آلاء شوقي
أسرار أشهر مغامرة صحفيةداخل الكيان الصهيون
روزاليوسف تخترق «تل أبيب»!
«قام إبرهيم عزت بمغامرة صحفية محضة لحساب «روزاليوسف».. ولم يكن له هدف إلا خدمة القارئ عن طريق صحافته».. هكذا علق الكاتب الراحل «إحسان عبدالقدوس» لا بصفته رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف» فحسب؛ بل شاهدًا على واحدة من أخطر وأصدق المغامرات فى تاريخ الصحافة المصرية.. فى عددٍ عاصف صدر منتصف الخمسينيات، لم تكن مجلة «روزاليوسف» تنشر مجرد سلسلة تحقيقات خطيرة؛ بل تفجر قضية.. يومها، جلس «إحسان عبدالقدوس» يكتب تعليقًا على الموضوع بمثابة شهادة على لحظة اخترقت فيها الصحافة المصرية كل حدود المستحيل، فى زمنٍ كانت فيه الحدود نارًا، والعدو علنًا، والمعلومة سلاحًا.
تحت عنوان: «أخطر تحقيق صحفى بعد قضية الأسلحة الفاسدة.. «روزاليوسف ترسل مندوبها إلى تل أبيب» نشرت المجلة تحقيقًا لم يكن مجرد سبق صحفى فحسب؛ بل زلزال مهنى وأخلاقى هز الرأى العام المصرى، والعربى، وحتى الإسرائيلى؛ الأخير الذى حاول تزييف الحقائق - كعادته- بعد أن فضح أمره فى محاولة باءت بالفشل الذريع.
ففى سلسلة التحقيقات، أوضحت كلمات إبراهيم عزت أنه لم يكن فى مهمة أمنية؛ بل كان صحفيًا مصريًا، حمل جوازًا برازيليًا مُزورًا، وقلبًا لا يعرف التردد، ليسافر إلى قلب العدو؛ لا ليصالح أو يهادن؛ بل ليكتب، ويفضح، ويعيد تعريف حدود الصحافة؛ فحينها لم يكن الدخول إلى «إسرائيل» مجرد مخاطرة؛ بل خطوة بحجم اختراق التاريخ نفسه.
كما لم يذهب «إبراهيم عزت» ليتجسّس، ولم يحمل كاميرا خفية؛ بل ذهب حاملًا أخطر ما يملكه الصحفى.. وهو قلم حى، وعين ترى، وضمير لا يهادن.. فعاش داخل أراضى الاحتلال الإسرائيلى أيامًا، تحرك بين شوارعها، تنكر كأنه لاتينى، والتقى وجوهًا كانت تُرسم فى الصحف المصرية كمجرد رموز للعدو؛ فحاورهم، ونظر فى عيونهم، وعاد بالقصة التى لم يجرؤ أحد على الحلم بها.
لكن الأخطر من الرحلة، كان قرار نشرها.
ولأن الحكاية لم تنتهِ بنشر التحقيق؛ بل بدأت به، تعود صفحات «روزاليوسف» فى عددها الـ 100 إلى نحو قرابة 70 عامًا على تلك اللحظة الصحفية النادرة، التى وضعت فيها المجلة اسمها فى سجل المغامرات الكبرى.. تعود المجلة إلى أعدادها (1458، 1459، 1460) الصادرة فى 21 مايو، و28 مايو، 4 يونيو لعام 1956، لتسليط الضوء على مغامرة «إبراهيم عزت»، وأبرز المحطات فيها، والحقائق التى اكتشفها؛ بل ورصد محاولات الاحتلال الإسرائيلى لتزييف تلك الحقائق.

الرحلة السرية إلى تل أبيب
فى الحلقة الأولى من التحقيق، كانت المجلة تضع أقدامها داخل أرض العدو؛ لتراقب، وتفهم، وتكتب. ففى رحلة خاضها «عزت» داخل إسرائيل لمدة 11 يومًا، انقسمت إلى (3 أيام فى تل أبيب، و4 فى حيفا، ويومان لكل من القدس، وبئر سبع، ثم ليلة أخيرة فى تل أبيب)، قابل فيها العديد من المسئولين والشخصيات والمستوطنات الإسرائيلية، رصدت فيها عيناه كل التفاصيل؛ بينما كتب قلمه معلومات فى (5 بلوك نوت) كاملة.. حيث قال: «خلال إقامتى بإسرائيل قابلت كل رجالها.. كل أعدائنا.. قابلت «بن جوريون، وموسى شاريت، وجولدا مايرسون (مائير) وزيرة العمل - حينها-، والجنرال يادين القائد العام للقوات الإسرائيلية عام 1948، و..، و... إلخ... قابلتهم كلهم.. وترتكهم وأنا مقتنع أن المعركة طويلة الأمد».
وأوضح «عزت» أن مغامرته بدأت حينما أقنع سفارة إسرائيل فى «لندن» بأنه صحفى من «أمريكا الجنوبية»، يُدعى «جورج إبراهيم حبيب»، برازيلى من أصل عربى فى طريقه إلى جولة شرق أوسطية، يزور فيها عددًا من الدول العربية؛ مدعيًا أنه يشعر بالقلق حينما ترى الدول العربية تأشيرة دخوله إلى إسرائيل، فترفض الدول العربية دخوله، وهو ما دفع موظف السفارة للابتسامة ساخرًا، كما طمأن «إبراهيم عزت» أو «جورج حبيب» من هذا الأمر؛ ثم طلب منه موظف السفارة صورتين، إحداهما لورقة بيضاء، والأخرى طبع عليها تأشيرة دخول إسرائيل؛ الأخيرة التى علق عليها «عزت» قائلًا: «كانت هذه الورقة كل ما أحمله، وأنا أجوب إسرائيل شرقًا، وغربًا.. شمالًا وجنوبًا».
ومع ذلك، أوضح «عزت» أن رحلته لإسرائيل كانت تحت مراقبة شديدة منذ اللحظات الأولى التى وصل فيها مطار «اللد» (مطار بن جوريون) حتى خروجه من أراضى الاحتلال.
فوصف المشهد فور خروجة من الطائرة، قائلًا: «وجدت فى انتظارى مدير المطار نفسه، ومندوبًا من وزارة الخارجية الإسرائيلية.. وكانت هيئتهما تخلع القلب»؛ متوقعًا أن إسرائيل قد كشفت شخصيته وبعثت برجالها للقبض عليه.

كما وصف حجم المراقبة فى عدة سياقات أخرى، من أهمها لحظة وصوله الفندق فى تل أبيب، وخروجه منه أيضًا، إذ قال بعد مرور ساعات على وصوله الفندق، إن: «الساعة الثانية عشرة تمامًا وصلت حقائبى.. وكان يبدو فى هيئتها أنها فُتّشت تفتيشًا دقيقًا، وأن الأيدى التى عبثت بها، بذلت مجهودًا كبيرًا لإعادة كل شىء إلى مكانه»... وعند لحظة انتهاء رحلته قال: «ذهبت إلى المطار بصحبة مرافقى «ألكسندر دوثان، وبجانبى سائقى وحارسى «إيلى حدافى». وقال مرافقى بلهجة مهذبة أن حقائبى ستلحق بى.. ومرة ثانية تأخرت الحقائب؛ بل إنى لم أرَها إلا عندما وصلت إلى قبرص. ولكن، لم يكن كل ما خرجت به من إسرائيل أضعه فى حقائبى!».
أما المشهد الآخر للمراقبة، فهو السائق «إيلى حدافى» الذى وضعته الحكومة الإسرائيلية تحت امرته، ظل معه طوال رحلته، حتى إنه كان معه فى نفس الفندق بل والغرفة الملاصقة له تمامًا، وقال «عزت»: «لمحت بجانب «إيلى» مسدسًا كبير الحجم، كان يخفيه تحت سترته التى تعوّد أن يضعها بجانبه أثناء قيادة السيارة.. وقلت له وأنا أدعى البراءة: لماذا هذا المسدس يا «إيلى».. وأجاب «إيلى» وكأنه يعلم الجواب جيدًا: إن مهمتى هى قيادة سيارتك، وحراستك أيضًا»!!
وهنا.. ادّعى «عزت» الدهشة قائلًا: «حراستى ممن؟!»؛ ليرد الآخر: «من أشياء كثيرة.. من الفدائيين المصريين مثلًا!».
كلهم يريدون مقابلة “عبد الناصر”
رغم أن هذا العنوان تصدّر الحلقة الثانية من تحقيق «عزت»؛ فإن بداية هذه الرغبة- فى لقاء رئيس «مصر» حينها الراحل جمال عبدالناصر- كانت فى الحلقة الأولى، حينما تطرّق «عزت» إلى لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلى- وقتها- «دافيد بن جوريون»، الأخير الذى قال لعزت، أو الصحفى «جورج»: «إذا ذهبت إلى «مصر» واستطعت أن تقابل الرئيس «جمال عبدالناصر»، قل لسيادته إنى على استعداد لمقابلته فى أى وقت، وفى أى مكان يحدده هو؛ لمناقشة أى مسألة يجب أن يثيرها، سواء كانت هذه المسألة خاصة باللاجئين أو الحدود، أو كانت مسألة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، من دون وسيط، ودون إذاعة أى شىء عن هذا الاجتماع ونتائجه.. قل له إنى على استعداد لمقابلته ولو فى «القاهرة».
أمْرٌ مشابه أشارت إليه «جولدا مايرسون (مائير)»؛ إذ أعربت لعزت عن رغبتها فى لقاء «عبدالناصر»، إذ قالت لهذا الصحفى- البرازيلى- إنها طلبت من تل أبيب أن تلتقى أحد القادة العرب حتى لا يتدخل فى حرب فلسطين، واضطرت إلى أن تتنكر فى زى امرأة عربية حتى تتمكن من المرور عبر الحشود العسكرية، وأنها عادت بالطريقة نفسها، بعد أن لم تتلق وعدًا بأى شىء.
حقائق في لقطات قصيرة
رغم أن سلسلة تحقيقات «إبراهيم عزت» كشفت عن حقائق دامغة داخل أروقة السياسة الإسرائيلية ومجتمعاتها، وفضحت الكثير من التناقضات التى سعى الاحتلال جاهدًا لتزييفها؛ فإن بعضًا من أعمق تلك الحقائق لم تُقال فى صيغ طويلة أو تقارير موسعة؛ بل تجلّت فى لقطات عابرة، ومَشاهد قصيرة، لكنها كانت كفيلة بكشف جوهر الفكر الصهيونى، وانحلال البنية الاجتماعية الإسرائيلية، وواقع العرب داخل أرضهم المحتلة.
وضمن أهم المشاهد التى رصدها «عزت»، تلك التى كتبت فى مربع صغير من تحقيقه الثالث والأخير، وتحت عنوان لافت: «نحن اليهود»؛ حيث دوّن فيها «عزت» جملة سمعها من «ناحوم جولدمان»، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حينها، والتى قال فيها بالحرف: «لا يهمنا نحن اليهود أن نكون فى جانب واحد من التيارات السياسية العالمية.. لا يهمنا أن نكون رأسماليين أو شيوعيين أو اشتراكيين... فإذا دعت روسيا دعوتها ضد أمريكا كان اليهود أسبق الناس إلى تعضيد الشيوعية.. وإذا دعت أمريكا دعوتها ضد روسيا كان يهود أمريكا أسبق الأمريكيين إلى الدعوة ضد الشيوعية.. وهكذا سيبقى مركزنا كيهود سليمًا إلى الأبد»!!

كانت هذه الكلمات كافية لكشف عمق التلون والانتهازية التى تقوم عليها العقيدة السياسية الصهيونية؛ حيث لا انتماء ثابتًا إلا للمصلحة، ولا ولاء إلا لما يضمن الهيمنة والبقاء فى مركز القوة، أيًّا كان الاتجاه أو الجبهة.
فى مشهد آخر، عبّر «عزت» عن صدمته مما رآه من انحلال مجتمعى واضح، بدأ من تفكك الأسرة، ومرورًا بالعلاقات غير الشرعية خارج إطار الزواج، وانتهاءً بما وصفه صراحة بأن شوارع إسرائيل مثل (حجرات نوم)، فى إشارة إلى الأفعال المنافية التى شاهدها- علنًا- من قبل شباب وشابات دون أدنى حياء أو رقابة فى الشوارع الإسرائيلية، إذ بدا أن المجتمع الإسرائيلى- كما صوره- يختبئ خلف قناع المدنية؛ بينما هو- فى الأساس- يتآكل من الداخل بانهيارات أخلاقية عميقة.
أمّا الواقع العربى فى إسرائيل؛ فقد رصده «عزت» بكلمات مباشرة من أفواه أصحابه، حينما التقى بـ«أبو فيصل» وسأله عن حال العرب داخل الدولة العبرية. فكان الرد صادمًا، قال: «أسوأ حال.. إن موقفنا شائك؛ فى البلاد العربية يعتبروننا خونة نستحق الإعدام لأننا بقينا... وهنا (فى إسرائيل) يعتبروننا جواسيس وطابورًا خامسًا، ويجب إبادتنا».. بهذا المشهد المؤلم، لخص «عزت» معاناة الفلسطينيين داخل دولة الاحتلال؛ فلا هم آمنون فى وطنهم، ولا هم مقبولون خارجه. يعيشون على هامش الحياة، بلا هوية يُعترَف بها، ولا وطن يحتويهم، وكأنهم محكومون بالتيه الأبدى.
وفى واحدة من أخطر الحقائق التى رصدها «عزت» من قلب إسرائيل، قالها صراحةً ودون مواربة، إن: «إسرائيل تعتبر أن «مصر: هى الخصم الوحيد الذى تضع كل قواتها أمامه».
إحسان .. يكشف مخططاتهم
«إن التحقيق الصحفى الذى تنشره «روزاليوسف» عن إسرائيل، أثار ضجة عالمية.. كل صحف العالم، وكل إذاعات العالم تتحدث عنه.. حتى مستر «دالاس» وزير خارجية الولايات المتحدة، اضطر فى المؤتمر الأسبوعى الذى يجتمع فيه بالصحفيين، أن يتحدث عن «روزاليوسف».. ومجلة «لايف» أرسلت مصورها ليلتقط صورة إبراهيم عزت فى مكتبه؛ ثم- وهو فى بيته- عرضت عليه حقوق نشر التحقيق الصحفى بـ25 ألف دولار...»... كانت تلك كلمات الراحل إحسان عبدالقدوس، تعليقًا على الضجة العالمية التى حدثت فور نشر الحلقة الأولى فقط من تحقيق «عزت»، ومحاولات إسرائيل- حينها- لتزييف الأمر.

وما لبثت أن أنهى «إحسان» كلمته حتى أرفقها بجملة: «هذه الضجة لا تهم»؛ موضحًا- فى هذا الصدد- أن المهم هو محاولات إسرائيل استغلال التحقيق لصالحها؛ إذ ادعت أن وراءها اتجاهًا جديدًا للتقريب بين العرب وإسرائيل، مؤكدًا أنها ليست إسرائيل وحدها التى سعت لهذا؛ بل- أيضًا- الدعايا الخبيثة التى تشنها- من وصفهم «إحسان» بالدول الاستعمارية لتحطيم وحدة العرب، وتحطيمها بالدس والوقيعة، مشيرًا لسلاح (الكذب، والتضليل، والخداع)، فضلًا عن التفسير المغرض المضلل لكل كلمة تنشر، لايجاد الجفوة بين مصر والدول العربية.
كما شدّد فى تعليقه على أن كل ما قيل عن التحقيق الصحفى الخاص بإسرائيل، يعتبر خطوة للتقريب بين العرب وإسرائيل، هو كذب معروف عن أقلام الدعاية الاستعمارية الماهرة!
إن كلمات «إحسان» كانت نتيجة ضجة حقيقية فعلًا أثارها التحقيق حول العالم، وفى إسرائيل تحديدًا، التى حاولت أن تدارى تلك الفضيحة عبر سوء استغلال القصة، وهو ما دعمته العديد من الصحف الغربية، وتحديدًا الأمريكية منها، عبر التزييف، والتبرير، والدعاية.
فالصحافة الإسرائيلية، وعلى رأسها صحيفة «معاريف» ومثيلاتها، لم تتعامل مع هذه الزيارة بموضوعية؛ بل عمدت إلى تشويهها، عبر محاولات بائسة عكست خوف النظام الإسرائيلى من مواجهة الحقيقة التى حملها «عزت»، الذى كشف بجرأة التناقضات والتمرد داخل المجتمع الإسرائيلى، بما فى ذلك: رفض العمال العمل فى الحقول و(الكيبوتس)، وارتباط ذلك بالصراعات الاجتماعية والسياسية الحقيقية، ما فضح زيف ادعاءات الديمقراطية والحرية الصحفية التى تروج لها إسرائيل. ووفقًا لموقع «حواشى إسرائيل» المتخصص فى أرشفة الأحداث التاريخية، أوضح أن صحيفة «دافار»- حينها- نشرت أن «عزت» أخبر مراسلًا إسرائيليًا خلال جولتهما فى المعرض الصناعى الإسرائيلى بأنه فوجئ بوفرة المنتجات وجودتها الممتازة، مدعية أن «عزت» قال، إنه: «من الصعب تصديق أن كل هذا صُنع فى إسرائيل». وأضافت «دافار»، إن المراسل السياسى للصحيفة أشار للأهمية السياسية للزيارة.
على صعيد متصل؛ فإن موقع الكونجرس الأمريكى يوفر أرشيفًا للصحف الأمريكية التى تناولت زيارة «عزت» ولكن- بالطبع- من زاوية الرواية الإسرائيلية المفبركة.
فعلى سبيل المثال، نشر «فيليب سلوموفيتز» مؤسس ورئيس تحرير صحيفة (The Detroit Jewish News)،- التى تعد واحدة من أقدم الصحف اليهودية الأمريكية؛ المعروف بدعمه الصريح للحركة الصهيونية فى منتصف القرن العشرين- مقالة فى 15 يونيو 1956، أى بعد أيام قليلة جدًا من انتهاء سلسلة تحقيقات «إبراهيم عزت»، تحت عنوان: «لعبة الصحفى المصرى الطفولية»، شن الكاتب هجومًا مباشرًا على «عزت».
كما وصف رحلته التى أحرجت إسرائيل بأنه «لعبة صبيانية»، مستنكرًا الصورة الواقعية التى رصدها «عزت» لوضع «98٪ من العرب فى إسرائيل الذين يعيشون فى ظروف غير آدمية.
لكنّ الهجوم لم يكن على «عزت» فحسب؛ بل على الحقيقة ذاتها، إذ ادعت المقالة أن الحكومة الإسرائيلية دشنت دورات رى لشباب عرب، كدليل على حسن نوايا الاحتلال، فى مشهد دعائى مفضوح؛ وكأن هذا يكفى لتغطية جريمة اقتلاع شعب من أرضه، ومحو هويته، ومحاصرته بالسلاح فى كل مكان.
بدورها، وجدت صحيفة (Arizona Post)- التى تعد أول صحيفة «أنجلو- يهودية» فى أريزونا- فى رحلة «إبراهيم عزت» إلى إسرائيل مادة دسمة تحاول من خلالها صناعة رواية مغايرة للواقع.. حيث تعاملت مع زيارته وكأنها اعتراف ضمنى بشرعية الاحتلال، لا مجرد محاولة لفهم العدو، ونقل صورة حقيقية إلى القارئ المصرى؛ بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، فى تقريرها المصغر الصادر فى 1 يونيو 1956؛ حيث تجاهلت ما نقله عزت من مشاهدات عن حياة (الكيبوتس) الإسرائيلى وما فيه من أزمات كبيرة، وكأنها تحاول طمس الوجه الحقيقى لسياسات تل أبيب القائمة على التوسع والقوة المسلحة.
كما تناست الصحيفة الأمريكية جذور المأساة الفلسطينية التى كانت وما زالت جوهر الصراع، فبدلًا من قراءة نقدية جادة لما دونه «عزت» عن واقع الاحتقان والتهيؤ الدائم للمعارك، فضّلت أن تُجمّل المشهد وتقدمه باعتباره شهادة على إرادة الحياة فى إسرائيل.
إن أكاذيب الصحف الإسرائيلية والغربية، أمر كشفه «إحسان عبدالقدوس» فى دقائق معدودة؛ إذ أوضح فى تعليقه ردًا على تلك الافتراءات والادعاءات قائلًا: «إن الإذاعة الإسرائيلية نفسها بدأت تتخبط، وأن وكالة «يونايتيد برس» أذاعت برقية من «القدس» قالت فيها بالحرف: «لقد صدمت المصادر الإسرائيلية الرسمية هنا عندما نشر النص بالكامل للتحقيق الصحفى الذى قام به إبراهيم عزت مراسل «روزاليوسف».. وكان من أسباب الصدمة وخيبة الأمل أن رئيس التحرير «إحسان عبدالقدوس»، كتب يقول إن مهمة عزت كانت التجسُّس على إسرائيل، والحصول على صورة كاملة عن العدو لتعرف كيف تحاربه».
ثم عَلق «إحسان» على هذا الكلام قائلًا: «هكذا انحسرت الضجة عن الحقيقة.. والحقيقة هى أننا أرسلنا «إبراهيم عزت» إلى إسرائيل فى مغامرة خطرة، ليلتقط صورة صادقة واضحة عن العدو، صورة لا تشوهها أقلام الدعاية!
وفى صفحة أخرى، نوهت «روزاليوسف» إلى ادعاء إسرائيل بمعرفتها أن «إبراهيم عزت»، مندوب «روزاليوسف»؛ مؤكدة أن ما يحمله من وثائق نُشر بعضها على صفحات المجلة بالفعل، تكذب ادعاءات إسرائيل، بداية من تأشيرة الدخول، وصولًا إلى وصل صرف نقود إسرائيلية من البنك التجارى الإسرائيلى فى القدس وفاتورة حساب فندق «دان أوتيل» وكلاهما باسم «جورج إبراهيم حبيب» من «البرازيل»؛ قائلة: «إن كانت إسرائيل تعلم أن «إبراهيم عزت» مصرى وأنه مندوب «روزاليوسف»، فلماذا تسترت عليه!!»؛ مؤكدة أنها لم تكن تعلم.
إن هذا التحقيق الذى أصاب الحكومة الإسرائيلى فى مقتل، لم يمر بسلام وظل علامة فارقة مستمرة حتى العصر الحديث.. والدليل، أنه بعد مرور قرابة 7 عقود على هذا التحقيق، ظلت أصداء تلك الرحلة الصحفية العميقة تتردد، لتبرز من جديد عام 2015 فى مقال نشره «رافى مان، وروبيك روزنثال» فى مجلة «ليبرال» الإسرائيلية، حاولاً فيه تبييض صورة إسرائيل، وتجميل وجه الاحتلال، وإخفاء الحقائق المؤلمة التى كشفها «عزت».
فيركز المقال على التأكيد أن زيارة «عزت» تمت بموافقة إسرائيل الرسمية؛ مدعين أنه حظى بمعاملة كبار الشخصيات. لكن المقال تجاهل حقيقة أن هذه الزيارة كانت فى الواقع بمثابة فخ إعلامى، وأن إسرائيل حاولت تزييف الوقائع؛ خصوصًا أمام الإعلام العربى.

كما تجاهل المقال الجوانب التى كشفها «عزت» حول محاولة إسرائيل الهيمنة الاقتصادية والسياسية على المنطقة، ويخفى تأثيرات المقاطعة العربية المشروعة كأداة مقاومة.
كما حاول المقال الإساءة إلى «عزت» من خلال وصفه بأنه (تجسُّس) على الدولة المعادية، ويدّعى - أيضًا- أن المعلومات التى نشرها كانت مليئة بالافتراءات والأكاذيب، وهو اتهام غير حقيقى نفته «روزاليوسف» بالوقائع والدلائل وقتها؛ ما يثبت أنه لم يكن سوى محاولة إسرائيلية فاشلة لتشويه سمعة تحقيق صحفى فريد من نوعه؛ إذ كشف «عزت» بصدق ومهنية عن الصورة الحقيقية لدولة الاحتلال على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى.
وعليه؛ يدل هذا أنها محاولة متكررة لتبرير سياسات الاحتلال عبر نشر معلومات مضللة، حتى بعد مرور أكثر من 60 عامًا، فلا تزال محاولة إسرائيل لإعادة تشكيل رواية الأحداث، وتجميل صورتها على حساب الحقيقة قائمة، مما يجعل تحقيق «إبراهيم عزت» صحوة إعلامية مهمة.
صحفي من طراز خاص
لم يكن «إبراهيم عزت» مجرد صحفى عابر؛ بل كان نموذجًا حيًا لما ينبغى أن يكون عليه الصحفى الحقيقى؛ صحفيًا مغامرًا، واعيًا، مثقفًا، متمرسًا، ومسلحًا بجرأة القلم، وبصيرة الضمير. ففى الوقت الذى كشفت سلسلة تحقيقاته داخل «إسرائيل» عن حقائق سياسية واجتماعية مدهشة، تجلت معها ملامح شخصية صحفية استثنائية، كان لا بد من الوقوف عندها.
أولًا، تمتع «عزت» بروح المغامرة والعقل المحترف؛ إذ لم ينتظر المعلومة أن تُلقى أمامه؛ بل انطلق فى طريق محفوف بالمخاطر ليجلبها بنفسه. ولم يذهب بدور الجاسوس؛ بل كمراسل يؤدى مهمة وطنية سامية، حمل فيها على عاتقه أعصابه، وعقله، وقلبه؛ ليكتب الحقيقة لا كما تُروى؛ بل كما تُعاش.
ثانيًا، تمتع «عزت» بالذهن الحاضر والدهاء والمراوغة؛ إذ ظهرت حنكته وذكاؤه فى كل تفصيلة، بدايةً من تقمصه شخصية أجنبى «برازيلى من أصل عربى»، إلى حفاظه على توازنه فى مواقف كادت أن تفضح أمره؛ والدليل على ذلك، ما ذكره فى الحلقة الأولى، حينما التقى صديقه الصحفى الإنجليزى «سيلد بيكر» بشكل مفاجئ فى بهو الفندق، والذى كشف شخصية «إبراهيم عزت» فى ثوانٍ معدودة مندهشًا من وجوده فى تل أبيب، ما دفع «عزت» للارتباك، طالبًا منه ألا يكشف أمره، تحت وعد أنه سيقص له كل شىء فيما بعد؛ وهو ما فعله «بيكر» بالفعل، رافعًا صوته فى اللحظة ذاتها يسأل عن أحوال صديقه (البرازيلي) وعن أحوال بلاده.
أما المرة الثانية فذكرت بالحلقة الثانية، حينما حاول مسئول إسرائيلى استدراكه عبر التحدث مع «عزت» بلغة شبيهة بالإسبانية، باعتبار أنه برازيلى؛ لكنه تدارك الموقف بدهاء؛ إذ قال: «بدأ يحدثنى باللغة الإسبانية، أو لعلها البرتغالية.. ووقعت فى حرج فأنا لا أجيد كلمة واحدة... ولعل وجهى احتقن وركبتىّ ارتعشتا، ولكن تمالكت نفسى، وقلت وأنا أشير إلى مرافقى وبين شفتى ابتسامة لنتحدث بالإنجليزية حتى لا يشعر صديقى أنه غريب بيننا!».
ثالثًا، دراسة «عزت» لتفاصيل العدو ودقة الاستعداد؛ حيث لم يكتفِ بحفظ أسماء شخصيات، أو تواريخ محطات سياسية فحسب؛ بل أذهل المسئولين الإسرائيليين بمعرفته الدقيقة لتفاصيل الجغرافيا، والسياسة داخل إسرائيل، حتى إنه فاجأ مندوب وزارة الخارجية «ألكسندر دوثان» عن الأماكن التى يرغب بزيارتها فى أراضى الاحتلال، بعد أن رفض البرنامج السياحى المعد له مسبقًا.
فأوضح «عزت»- فى الحلقة الثانية من تحقيقه- أنه «أخرج ورقة مكتوب بها قائمة بالأماكن التى يرغب فى زيارتها، والأشخاص الذين يرغب فى مقابلتهم، ما دفع مندوب وزارة الخارجية الإسرائيلية لتقطيب حاجبيه؛ إذ قال «عزت»: «خُيّل إلىّ أنه أصيب بشبه صداع».
رابعًا، السيطرة على المشاعر؛ حيث كانت سيطرته على ملامح وجهه ومشاعره فى أصعب اللحظات دليلًا على احترافيته، وهو ما ظهر فى مشهدين مهمين؛ الأول حينما وقف على بُعد كيلومترات من الحدود المصرية، ما كاد أن يدفع دموعه إلى أن تنهمر لولا أنه تذكر أنه فى مهمة خطرة؛ إذ قال: «وقفت على بعد أقل من مائة ياردة من حدود غزة... وكنت قريبًا جدًا من مصر، ورغم ذلك كنت أشعر أنى بعيد.. بعيد جدًا؛ ولم أكن سعيدًا وأنا أنظر إلى العَلم المصرى، وهو يرفرف فى الأفق البعيد؛ بل كنت أشعر وكأنى على وشك البكاء».
أما المشهد الآخر، حينما سيطر «عزت» على مشاعر الغضب، وقتما اقترح مدير مستشفى إسرائيلى بأن تتبرع الدول العربية لبناء مستشفيات ومدارس فى إسرائيل، إذ قال عزت: «كدت أصفعه....هم شردوا أصحاب فلسطين فى العراء، وساموا من بقى فى وطنه سوء العذاب.. وبعد كل هذا.. يريدون منا أن نتبرع لهم من أموالنا!! كدت أصفعه.. لولا أنى تذكرت أنى برازيلى».
أخيرًا، احترام المهنة والإخلاص للحقيقة؛ فربما أعظم ما تميز به «عزت»، أنه لم يخرج للحرب بسلاح؛ بل بقلم حى، وضمير صاحٍ، وإرادة لا تعرف التردد؛ فكتب كل ما رآه، وسَجّله فى عدد من الـ(بلوك نوت)؛ حرصًا على ألا تضيع منه لحظة واحدة من الحقيقة.. فلم يحمل كاميرا خفية، ولم يتنكر فى زى صحفى استعراضى؛ بل ارتدى ثوب الباحث النزيه، والمتسلح بالمهنية، يراقب ويكتب كل شىء، بعين تلتقط التفاصيل، وقلب لا يخاف الحقيقة.
فى النهاية.. يمكن القول، إنه حين تختلط الحقيقة بالجرأة، تصبح الصحافة سلاحًا، لا مجرد مهنة، تخرج إلى النور بمغامرات استثنائية، كتلك التى خاضها «إبراهيم عزت»، لا لتدوين قصة صحفية عابرة؛ بل لاقتحام جدار الصمت، وكشف وجه الاحتلال الذى طالما حاول أن يُخفى عوراته خلف ضجيج الدعاية.
فلم تكن رحلة «عزت» إلى قلب أراضى الاحتلال رحلة عادية؛ بل كانت اقتحامًا لأرض معادية، أسفرت عن تحول الكلمات إلى رصاصات، وتحول الملاحظة الصحفية إلى كشفٍ مخيفٍ لكل ما أراد العدو دفنه.. فعاد «عزت» وهو يحمل فى يده (بلوك نوت)، لكنه حمل فى صدره ما هو أثقل من أى ورقة.. وهى الحقيقة.
فقدّم هذا التحقيق النادر صورة متكاملة عن العدو، ليست مشوهة من زوايا السياسة، ولا مجملة من نوافذ الدعاية؛ بل منقولة كما هى، من قلب الحدث، ومن عيون ساكنيه، على الرغم من كل محاولات الطمس والتشويه والتضليل، ظل ما كتبه «عزت» شاهدًا حيًا على قدرة الصحفى حين يمتلك الإيمان بمهنته، أن يتجاوز الحواجز، وأن يصنع الفارق.
فى هذا العدد المئة، تعود صفحات «روزاليوسف» من جديد إلى تلك اللحظة التى كتبت التاريخ بنفسها.. فلا تحتفل المجلة بمئة عدد فحسب؛ بل بمئة معركة انتصر فيها القلم، مثلما انتصرت فيها المعلومة، وهو ما أكده «إحسان عبدالقدوس» فى تعليقه، حينما قال: «نحن لا نستهين بالعدو، ولا نقلل من شأنه.. ولكننا نريد أن نعرفه جيدًا؛ لنعرف كيف نحاربه جيدًا...».







