
احمد باشا
من «بلفور» إلى «ستارمر».. اعتراف لا يمحو خطايا التاريخ
فى نوفمبر 1917، كتب اللورد بلفور رسالة قصيرة إلى اللورد روتشيلد، لا تتجاوز بضع جمل، لكنها بدّلت وجه التاريخ. جملة واحدة منحت «من لا يملك» إلى «من لا يستحق»، فكانت البذرة الأولى لزرع كيان فى قلب المشرق العربى، كيانٌ عاش وتغذى على دماء الأبرياء، واتخذ من القتل والتهجير سياسة وجود، ومن المجازر علامات حدود. ومنذ تلك اللحظة، تحولت فلسطين من جغرافيا إلى جرح، ومن وطن إلى نكبة ممتدة.
واليوم، بعد أكثر من قرن، تقف بريطانيا أمام مرآة التاريخ. يعلن رئيس وزرائها كير ستارمر اعتراف المملكة المتحدة بدولة فلسطين. خطوة وُصفت بأنها «تاريخية»، لكنها لا تملك أن تمحو تاريخًا من الخطيئة، ولا أن تغسل عار وعد بلفور الذى كان أصل المأساة.
هذا الاعتراف جاء متأخرًا جدًا، وبعد أنهار من الدماء ومواكب من الشهداء. من دير ياسين إلى كفر قاسم، من بحر البقر إلى صبرا وشاتيلا، من جنين إلى قانا، وصولًا إلى غزة التى لا تزال تحت قصف متواصل يترك أطفالها بين ركام البيوت. أسماء المذابح ليست مجرد أحداث، بل جروح غائرة فى جسد الأمة، وشواهد على أن الاعتراف مهما عَلا شأنه، لا يُعيد حياة سُلبت ولا بيتًا هُدم.
من زاوية سياسية بحتة، يعكس القرار تحولات فى المزاج الدولى. الرأى العام الغربى لم يعد قادرًا على تحمل صور غزة. أطفال تحت الأنقاض، عائلات تُباد، ومدن تتحول إلى خرائب. المشهد أثار ضميرًا إنسانيًا كان صامتًا طويلًا، وخلق ضغوطًا على الحكومات، وفى مقدمتها بريطانيا، لتغيير خطابها التقليدى.
ثم إن لندن - التى لطخ إرثها الاستعمارى صورتها فى الشرق الأوسط- تسعى من خلال هذه الخطوة إلى استعادة بعض من مصداقيتها الأخلاقية المفقودة. الاعتراف هنا ليس فقط تضامنًا مع الفلسطينيين، بل أيضًا محاولة لغسل وجه دبلوماسى تَلطّخ منذ بلفور وحتى اليوم. وهو كذلك رسالة إلى تل أبيب بأن شيكات الدعم الغربى لم تعد على بياض، وأن «الأمن لإسرائيل مقابل تجاهل حقوق الفلسطينيين» معادلة آيلة للسقوط.
لكن الاعتراف وحده لا يكفى. إذا ظل مجرد بيان فى داونينغ ستريت أو رفع علم فى الأمم المتحدة، فلن يتجاوز حدود الرمز. سيبقى فى خانة «إبراء الذمة» المتأخر، أو «تصحيح شكلى» لا يمس جوهر القضية. أما إذا تلاه فعل سياسى ودبلوماسى ملموس:
• وقف الاستيطان الذى يلتهم ما تبقى من الأرض.
• رفع الحصار عن غزة وإعادة إعمارها.
• الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين.
• دعم مسار تفاوضى عادل برعاية دولية ملزمة.
فحينها فقط يمكن القول إن لندن بدأت فى التكفير عن خطيئة بلفور.
القرار البريطانى لا يُقرأ بمعزل عن موجة اعترافات دولية سابقة ولاحقة،أيرلندا وإسبانيا والنرويج، ثم كندا وأستراليا، وحوارات أوروبية داخلية تتجه إلى نفس المسار. نحن أمام إعادة صياغة لموقف غربى ظل لعقود أسير الرواية الإسرائيلية وحدها. العالم بات يدرك أن ترك القضية الفلسطينية معلقة هو وصفة دائمة للفوضى والحروب.
ومع ذلك، تبقى الفجوة واسعة بين الاعترافات الرمزية والعدالة الفعلية. فالدولة الفلسطينية التى تعترف بها العواصم لا تزال على الأرض مقسمة، محاصرة، ممزقة بين استيطان متوحش وجغرافيا مُقطّعة الأوصال. ما قيمة الاعتراف إذا لم يوقف جرافة تهدم بيتًا، أو طائرة تقصف حيًا، أو جنديًا يطلق النار على طفل؟
مفارقة التاريخ دامية ؛ قرن كامل يفصل بين توقيع بلفور وتوقيع ستارمر. الأول فتح أبواب الجحيم، والثانى يحاول فتح نافذة للضوء. لكن التاريخ لا يُمحى بالتصريحات، بل يُكتب بالفعل على الأرض. وما لم يتحول الاعتراف إلى التزام دولى ملزم، سيبقى الفلسطينى كما كان دائمًا، أعزل إلا من إرادته، يواجه الدبابة بالحجر، ويحمل ذاكرة الأرض فى مواجهة النسيان.
إن فلسطين لم تكن يومًا قضية حدود وجغرافيا فقط، بل قضية عدالة وضمير إنسانى. والاعتراف بها ليس منّة من بريطانيا أو غيرها، بل هو واجب تأخر أكثر من مائة عام. وبين بلفور وستارمر، يظل السؤال معلقًا: هل يملك العالم الشجاعة لتحويل الكلمات إلى أفعال، أم يظل الاعتراف مجرد حبر على ورق، يُقال بعد فوات الأوان؟.