السبت 1 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف
روز اليوسف تعبر قبل 1973

فى معركة بناء الوعى بعد النكسة

روز اليوسف تعبر قبل 1973

فى فترة  صعبة من تاريخ مصر كتبت «روزاليوسف» تاريخًا موازيًا لا فى كتب التاريخ بل فى ذاكرة الناس. واليوم حين نعود إلى أرشيفها لا نقرأ فقط ما حدث بل كيف شعر الناس  وكيف فكروا وكيف قاوموا وكيف كانت دائمًا صوتًا لهم لا صدًى للسلطة إذ استطاعت «روزاليوسف» التنقيب فى وجدان الشعب وإعادة تشكيل الوعى الجمعى الذى انكسر تحت وطأة نكسة يونيو 1967.. لم تكن المجلة مجرد صفحات مطبوعة بل كانت مرآة للشعب، فبينما كان جمال عبدالناصر يعيد ترتيب أوراقه السياسية والعسكرية كانت «روزاليوسف» تعيد ترتيب اللغة ورسم الخطاب وتعريف دور الصحافة فى زمن الصدمة.



نعرض هذه  المرحلة ليس  كأرشيف بل كنافذة مفتوحة على الحالة النفسية والسياسية التى عاشها المصريون والعرب آنذاك من الغلاف الذى حمل صورة عبدالناصر بعد خطاب التنحى إلى الكاريكاتيرات التى رسمت الشعب وهو يرفض ويؤيد.. ومن المقالات التى دعمت عبدالناصر ومشروعه القومى إلى التى حاولت تفسير الهزيمة وتلك التى زرعت بذور الأمل.. كل ذلك كان شهادة على أن «روزاليوسف» لم تكن مجرد إصدار صحفى بل كانت جبهة ثانية تقاتل بالكلمة وكيف تحولت  من صوت التمجيد إلى صوت الترميم وكيف استخدم كتّابها العظماء الحبر ليكتبوا ما لم تستطع السياسة قوله.

 

 

 

روزاليوسف وعبد الناصر

العلاقة بين «روزاليوسف» وعبدالناصر كانت علاقة تفاعلية معقدة جدًا فيها دعم وفيها نقد وفيها لحظات من التماهى وأخرى من التمايز..  المجلة لم تتخلَّ عن مشروعها التنويرى حتى وهى تكتب فى ظل السلطة بل حاولت أن توازن بين الولاء الوطنى والضمير المهنى، بين الحماسة الجماهيرية والحس النقدى؛ فقد لعبت دورًا محوريًا فى سنوات ما قبل نكسة يونيو؛ إذ كانت  فى ذروة تأثيرها الإعلامى  فى دعم المشروع القومى الذى قاده جمال عبدالناصر، فكانت شريكًا فى صياغة الخطاب السياسى والثقافى ورافعة معنوية تعبر عن طموحات الجماهير فى التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية منذ تأميم قناة السويس مرورًا ببناء السد العالى ووصولًا إلى مشروع الوحدة مع سوريا  كانت «روزاليوسف».. تكتب بلغة الحماس الوطنى وترسّخ عبر مقالاتها وكتّابها الكبار مثل إحسان عبدالقدوس وصلاح حافظ  وأحمد بهاء الدين فى الخطاب بلغة تجمع بين التنوير والدعم السياسى، كما استخدم فنانو «روزاليوسف» الكاريكاتير الذى لعب دورًا بالغ الأهمية فى تلك المرحلة لتبسيط القضايا السياسية والتعبير عن نبض الشارع حتى القضايا المعقدة مثل الصراع «العربى- الإسرائيلى» أو التدخلات الغربية.. كانت تعرض بأسلوب ساخر لكنه عميق، ورغم ذلك فى تلك الفترة فلم تكن هناك مساحة كبيرة للنقد؛ بل كان التركيز على الإنجاز والتحديات التى تواجه الأمة مع التأكيد الدائم على قدرة عبدالناصر على تجاوزها.. هذا الخطاب الإعلامى ساهم فى رفع الروح المعنوية لكنه أيضًا خلق حالة من التوقعات العالية التى اصطدمت لاحقًا بواقع النكسة.

 

 

صدمة النكسة

فى خضمّ صدمة النكسة تحدت  «روزاليوسف» المأزق المهنى والأخلاقى  فتعاملت مع  صدمة الهزيمة دون أن تهدم ما بنته من خطاب تعبوى، وواست الشعب المنكسر دون أن تفقد مصداقيتها.. بعض الأعداد الأولى بعد النكسة حملت نبرة حزينة  فيها قدر من الصدمة لكنها لم تتخل عن دعم القيادة.. المقالات حاولت تفسير ما حدث أحيانًا بإلقاء اللوم على المؤامرة الدولية  وأحيانًا بالحديث عن القصور فى الأداء العسكرى.. وكان خطاب التنحى لحظة مفصلية وكانت «روزاليوسف» فى قلب هذا الحدث، فغلاف المجلة حمل عنوانًا مؤثرًا يعكس صدمة الجماهير لكن ما لبثت أن تحولت النغمة إلى دعم شعبى واسع لعودة عبدالناصر، وهو ما عبرت عنه المجلة بوضوح فى الكاريكاتير الذى جسّد مشاعر الجماهير والمقالات التى  بدأت تتحدث عن المرحلة الجديدة وإعادة البناء فى محاولة لتجاوز لحظة الانكسار، فكان كتّابها الكبار ليسو مجرد صحفيين؛ بل كانوا مفكرين استخدموا أدوات الصحافة لتوجيه الرأى العام نحو التفكير النقدى من خلال تفكيك النكسة، ليس فقط من خلال تقديم تحليل للهزيمة  ومحاولات للفهم ودعوة لإعادة بناء الذات القومية على أسُس جديدة من الواقعية والصدق والعمل الجماعى، فكتابات صلاح حافظ حول النكسة كشفت عن عمق فكرى وسياسى مختلف؛ حيث كتب فى العدد 2036  تحليلا شاملا تحت عنوان «ثلاثة أسئلة على ألسنة الناس.. ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ وماذا يجب أن نفعل؟».. كان هذا الطرح من أهم تحليلات النكسة؛ إذ إنه لم يقم فقط بتفسير الماضى بل لتأسيس رؤية للمستقبل ماذا حدث؟ اختصر الإجابة بجملة حاسمة هزمنا عسكريًا فى معركة سيناء..لم يراوغ فى توصيف الحدث  بل واجهه بوضوح،  وهو ما عكس شجاعة فكرية نادرة فى لحظة صدمة قومية كيف حدث؟  حمّل المسئولية لتحالف قوى الاستعمار لكنه لم يعفِ الذات من الخطأ قائلاً «قواتنا وقعت فى بعض الأخطاء ماذا يجب أن نفعل؟».. هنا وضع الكاتب الكبير حجر الأساس لفكر ما بعد النكسة وإعادة النظر فى كثير من الجوانب.. مستندًا إلى كلمات جمال عبدالناصر فى إدراك درس النكسة وإزالة آثار العدوان، لكنه لا يكتفى بها بل طالب بتفصيلات عملية. 

 

وكتب حافظ أيضًا مقالاً جريئًا بعنوان «مؤمنون ولكن نلدغ عشرين مرة» يكشف عن وعى نقدى حاد تجاه الخطاب السياسى والإعلامى الذى ساد فى العالم العربى آنذاك والأكاذيب التى تروجها الولايات المتحدة والتى للأسف تبنّاها بعض العرب دون تمحيص..  يبدأ مقاله بمفارقة لاذعة «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ومع ذلك بيننا من لدغوا  من نفس الجحر عشرين مرة!.

 

والجحور التى أعنيها هنا أفكار معينة يروج لها الأعداء بيننا ورددناها نحن نقلا عنهم وكذبتها الحوادث عشرات المرات ومع ذلك لا تزال تتمتع بجاذبية شديدة عند كثيرين ممن يكتبون فى الصحف  ويتكلمون فى الإذاعة ويعلمون الناس».

 

لخصت مواقف متكررة للعرب وتصديق روايات أمريكية ثبت زيفها خاصة تلك التى تحمّل اليهود وحدهم مسئولية الشرور الأمريكية، وكأن النظام الرأسمالى الأمريكى برىء بطبيعته وتصوره كضحية، بينما هو فى الحقيقة  هو فاعل أصيل فى الجرائم السياسية والاقتصادية فى الشرق الأوسط، وأن أمريكا نفسها تستخدم هذه الحجة لتبرير مواقفها العدائية تجاه العرب وتصديرها عبر سفرائها ومبعوثيها.. والأخطر أن العرب أنفسهم يرددون هذه الأكذوبة مما يؤدى إلى تخدير الوعى وتبرئة العدو الحقيقى.. فقد لعب «روزاليوسف» عبر مقالات صلاح حافظ  دورًا خطيرًا فى وقت حرج؛ حيث واجهت الخطاب الأمريكى المزيف وفضحت التواطؤ الإعلامى العربى ودعت إلى تحليل النظام الرأسمالى الأمريكى كمنظومة قائمة على الاستغلال لا مجرد ضحية لضغوط اليهود.. وكتاباته كانت بمثابة دعوة للاستيقاظ من سُبات التبرير ومواجهة الحقيقة كما هى لا كما يراد لنا أن نراها، فأصبحت «روزاليوسف» وكتّابها منبرًا مارَس نقدًا ذاتيًا بعد النكسة ورفض التبريرات السطحية وبرز  دورها فى تفكيك خرافة العطف الأمريكى وفضح تناقضات فى الخطاب السياسى العربى وطرح قضية العرب الواحدة  كما دعت إلى وحدة الكلمة والموقف العربى وطرحت أسئلة حرجة وميزت بين الآثار النفسية والمادية للهزيمة وأكدت على  الحاجة إلى إعادة بناء الوعى الشعبى.

 

 

 

مالت «روزاليوسف» إلى دعم القيادة،  معتبرة أن الهزيمة لا تعنى سقوط المشروع القومى، فالمقالات ركزت على ضرورة التماسك الوطنى وعلى أن عبدالناصر هو القائد القادر على تجاوز الأزمة،  لكن مع مرور الوقت بدأت تظهر نبرة أكثر واقعية فيها قدر من النقد الذاتى ومساءلة لبعض السياسات التى أدت إلى النكسة.. لم يكن النقد مباشرًا أو حادًا  لكنه كان حاضرًا فى ثنايا المقالات وفى اختيار الموضوعات  وفى رسومات الكاريكاتير، فبرزت أسماء مثل الكاتب الكبير أحمد حمروش وأحمد عبدالمعطى حجازى ومحمود المراغى  وعبدالخالق محجوب وغيرهم لم يتخلوا  عن إيمانهم بالمشروع الوطنى لكن تناولوا الوضع الراهن وقتها بموضوعية فتحولت «روزاليوسف» إلى منبر للوعى السياسى وساحة للنقاش، فنشرت مقالات عن إعادة بناء الجيش وعن ضرورة الإصلاح الإدارى.. والمسألة أنه لم تكن هذه الطروحات شائعة فى الإعلام الرسمى لكنها وجدت طريقها إلى صفحات «روزاليوسف»  ما جعلها تحتفظ بمكانتها كمنبر مستقل رغم ارتباطها بالمناخ السياسى العام.. فكتب محمود المراغى تحليلاً بعنوان «كيف حاربتنا أمريكا وكيف سنحاربها؟»،  وقف من خلاله على الدور الأمريكى فى العدوان على الأمة العربية قائلاً: «عند هذا الحد من الانتصارات الذى وصلت إليه الثورة العربية.. أدرك الاستعمار فداحة الموقف الذى ينتظره  وأحسّت الإمبريالية الممثلة فى الولايات المتحدة زعيمة الثورات المضادة.. بأن هذه الانتصارات.. هى الخطر الأكبر الذى يهدد مصالحها الاحتكارية فى العالم، وفى نفس الوقت بأن حلمها بالسيطرة على منطقة العالم العربى بدأت تهددها مخاطر وعقبات كثيرة ولذلك دبرت  أمور العدوان.. وخططت له للقضاء على كل قوى التحرر الثورى فى المنطقة».. واقترح المراغى أدوات واقعية للمواجهة؛  خصوصًا فى المجال الاقتصادى، وأكد أن العرب قادرون على المواجهة وأن لديهم أوراق ضغط حقيقية  بالمقاطعة الاقتصادية كأداة مقاومة البترول وقناة السويس والتجارة مع الغرب والأرصدة العربية فى البنوك الأجنبية.. فدعا  عبر صفحات «روزاليوسف» إلى مواجهة واعية ومدروسة لا عاطفية.. وفى مقال آخر له بعنوان «شعار التضحية يجب أن تتحول إلى أرقام» قال: «الخطر الذى يواجهنا أكبر من أى اعتبار شخصى، ولا أظن أن أى عدد من الجنيهات يمكن أن يوازى التضحية بالحياة التى تقدمها رخيصة فى سبيل الأرض والحرية».. المقال ليس مجرد دعوة للتقشف؛ بل هو مشروع لإعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة التى هزتها النكسة  على أساس من العدالة والمسئولية والمشاركة فى مواجهة التحديات.. وطالب المراغى  الدولة بإجراءات  ملموسة وحمَّل  النخب الاقتصادية والسياسية مسئولية ترجمة هذه الرؤية إلى واقع.. وعرضت «روزاليوسف» دعوة التقشف فى عدد من المقالات ليس فقط استجابة للرأى العام بل كضرورة اقتصادية وطنية فى ظل ظروف استثنائية من العجز فى الموارد  وارتفاع النفقات والضغط على العملة المحلية والأجنبية.. وفهم التقشف كقيمة وطنية وأنه ليس مجرد خفض فى الإنفاق  بل إنه سلوك تضامنى يتطلب التضحية والقبول بالحياة الخشنة من أجل هدف أكبر من خلال نقد مظاهر الإسراف وتحديد سقف للدخول وإلغاء البدلات الفاخرة وإعادة النظر فى أكثر من 100 نوع من البدلات.. وإلى جانب كتابات المراغى الناضجة  تناولت مجلة «روزاليوسف» فى عددها رقم 2037  مقابلة مع الملك حسين بن طلال  ملك الأردن  الذى يُعَد من الوثائق الصحفية المهمة التى ساهمت فى رفع الروح المعنوية بعد نكسة 67، وفتحت بابًا للنقاش حول مستقبل السياسة العربية ومواجهة الاستعمار..  ففى حديث الملك مع «روزاليوسف» عبر البرقيات طرح رؤية نقدية وواقعية حول ضرورة إعادة رسم السياسة العربية وأهمية الوحدة والتخطيط العربى المشترك، ودور الأمم المتحدة فى إزالة آثار العدوان ورفض القواعد العسكرية الأجنبية كأداة استعمارية، وقد ساهم هذا الطرح فى بلورة خطاب عربى جديد جمع بين الواقعية السياسية والتمسك بالثوابت القومية.

 

 

أرشيف الألم والأمل

بعد أن هدأت عاصفة النكسة بدأت «روزاليوسف»  فى إعادة تشكيل الوعى الوطنى وأصبحت أداة نفسية وسياسية لإعادة بناء الروح المعنوية التى انكسرت تحت وطأة الهزيمة.. فى هذه المرحلة برزت المجلة كمنصة مقاومة بالكلمة والصورة والفكرة فبدأت المجلة من العدد 2039  بنشر مقالات تتحدث عن المرحلة الجديدة وعن ضرورة تجاوز الهزيمة عبر العمل والتخطيط وليس فقط عبر الحزن والندب، فظهرت نغمة التحدى والإصرار على النهوض والمقالات بدأت تتناول قضايا إعادة بناء الجيش وتطوير الأداء السياسى ودعم المقاومة الفلسطينية، وكأن المجلة قررت أن تكون جزءًا من مشروع استعادة الكرامة، فكانت كتابات الصحفى الكبير أحمد حمروش ويوسف إدريس وفتحى خليل  أشهَر ملامح هذه المرحلة.. فكتب إدريس مقالاً بعنوان «قبل أن نأكل أو ننتج أو نعيش.. لا بُدّ أن نفعلها».. استهله بجملة مؤثرة: «فما يبقى الرجل منا على قيد الحياة الآن ليس إلا رغبته بأنه لا بُدّ أن يعيش حتى تأتى الفرصة ويخوض المعركة.. ولو أدرك  أن لا معركة هناك ولا حرب القادمة مع إسرائيل بالذات لأنهى أمره بيده، فهو لن ينسى ولن يغفر ولن يتحول عن عزمه أبدًا».. كانت مقالات إدريس فى «روزاليوسف» صرخة أدبية وسياسية عبّر بها عن غضب شعبى مكبوت وتصميم داخلى على المقاومة ورفض الهزيمة النفسية، فتحدّث عن النصر كشرط  وجودى للمصرى والعربى وأن الحياة الطبيعية لن تعود إلا بعد أن يستعيد حقه ويثأر لكرامته.. وأيضًا عن الظلم التاريخى، عن خسارة الحروب دون خوض المعارك والرغبة العارمة فى الانتقام لا من أجل الدم؛ بل من أجل استعادة الذات.. وطرح الأستاذ فتحى خليل نفس الرؤية لكن بلهجة أكثر حده عبر مقاله «إمّا مطرقة أمّا سندان» قائلاً: «إن القتال مرير.. وأشد من مرارة القتال  مرارة المحافظة على طبيعة المقاتلين فى أنفسنا والتخلص من كل ما يشغل خطانا ويميت فى قلوبنا نبض العقيدة.. وفى الثورة إمّا أن تكون مَطرقة.. أو سندانًا يتلقى الضربات.. إما أن نكون ثورة أو لا نكون».. عكسَ قلمه محاولة جادة لفهم الصدمة وتحديد موقع الثورة العربية فى مواجهة الاستعمار، وطرح رؤية مفادها أن الأمة العربية بعد النكسة تقف بين خيارين لا ثالث لهما إمّا أن تقاوم وتضرب وتعيد بناء ذاتها، أو تتلقى الضربات وتتشكل وفْق إرادة الآخرين.. وكتب أيضًا الشاعر والمفكر  أحمد عبدالمعطى حجازى «كيف نحول النكسة إلى انتصار؟» قائلاً: «الآن.. لا يوجد مبرر واحد لإخفاء  الحقيقة.. بل إن كل المبررات توجب الصراحة التامة.. لأننا الآن وجهًا لوجه أمام مستقبل كجیل يعيش وأمام التاريخ كجيل ينتظر المحاكمة بعد أن يرحل.. ويترك حياته بكل ما فيها ميراثا للأجيال القادمة».. ربط الكاتب بين الهزيمة العسكرية فى 1967 وبين أزمة أخلاقية وسياسية داخل المجتمع المصرى والعربى.. لم يكتفِ بتشخيص الواقع؛ بل دعا عبر كلماته فى مجلة «روزاليوسف» إلى ثورة داخلية تبدأ من الفرد وتنتهى بإعادة بناء المجتمع على أسُس صلبة  قائلاً: «النكسة امتحان قاسٍ خرجنا منه متهمين ومدانين لكننا نستطيع أن نحول هذا الاتهام إلى انتصار إذا بدأنا بالصراحة والعمل».. وكتب  الكاتب الكبير مقالات عدة على صفحات «روزاليوسف» ليست بلغة الهزيمة بل بلغة النهضة الداخلية.. رأى المعركة الحقيقية ليست فقط مع إسرائيل بل مع الذات المتراخية والمؤسّسات المتكلسة والقيم الغائبة.. أمّا أكثر المقالات التى ميزت هذه الفترة فكانت كتابات أحمد حمروش بصفته رئيس تحرير «روزاليوسف»  وأحد الضباط الأحرار فوجَّه خلالها  نداءً وطنيًا صريحًا  قائلاً: «لا تخدعوا أنفسكم مرة أخرى.. النكسة ليست نهاية بل بداية لمعركة جديدة تتطلب تنظيمًا ووعيًا  ومقاومة حقيقية».. فى مقال بعنوان  «لكى لا تخدع مرة ثانية» عرض النكسة كصدمة علاجية وصفها بـالضرورة المؤلمة  لإيقاظ الأمة من غفلتها قائلاً: «بعد مواجهتنا المباشرة لأكبر تجمع استعمارى فى هذا العصر  يجب أن نعيش دائمًا بشعور المعركة.. بلا استخفاف ولا تتواكل.. يكفى الشعور الذى ساد قبل 5 يونيو  الذى جعل الناس تتصور أن المعركة يسيرة ومضمونه..  ولا تحتاج من  الناس إلى المشاركة أو بذل الجهد والتضحية».. ولا يمكن تصور هذه المرحلة دون الإشارة إلى الكاتب الكبير محمود السعدنى وكتاباته التى هى نموذج فريد من الكتابة الساخرة المقاومة التى كشفت التناقضات الاجتماعية والسياسية فى لحظة وطنية حرجة بأسلوبه اللاذع والمتهكم فضح السعدنى مظاهر الزيف والانتهازية التى ظهرت فى المجتمع المصرى أثناء التعبئة الوطنية وحوّل السخرية إلى أداة نقد حاد.. ففى مقاله بعنوان «بمناسبة الحرب الحاضرة نحن أبطال»، قال: «حضرات الأبطال الصناديد الذين ينشرون إعلانات التأييد فى الجرايد وينشرون أسماءهم بالخط العريض من باب المنجهة والاستعراض؛ أرجو أن يكفوا عن هذا الفعل لأنه أولا عمل حقير وثانيًا عمل صغير ولأنه ثالثا  مثل ولد نوح عمل غير صالح فالحرب ضد الاستعمار.. ودولة اليهود ليست مباراة فى  كرة القدم يمكن تأييدها ويمكن معارضتها، فالحرب ضد الاستعمار ودولة اليهود هى حرب مصيرية فإما أن تكون معنا  من دون إعلان تأييد وأن تكون ضدنا فنضع ظهرك للحائط ونضربك بالنار.. والكلام هنا موجّة للسادة رؤساء مجالس إدارة المؤسّسات والشركات الذين انتهزوا الفرصة لينشروا أسماءهم بالبنط العريض وبعضهم نشر «صورته» وانتقد بشدة الاستعراضات الزائفة.. ونشر إعلانات التأييد أو التبرع بطبعات كتب بدلًا من تقديم دعم حقيقى للمجهود الحربى أو المشاركة الفعلية فى المعركة.

 

 

خارج الحدود

واكبت «روزاليوسف» الأحداث ليس فقط من الداخل المصرى؛ بل ركزت بشكل لافت على مراقبة الخارج؛ خصوصًا تحركات الولايات المتحدة وإسرائيل، وتحليل ما يجرى داخل المجتمع الإسرائيلى نفسه، فبرز الكاتب إبراهيم عزت وجمال حمدى والدكتور فؤاد مرسى وإبراهيم خليل وحسين الميمى.. فكتب جمال حمدى على صفحات «روزاليوسف»: «اليهود يأكلون بعضهم!» تحقيق صحفى جرىء يكشف عن التمييز العنصرى والدينى داخل المجتمع الإسرائيلى نفسه بعيدًا عن الصورة التى تحاول إسرائيل تصديرها للعالم كدولة ديمقراطية موحدة.. وسلط الضوء على الانقسامات الداخلية والصراعات الطائفية والهيمنة العرقية التى تمارسها النخبة الأشكنازية ضد الطوائف الأخرى والمسيحيين.. وفى تقرير الخاص لـ«روزاليوسف» بعنوان «صِدام فى شوارع نيويورك: كشف  حسين الميمى  عن حجم التعبئة الإعلامية الصهيونية فى الولايات المتحدة خلال أزمة الشرق الأوسط  وتحديدًا فى مواجهة الجمهورية العربية المتحدة بقيادة  جمال عبدالناصر والتحركات الدعائية المنظمة التى هدفت إلى تشويه صورة العرب والفلسطينيين فى الرأى العام الأمريكى، وفضح ميزانيتها التى بلغت نصف مليون دولار لتشويه عبدالناصر.. كما قدمت «روزاليوسف» من خلال قلم الكاتب إبراهيم عزت  مجموعة من الحقائق السرية  وعرضت معلومات حساسة جمعت خلال جولات الكاتب فى عدة عواصم أوروبية.. وكشفت عن البعد الخفى للحرب بعيدًا عن الجبهة العسكرية فى كواليس المال والإعلام، وقال فى تحليل سياسى بعنوان «أربع حقائق سرية جدا».. «حاربنا 446 مليون أوروبى».. ليست مجرد عبارة بل تلخيص لحجم المعركة التى خاضها العرب دون أن يدركوا مدى اتساعها.. كما نشرت «روزاليوسف» للدكتور فؤاد المرسى أستاذ الاقتصاد عدة مقالات بعد أن عاد من جولته فى عدة عواصم أوروبية بعنوان «إسرائيل رجل البوليس للاستعمار».. المقال لا يكتفى بوصف إسرائيل كدولة بل يطرحها كـأداة استعمارية  قائلاً: «إسرائيل ليست دولة بالمعنى التقليدى بل هى وظيفة استعمارية»، فكشّف الدكتور فؤاد مرسى  عن  الدور المزدوج الذى قامت به فى  قمع الحركات التحررية فى الشرق الأوسط وتشويه صورة العرب فى أوروبا؛ خاصة لدى اليسار.

 

كاريكاتير “روزاليوسف”

الكاريكاتير الذى كان أداة ساخرة قبل النكسة تحوّل إلى أداة تحفيزية بعدها.. رسومات صلاح جاهين وبهجت عثمان وجورج البهجورى والليثى وغيرهم  بدأت تظهر الشعب المصرى فى هيئة المقاتل أو العامل أو الفلاح، وعبدالناصر لم يعد يرسم كبطل خارق بل كقائد يتألم مع شعبه ويقودهم نحو مستقبل أفضل.. هذه التحولات البصرية كانت جزءًا من استراتيجية «روزاليوسف» النفسية لإعادة الثقة فى الذات الوطنية، وبرزت ريشة جورج والليثى الساخرة فى كشف زيف الدعاية الصهيونية وإعادة بناء الوعى الشعبى.. فلم يجامل كاريكاتير «روزاليوسف» السلطة بل انتقد الأداء السياسى والعسكرى الذى أدى إلى النكسة.. وتم تصوير إسرائيل  والولايات المتحدة والأمم المتحدة أيضًا بأساليب ساخرة تظهر هشاشة قوتها.. ورد كاريكاتير روزا على الرسوم الدعائية التى كانت تلقيها إسرائيل على مدن القناة ودعم المقاومة وحرب الاستنزاف.. إلى جانب ذلك كانت أيضًا خطابات عبدالناصر بعد النكسة تنشر فى المجلة مع تحليلات وتفسيرات تؤكد على مشروعه الإصلاحى الجديد.. فالمجلة ساهمت فى إعادة تقديم الزعيم ليس كمنقذ خارق بل كقائد واقعى يعترف بالأخطاء ويَعد بالإصلاح.. هذا التحول فى الخطاب الإعلامى كان ضروريًا لاستعادة الثقة الشعبية.. و«روزاليوسف» لعبت فيه دورًا محوريًا.