمال المطابع الذى طاف عليهم الحاج حسن رئيس عمال مطبعة روزاليوسف وجمعهم من شتى المطابع فى أنحاء القاهرة ليستقبلوا النحاس.

 

ولما ألقى «مكرم» خطبته كان المفروض أن يرد عليه مرحبًا  واحد من أسرة التحرير ولم أكن أنا ولا الأستاذ التابعى متعودين على الخطابة، وإن كانت «ألسنتنا» على الورق تبدو طويلة، فلم نجد إلا أن يقف الحاج حسن وكان وفديًا متطرفًا ليلقى خطبة الترحيب نيابة عن المجلة.

 

ببساطة شديدة تعترف روزاليوسف قائلة:

كنت أرى فى مصطفى النحاس خليفة لسعد العظيم فى إخلاصه وفى بعد نظره وفى حسن اطلاعه بالأمور.

 

كان أول ما يسترعى النظر فيه بساطته الشديدة وطيبته البادية على تقاسيم وجهه، لم تكن تجد فى مجلسه شيئًا من المراسيم التى تميزت بها مجالس الكبراء فى ذلك الوقت.. بل كان فى سلوكه صوره الرجل المصرى العادى البسيط.. وكان لا يقطع المسافة بين النادى السعدى وبيت الأمة إلا سيراً على قدميه..

 

وكان يحلو له أحياناً أن يسير على قدميه من النادى السعدى إلى محطة المترو فى شارع عماد الدين ليركبه حيث يسكن فى مصر الجديدة، وكنت أقطع هذه المسافة معه فى كثير من الأحيان نتحدث فى شتى الأمور.

 

كان مصطفى النحاس هو الوحيد تقريبا الذى لا يتحدث في مجالسه عن الآخرين بمن فيهم أعنف خصومه، فإذا تعرض لواحد من خصومه لم يزد على أن يقول: ده راجل غير وطني!

 

وحدث بعد أن أعلنت خطوبته إلى السيدة زينب الوكيل أن نشرت روزاليوسف بعض تفاصيل شخصية طريفة عن حياة النحاس - وأنواع الأطعمة التى يفضلها وحبه الخاص للبن الزبادى وما إلى ذلك! وإذا بالنحاس يحدثنى فى التليفون غاضبًا فى الصباح ويقول لى:

 

- يا ست هو أنا زي «أمينة البارودى» و«سهير رياض» عشان تنشروا عنى الأخبار دي؟

يريد بذلك أنه ليس من زهرات المجتمع البارزات حتى تروى عنه هذه القصص!

وترصد السيدة روزاليوسف سلوك وتصرفات المحيطين بالنحاس قائلة:

- «حول النحاس أيضا كانت تلتف حاشية من تلك التى تجدها حول كل زعيم.. فكل زعيم له أوقات فراغه، وله ساعات يبعد فيها عن مسئولياته  وفيها يحتاج إلى جلساء يحدثونه فى المسائل البسيطة البعيدة عن المسائل السياسية، وقد رأيت كيف أن أفراد كل حاشية يتطورون بحيث تصبح لهم مهمة واحدة وهى أن يسمعوا الزعيم الحديث الذى يسره فهم يمجدون له كل أفعاله ولو كانت تفاهة.. وهم لا يصنعون ذلك كله بالطبع إلا المنفعة.

 

وهكذا تمضى موجات النفاق حاملة على سطحها   المصالح المتزايدة ولا تكون لذلك كله من نتيجة إلا وضع ستار كثيف بين الزعيم وجماهيره ونشر رذاذ الشبهات والاتهامات من حوله».

وتحكى روزاليوسف تفاصيل حكاية أسعدتها قائلة:

وقف النحاس باشا يخطب فى حفل كبير مندداً بتدخل الوزارة فى الحد من حرية الصحافة بل وفى خنقها وصرخ بالصوت العالى: «وها هى صحيفتنا روزاليوسف تصادر» مقدماً بذلك البرهان على ما يذهب إليه فى اتهامه، وكان لهذا التصريح أثره العميق فى نفسى، إذ نلت براءة الرتبة الجديدة وهى أن روزاليوسف الصحيفة وفدية على سن ورمح!

وعلقت جريدة «The Times» على خطبة النحاس بها وتبعتها فى ذلك بعض الجرائد الإنجليزية والفرنسية ففرحت إذ رأيت اسم مجلتى تتناقله الصحف الأجنبية، ورأيت فى هذه فدية ما نالتنى من أضرار المصادرة وآلامها.

 

وكان موقفى أن أدافع عن الوفد كما هو دأبى دائمًا وكنت مضطرة بحكم أن خصومى كانوا لا يتورعون عن منازلتى والوفد بأحط الألفاظ وأسوأ العبارات.

 

وكان لهذا الكفاح ثمنه الباهظ الذى دفعته المجلة من المصادرة والقضايا، وتحقيقات ووقوف فى ساحات المحاكم ورحلات يومية إلى مبنى النيابة!

 

فى أول يناير سنة 1930 تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة للمرة الثانية واستمرت ستة شهور فقط حتى يوليو من نفس العام.

 

تقول روزاليوسف: سارت سفينة الوزارة الوفدية تدفعها أنفاس أمة تتوق إلى الاستقرار وتحقيق أمانيها فى الاستقلال وحسن التفاهم مع الإنجليز، وكان هدف الوفد الأول فى سياسته الخارجية المفاوضة مع الإنجليز على أساس جديد غير أساس مشروع معاهدة «محمد محمود - هندرسن». وكان هدف الوفد فى سياساته الداخلية وضع قانون يقدم إلى المحاكمة كل من يمس دستور البلاد ويعمل على النيل منه.

 

ولهذا لم يكن عجبًا أن يتشاءم المتشائمون فى قرب نهاية الوزارة الوفدية.

 

وذهب النحاس إلى لندن لمفاوضة الإنجليز ثم لم يلبث أن قطع المفاوضات بسبب مسألة السودان قائلًا كلمته المشهورة: تقطع يدى ولا يقطع السودان!

 

وكان لهذا الموقف صدى كبيرًا فى الرأى العام تجلى فى الاستقبالات الحافلة التى قوبل بها عند عودته، غير أنه لم يلبث أن أدلى بتصريح آخر قال فيه: لقد خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز! وتعلق روزاليوسف على ذلك بقولها: «ولم أفهم كيف يمكن أن نخسر الاستقلال ونكسب صداقة الإنجليز فى نفس الوقت، وقابل كثير من الناس - ومن أنصار النحاس - هذا التصريح بالوجوم، ولما استغلت الصحف المعارضة هذا التصريح لمهاجمته، لم تكتب روزاليوسف حرفًا واحداً فى تبرير  هذا التصريح».

 

تصف روزاليوسف تلك الوزارة بقولها: كانت حياتها القصيرة مليئة بالحوادث وانتهت وقد خسر النحاس باشا المعاهدة وعطف السراى واكتسب صداقة الإنجليز - كما خلد فى روعه وجرى بذكر لسانه.

 

إن النحاس باشا قد خرج على التقاليد من أجل هذه الصداقة يوم أن سعى لانتظار السير «برسى لورين» المندوب السامى فى ذلك الوقت فى محطة القاهرة عند عودته من أوروبا، فسجل على نفسه أن أول وزير فى عهد الدستور سار بركابه إلى المحطة ليهدى إلى المندوب البريطانى آخر عبارات الشوق والترحيب.

 

يقول مصطفى النحاس باشا فى مذكراته: «أخذت الأحاديث تتناقل بأن العراقيل توضع فى وجه الوزارة حتى لا تستمر فى الحكم وأن القصر يلعب دورا خطيرا فى هذا الصدد، واستقر رأينا على أن نقدم استقالة الوزارة للملك مادام الموقف قد أصبح حرجًا إلى هذا الحد وأصبحنا لا نستطيع أن نؤدى واجبنا الوطنى».

 

وتكشف روزاليوسف عن مفاجأة مهمة بقولها:

 

وضع النحاس حدًا لهذه الأزمة باستقالته وقبلت الاستقالة فوراً، ونشرت روزاليوسف ما تردد فى ذلك الوقت من أن خطاب قبول الاستقالة كان معدًا قبل أن تكتب الاستقالة ذاتها».

 

دعى دولة «صدقى» باشا إلى سراى عابدين وكلفه جلالة الملك بتأليف الوزارة (19 يونيو سنة 1930)، وما كاد الأمر الملكى يعلن قيام «الوزارة الصدقية» حتى ركبت العفاريت رأس «النحاس باشا» فقام يخطب فى بيت الأمة ويتهم رجال السراى بالتآمر على الدستور ويدعو الأمة إلى الدفاع عن دستورها الذى علق فى رقبته حبل المشنقة!

 

كانت زيارة النحاس باشا للأقاليم بداية عهد دموى فى تاريخ الوزارة وضربت فيه الوزارة والوفديون أرقاماً قياسية فى العناد وفى القسوة وفى ركوب كل الوسائل للوصول إلى ما يبتغيه كل فريق!

 

واحترق أبرياء ذهبوا ضحية مبدأ أساء قادته تصريف الأمور!

ورغم كل هذه الملاحظات الغاضبة من روزاليوسف على تصرفات الوفد وقادته إلا أنها تعترف قائلة:  «أما أنا فصمدت فى الدفاع عن النحاس كسابق عهدى، وحملت المجلة لواء المعارضة الشديدة بعد أن وطنت النفس على استقبال عهد جديد من الغلب والقرف»!

 

وشنت روزاليوسف على حكومة صدقى باشا، أعنف الحملات وصدرت المجلة وقد رسمت على غلافها عبارة حكم الإرهاب، وصادر صدقى باشا العدد وقرر إلغاء رخصة المجلة إلى أجل غير مسمى، وصدرت مجلة «الصرخة».

 

وتمضى روزاليوسف قائلة: «كان الوفد فى عنفوان قوته فقاد الشعب إلى مقاومة عنيفة كان «النحاس» يجوب البلاد فى رحلات تؤكد كراهية الشعب للحكومة ويسقط فيها القتلى عشرات، وحدث أن قرر الوفد أن يخرج النحاس على رأس أعضاء مجلس النواب المنحل فى مظاهرة كبيرة تقتحم أبواب البرلمان، وعلم «صدقى» رئيس الحكومة ووزير الداخلية - بذلك فأطلق إشاعة قوية تقول: إن البوليس سيقاومها بضرب النار وأن النية مبيتة على قتل «النحاس» شخصياً. وكانت النتيجة أن عدل الوفد عن هذا القرار، واكتفى بإرسال عريضة إلى الملك!

 

وكان الناس يترقبون ما سيحدث فى ذلك اليوم، وقد توترت أعصابهم إلى أقصى حد فلما تمخض الموقف عن عريضة كانت خيبة الأمل بالغة»!!

 

وفى مرة أخرى خرج النحاس على رأس رجال الأحزاب فى رحلة إلى طنطا وكان «صدقى» قد أمر بمنعهم من السفر لكنهم استطاعوا أن يقتحموا المحطة ويركبوا القطار، ودون أن يشعر أحد أمر «صدقى» ففصلت العربة التى يركبها النحاس عن سائر العربات وتحرك بها قطار خاص إلى منطقة نائية فى الصحراء وتركتهم هناك!!

 

ورغم كل ذلك وبعد سنوات طويلة تقول روزاليوسف، وكان صدقى باشا قد رحل عن الدنيا قائلة: «رجلاً نادرًا فى صفاته الشخصية بغير شك ذكياً مجاملاً، دائم الابتسامة تصدر عنه الآراء الصائبة فى سهولة ويسر دون أن يكدح فى سبيل العثور عليها».

 

وحدث الخلاف بين روزاليوسف وحزب الوفد وكان الخلاف الأول وكان خلافًا بسيطًا لكنه كشف لـ«روزاليوسف» جوانب خفية لها دلالتها السياسية فتقول:

 

«نشرت فى جريدتى خطاباً مفتوحًا موجهًا إلى المغفور له الملك «فؤاد» أناشده بإعادة الدستور وإنهاء الحالة الشاذة القائمة واستدعانى مكرم عبيد وقال لى:

 

كيف تكتبين خطاباً مفتوحاً للملك، لقد ظن الناس إننا نريد بذلك مصالحة الملك وهذا غير صحيح، فمن قال لك بكتابة هذا الخطاب.

 

ودارت بيننا مناقشة طويلة، أوضحت له فيها أنى لا أعبر عن رأى أحد.. إلا عن رأيى الخاص!

وحاولت بعد ذلك أن أقابل «النحاس» لأشرح له وجهة نظرى فى الموقف السياسى ولكننى لم أستطع، إذ كان الأستاذ «مكرم عبيد» هو الذى يتحكم فى مقابلات النحاس، وكلما ألححت كلما أصر على الرفض!!

 

كان مكرم «عبيد» أقرب الناس إلى مصطفى النحاس والمسيطر عليه إلى حد بعيد ولا يتصل به أحد إلا من خلاله، ولا تتم مقابلة مهمة مع النحاس إلا فى حضوره! حتى وصفه فى إحدى خطبه بالزعيم المقدس!!».

 

وطوال تلك السنوات تعرضت روزاليوسف للمصادرة والإلغاء ووقف الصدور ومحاكمات وغرامات لكنها لم تستسلم أو تيأس وأصدرت عشرات المجلات بديلًا عن روزاليوسف ومنها: الرقيب، الشرق الأدنى، صدى الحق، مصر الحرة، الصرخة وغيرها.

 

وفجأة حدث خلاف بين روزاليوسف والأستاذ «محمد التابعى» وغادر التابعى مجلة روزاليوسف وخرج معه مصطفى وعلى أمين وصاروخان وسعيد عبده.

 

وبينما كان الكل يتوقع نهاية المجلة وموتها قررت روزاليوسف إصدار جريدة يومية بنفس الاسم! كان مصطفى النحاس آخر من يعلم بقرار روزاليوسف ونيتها فى إصدار جريدة يومية ويقول فى مذكراته:

 

«أعلنت جريدة روزاليوسف الأسبوعية أنها ستصدر يومية على مبادئ الوفد المصرى وقد عينت لها - كما بلغنى - طائفة من المحررين المشكوك فى وفديتهم وفى أنهم يؤيدون الجناح المتطرف فى الوفد.

 

إذن أخذ الناس يتحدثون فى الخارج عن أن فى الوفد جناحين معتدلا ومتطرفًا ولقد ساءنى هذا كثيرًا لأنى أعلم أن الوفد منذ أن انتخبنى رئيساً له على قلب رجل واحد وعلى مبدأ واحد ولا نعرف فيه معتدلا ولا متطرفًا، وأن رسالته ومهمته هى هى لم تتغير، السعى إلى استقلال البلاد استقالاً تاماً والتخلص من الاحتلال والسير بالبلاد لمحاذاة ركب الحضارة».

 

وروت روزاليوسف فى مذكراتها بداية تفاصيل الخلاف والصدام مع النحاس باشا والوفد فتقول: «إن الناس تكونت لديه فكرة ضد الجريدة قبل صدورها وخفف منها بعض الشيء زيارة قام بها العقاد للنحاس، أوضح له فيها أن الجريدة الجديدة وفدية وأنه يخدم بقلمه نفس المبدأ الوفدى فى المكان الذى يريحه.

 

وتكمل روزاليوسف قائلة: كان ثمة سبب زاد تشكك النحاس فى الجريدة وهو مهاجمتى لوزارة توفيق نسيم بعنف فى الوقت الذى كان الوفد فيه يهادن الوزارة ويسندها.

 

واستدعانى مصطفى النحاس لمقابلته وذهبت إليه فى بيت الأمة وكان يجلس على مكتب «سعد زغلول» وقد وضع فى عروة جاكتته وردة حمراء يانعة - وكان قد تزوج حديثًا - فلم يكد يرانى حتى لوح بالمجلة فى يده وصاح فى وجهى: إيه القرف اللى أنتو كاتبينه؟!

 

ودهشت لهذه المفاجأة، فوقفت ذاهلة لحظة ثم قلت: فيه إيه يا باشا؟! فصاح: إنتى بتعارضى وزارة توفيق نسيم ليه؟! قلت: وزارة توفيق نسيم جابها الإنجليز والسراى وهى التى تؤجل عودة الدستور.. إزاى ما اهاجمش؟! فقطاعنى قائلا: لا يا ستى.. أنا ما أحبش تناقشينى فى السياسة أنتى يعني عايزة «محمد محمود» - رؤساء وزراء - يرجعوا .. إحنا تعبنا!!

 

وخرجت قبل أن يتم حديثه وكلمة «إحنا تعبنا» التى أسمعها منه لأول مرة ترن فى أذنى - وما تزال إلى الآن - (وقت كتابة الذكريات سنة 1953) وقد شعرت أن هناك شيئًا يباعد بينى وبين الوفد.. وإن بقيت المجلة وفدية وبقيت الخطة المقبلة للجريدة اليومية مبنية على تأييدها للوفد».

 

كانت العادة قد جرت على أن يذهب كل من يريد أن يصدر جريدة أو مجلة وفدية إلى مصطفى النحاس.. بوصفه زعيمًا للوفد يستأذنه فى الصدور ويستمع إلى نصائحه وتوجيهاته ويتلقى تأييده الأدبى.

 

وعقدت العزم فى أول الأمر على ألا أذهب إليه متأثرة بمقابلته السابقة لى، ولكن الأستاذ «العقاد» أقنعنى بأن أنسى هذه المقابلة وأن أذهب لزيارته كالعادة!

 

وفعلًا ذهبت إليه مع الدكتور محمود عزمى بوصفه رئيساً للتحرير لمقابلته، وما إن دخلنا عليه حتى قلت له: إن شاء الله تكون راضى يا باشا؟ فأسرع يقول : لا يا ستى أنا مش راضى!

 

قالها بطريقته البسيطة بين المداعبة والجد التى تنم عن قلب أبيض ونية خالصة وهى طريقة يمكن أن يتقبلها أى إنسان بلا غضب فضحكت واستطرد قائلا: أنتوا حتمشوا فيها زى المجلة؟ فقلت: زى ما أنت عايز يا باشا؟ فرضى قليلا ثم قال: وحتطلعوا الصبح ليه؟!

 

فشرحت له الموقف وكيف أننا سنطبع الجريدة فى مطابع «البلاغ» ولما كانت «البلاغ» تصدر مسائية فلابد أن تصدر روزاليوسف صباحية فبان عليه الاقتناع وأن بدا إنه اقتناع غير كامل». وتحدثنا بعد ذلك عن السياسة العامة طويلا ثم صافحته وانصرفت ولم أكن أعلم أن هذه هى آخر مرة أقابل فيها «مصطفى النحاس».

 

ورفض «النحاس» أن يرسل كلمة يصدر بها العدد الأول رغم أن كاتب الجريدة الأول هو كاتب الوفد الأول الأستاذ العقاد.

 

وتحكى روزاليوسف أن المتاعب الكبرى جاءت من الحزب الذى تؤيده، وكيف فشل محررها كامل الشناوى فى الحصول على خطبته للنحاس باشا فى رحلة له لنشرها، حتى تصدر الصحف الأخرى حاملة الخطبة ماعدا روزاليوسف اليومية وهنا تتحرك الدسائس لتقول للنحاس: انظر إن روزاليوسف تتجاهل خطبك ولاتنشرها!!

 

وعاد النحاس من الرحلة ولم يزر الجريدة كالعادة مشجعًا.

 

وشنت روزاليوسف اليومية والأسبوعية حملات قاسية على الوزارة ولم تكف عن المطالبة بالدستور لحظة، على أن الوفد كان لا يقر هذه الحملات وانصبت الحملة لبعض الوقت على عضوين فى الوزارة بالذات هما المرحوم «أحمد عبدالوهاب» وزير المالية والأستاذ «أحمد نجيب الهلالى» وزير المعارف.

 

وشن العقاد فى روزاليوسف حملة هادئة على الهلالى ومضى فى حملته على مستوى من العنف، ولم أكن أتوقع أن تؤدى هذه الحملة على الهلالى إلى ارتطامنا بالوفد وخروجنا منه!

 

وأعود إلى مقال خطير كتبته السيدة روزاليوسف بعنوان «للتاريخ لماذا خرجت على الوفد؟» قالت فيه:

 

«سارت مجلتى فى خطتها وهى النقد الصريح فى سبيل مصلحةالبلاد، وتبعتها جريدتى، وكان أن توالت علينا الأوامر من رئيس الوفد وسكرتيره بوقف هذا النقد وكتابة ما يجب أن يستلهمه محررو المجلة والجريدة من سكرتارية الوفد، وكان أن رفضت أن أضع مجلتى وجريدتى تحت هذه الرقابة وهذا العسف وشاركنى فى رفض هذا الأستاذان الكبيران «عباس العقاد»، و«محمود عزمى».

 

وفى ذات مرة حادثنى دولته بالتليفون وجرت على لسانه ألفاظ لا يصح أن تصدر عن رجل عادى لا عن زعيم حزب أو زعيم أمة كما يريد أن يكونه!

 

وفى أحد الأيام تلقيت من مندوب جريدتى بالإسكندرية ما يشير إلى أن «النحاس باشا» يريد مقابلتى بخصوص إيقاف الحملة على الوزارة النسيمية.

 

وكان أول ما صدمنى فى هذا الحادث إهمال النحاس باشا واجب اللياقة فى دعوة صاحبة  الجريدة و«مجلة» تعمل إلى جانبه وتناصر مبادئ الوفد الذى يتزعمه، ففضلت حفظاً لكرامتى وتفاديًا من عتابى له فيما جرى على لسانه فى محادثته السابقة لى بالتليفون، فضلت أن أنيب عنى فى تلك المقابلة أحد محررى مجلتى وهو الأستاذ «أحمد حسن».

 

ورجع الأستاذ المذكورة ليخبرنى أن النحاس باشا يأمر بإيقاف مهاجمة الوزارة ونقد أعمالها ولا سيما نقد «أحمد نجيب الهلالى» وزير المعارف.

 

ولما اشتدت الأزمة بينى وبين النحاس باشا بعد أن تبينت فساد هذا الأمر وتناقضه مع ما يجب أن يكون عليه صاحبه، آثرت أن أبين خطتى وأسجل موقفى فى خطاب أرسلته بتاريخ يوم الثلاثاء 30 يوليو سنة 1935 باسم الأستاذ «مكرم عبيد» سكرتير الوفد.

 

فى هذا الخطاب دافعت روزاليوسف عن المجلة والجريدة والأستاذ «العقاد» وفى سطور بالغة الدلالة تقول: «لم أكن ولن أكون يومًا فى جهادى عن مصر ودفاعى عن الوفد إلا مدفوعة بدافع الوطنية الصميمة ولم أتخذ من هذا الجهاد وسيلة لأكل العيش».

 

وبعد 48 ساعة بالضبط تلقت روزاليوسف رداً من مكرم عبيد، كان آخر ما تتوقع ما جاء فيه من تهديد ووعيد حيث كتب يقول:

 

«حضرة المحترمة الفاضلة السيدة روزاليوسف صاحبة جريدتى «روزاليوسف» - اليومية والأسبوعية. تحية واحتراماً.. وبعد فقد تسلمت خطاب حضرتك المؤرخ 30 يوليو سنة 1935 وبعرضه على دولة الرئيس الجليل طلب إليّ أن أعرفك بأنه قد أبلغ حضرة مندوبك الأستاذ - أحمد حسن - كلمته الأخيرة فى هذا الموضوع.

 

وإنك لتعلمين أن الوفد لا يحجر على حرية إنسان ما - أو صحيفة ما - ولكن إذا رأت إحدى الصحف المنتمية إلى الوفد أن تنتهج خطة تغاير خطة الوفد فعليها أن تتحمل نتائج ما تنتهج، أما حضرة الأستاذ الكبير «عباس محمود العقاد» فإن دولة الرئيس يسر لمقابلته فى كل وقت.

 

وتفضلى يا سيدتى بقبول تحيتى واحترامى». (سكرتير الوفد المصرى مكرم عبيد).

وتعلق السيدة «روزاليوسف» قائلة: والتهديد فى هذه العبارة واضح، وقد كان الوفد فى ذلك الوقت على درجة من القوة يستطيع  بها أن يقتل أية جريدة بمجرد إعلانه إنها خرجت عليه، على أن الوفد قد أخطأ بغير شك فى لجوئه إلى تهديدى بهذه السرعة، فليس من طبيعتى أن ألجأ للتهديد، بل إنه على العكس يثيرنى ويدعونى إلى العناد.. وعصامية مثلى تشعر دائمًا أنها غير مدينة بما وصلت إليه لأحد، يصعب عليها جدًا أن تخضع للتهديد مهما كان بسيطًا، فإن بقيت «روزاليوسف» على خطتها فمعنى ذلك خروجها عن الوفد، وإن أرادت أن تبقى على صلتها بالوفد فليس عليها إلا أن تعدل عن خطتها.

 

وفى نفس المقال تقول روزاليوسف: ولم أبال أيضًا بما انتهت إليه الأمور من حرج وخطورة وسرت فى طريقى مدفوعة بنفس الدافع الذى كان يدفعنى دائمًا وهو الوطنية الصادقة، ولم أبال بما كان ينصحنى به الأستاذ الكبير «عباس محمود العقاد» من وجوب الاعتدال حرصًا على المال الذى صرفته فى سبيل الجريدة.

 

وعز على النحاس باشا والأستاذ مكرم عبيد أن يجدا من لا يرضخ لمشيئتهما، وكان إن اجتمعت الهيئة الوفدية وأصدرت قرارها العجيب بأن جريدتى ومجلتى لا يعبران عن الوفد.

 

كان بيان الوفد يقول: «إن روزاليوسف قد أجترأت على نشر مقالات تتضمن الطعن على الوفد ومكانته من الأمة، فإن هذه الجريدة لا تمثل الوفد فى شيء ولا صلة لها به (بيت الأمة - 28 سبتمبر 1935).

 

وتمضى روزاليوسف قائلة: كان خروجى على الوفد - وليس على مبادئ الوفد -حدثًا اهتزت له الدوائر السياسية وطلع على الناس بالعجب والدهشة بعد أن وقفت هذه المجلة وعلى رأسها صاحبتها تدافع عن الوفد وتزود عنه فى وقت كان يعوذه المدافع الحق الذى يرخص فى سبيل دفاعه: القلب والمال، هكذا كنت أول من ناصر الوفد أيام كان يعمل بمبادئ الوفد القويمة، وهكذا كنت أول من خرج على الوفد إذ خرج عن مبادئه القديمة».

 

وتحكى روزاليوسف ما جرى بعد ذلك من أحداث ومفاجآت:

 

أخطرها المظاهرات الضخمة التى سارت فى شوارع القاهرة يقودها أحد رجال الوفد «حسن ياسين» تهتف بحياة النحاس وبسقوط روزاليوسف!

 

وتكمل قائلة: كنت جالسة بمكتبى بإدارة المجلة فى شارع الساحة، حين ترامى إلى سمعى الهتاف ثم نظرت فإذا بالجماهير المحتشدة تسد الطريق والهتافات تشق عنان السماء بالشتائم القاسية بل النابية ضد روزاليوسف وجريدتها!

 

وجلست إلى مكتبى لحظات لا أصدق أن الناس الذين كانوا يهتفون لى بالأمس يمكن أن يهتفوا ضدى فى اليوم التالى وبنفس الحماسة ولم أكن قد تغيرت بين يوم وليلة والمبادئ التى أدعو إليها لم تتبدل.

 

وغلا الدم فى عروقى ولم أشعر إلا وأنا اندفع إلى شرفة المكتب وأقف فى مواجهة الجماهير الغاضبة، وهتفت وجسدى كله ينتفض بسقوط النحاس ومكرم.

 

وكان من رأيى أن نعلق تعليقًا مناسبًا على قرار الفصل ثم نعود إلى المعركة السياسية الرئيسية معركة المطالبة بالدستور ومهاجمة أذناب الإنجليز دون أن نشتبك فى عداء عنيف مع الوفد، على أننا لم نستطع أن نقف أمام غضب الأستاذ «العقاد» الجارف وإصراره على أن يمعن فى مهاجمة النحاس ومكرم هجومًا جارحًا إلى أقصى الحدود.

 

فما هى إلا أيام حتى نشبت بين مكرم والعقاد معركة رهيبة تبادلا فيها أقذع الأوصاف.. ومضت المعركة بين روزاليوسف والوفد متصلة العنف بالغة المرارة.

 

وكان من أسوأ الأسلحة التى لجأ إليها الوفد اتهامه روزاليوسف بأنها تفرق بين عنصرى الأمة، إذ وقف «النحاس» فى حفلة أقامتها له نقابة المحامين بالإسكندرية وركز هجومه على روزاليوسف وقال إنها تعمل على التفريق بين عنصرى الأمة وكانت التهمة جارحة ولا أصل لها.

 

وفى اليوم التالى كتب الأستاذ «توفيق صليب» كلمة عنيفة يرد بها على هذا الاتهام ويقول: إن سكرتير تحرير الجريدة مسيحى وأنه يتحدى كائناً من كان أن يجد فى روزاليوسف من صدورها كلمة واحدة بهذا المعنى».

 

ويرسل الوفد مظاهرة ضخمة من جماهيره يهتفون ضد الجريدة ويقذفونها بالحجارة تحت سمع الحكومة وبصرها بل وتشجيعها، وكثيرًا ما تعرضت حياتنا للخطر حتى اضطررنا إلى استئجار عدد من الرجال الصعايدة الأشداء يتولون الدفاع عن إدارة الجريدة.

 

ويرصد زعيم الوفد «مصطفى النحاس» جانبًا من هذه المعركة فيقول:

 

اشتدت المعركة بين جريدتى روزاليوسف والجهاد وأصبحت حديث المجالس وأخذ العقاد يكتب صراحة طعنًا مكشوفًا فى الوفد وخاصة «مكرم» وكان كل عدد من روزاليوسف يحمل بين طياته أخباراً مختلفة وأنباء ملفقة، وقد زارنى عدد كبير من أعضاء الهيئة الوفدية ولجان الشباب الوفدى يستنكرون هذه التصرفات ويطلبون أن تعلن سكرتارية الوفد أن جريدة روزاليوسف لا تعبر عن الوفد ولا تنتسب إليه، وأن ما يكتب فيها إنما يمثل رأي كاتبينه دون سواهم، ولكنى فضلت أن أؤجل مثل هذا القرار فلعل المشرفين على تحريرها يرجعون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.

 

اجتمع الوفد وعرضت عليه أمر الحملة التى تشنها روزاليوسف والتى يتزعمها العقاد فرأى جميع الأعضاء ما عدا ماهر والنقراشى - أن يصدر الوفد بياناً بأن هذه الصحيفة لا تمثله ولا تنطق بلسانه وليس مسئولا عما ينشر فيها».

 

واستمرت الحرب ضد روزاليوسف سواء بالمظاهرات وبرقيات تأييد للوفد والنحاس تقول نؤيد قراركم وتسقط روزاليوسف، وكان باعة الصحف أنفسهم من الوفديين المتطرفين يخفون الجريدة ولا يعرضونها للبيع، وتعرضت روزاليوسف من جراء ذلك إلى متاعب وخسائر مادية كبيرة، فقد وصلت خسائرى فى الجريدة اليومية بعد هذا التاريخ القصير المجيد إلى (26 ألف جنيه) غير ستة آلاف لتجار الورق وألفين لبنك مصر، فلا أجد فى يدى أجر المطبعة وثمن الورق، وذهبت أرهن آخر قطعة بقيت لى من المصوغات سوار ورثته عن أمى.

 

وإزاء هذه الأزمات رأيت أن أصرف همى فى إصدار الجريدة إلى مجرد الاحتفاظ بالرخصة حتى تلتئم الجراح وأعبر المحنة... و.. و..

 

وتقدم وزارة نسيم باشا استقالتها ليتولى «على ماهر» الوزارة وفى 9 مايو سنة 1936 ظهرت نتيجة الانتخابات بنجاح «الوفد» كما كان متوقعاً، وتولى «النحاس» رئاسة الوزارة وكان معنى ذلك أن أتوقع موجة أخرى عالية من الاضطهاد.

 

ولم يطل انتظارى فقد صدر قرار من مجلس الوزراء بإلغاء رخصة روزاليوسف اليومية بحجة أنها لا تصدر بانتظام.. وهكذا بضربة واحدة سكت هذا القلب الخافق بعد حياة قصيرة حافلة، ثم تحول هجومها إلى روزاليوسف الأسبوعية تريد أن تلحقها بأختها.

 

وعلى صفحات المجلة تواصل روزاليوسف هجومها على «النحاس باشا» فتكتب مقالات من نار ومنها «بالعقيدة ولا بالتهريج» و«هدم الشخصيات المزيفة أول واجب وطنى ولكن من يؤديه؟»، و«اهتفوا معى أيها الصغار ليسقط الخائن»، و«من السيدة روزاليوسف إلى صاحب المقام الرفيع».

 

وحرصت السيدة روزاليوسف على رصد كل المصادرات لمجلتها فى عهد حكومة النحاس الوفدية فتقول:

 

يوم الاثنين 21 سنة 1937 هجم على إدارة مجلة «روزاليوسف» جيش جرار من رجال البوليس السرى والعلنى وصادروا ثلاثين ألف نسخة من العدد رقم 469 قبل التحقيق وقبل استدعائى للنيابة بسبب مقال عنوانه «وظائف الدولة يسرح بها الأنصار».

 

وفى أول مارس سنة 1937 مقال بعنوان «روزاليوسف تصادر فى عهد مصطفى النحاس» بدأته بقولها: طويت بالأمس آخر صفحة من تاريخ دولة مصطفى النحاس، وكان ذلك العدد رقم 470. وفى 15 مارس صادرت العدد رقم 473 ومنعت طبع باقى الكمية بسبب مقال بعنوان «اهتفوا معى أيها الصغار ليسقط الخائن».

 

وصودر العدد 507 بسبب صورة للوزراء أمام القضاء وقد حكم عليها بإحالة الأوراق إلى المفتى.

 

وفى 31 ديسمبر 1942 - بعد عودة الوفد للحكم - صودر العدد 771 ومنع طبع باقى الكمية بسبب خبر عن العالم الذى كان يرفعه «مصطفى النحاس» على قصره عند دخوله وينزله عند خروجه، وفى اليوم التالى صدر أمر مدير الرقابة بتعطيل روزاليوسف ثلاثة أشهر!

 

وتكرر نفس الاضطهاد فى فترة تولى الأستاذ إحسان عبدالقدوس لرئاسة تحرير المجلة، وتم تقديم إحسان للتحقيق أكثر من مرة.

 

وتواصل روزاليوسف مهاجمة النحاس ونقده فى عشرات المقالات ومنها: رجل مسكين يستحق البكاء والرثاء، خطاب مفتوح إلى رفعة النحاس باشا، وخطاب إلى النحاس كم عدد المفسدين، وتكتب خطابًا إلى حرم النحاس باشا: حاولى أن تكون أم المصريين!

 

روزاليوسف باختصار ونحن نحتفل بمئوية مجلتها أتذكر جملة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عنها عندما قال:

 

«الشخصية الخارقة للعادة التى أعطت لهذه المؤسسة اسمها، وكانت بالفعل بانية صرحها وصانعة تاريخها ومحركة دورها وملهمة تأثيرها فى حياتنا العامة».

 

عاشت روزاليوسف أمس واليوم وغداً.