بـالطائفية والاستبداد
الرجل الهش يشعل سوريا من جديــد

داليا طه
لم يكن صعود أحمد الشرع إلى واجهة المشهد السورى حدثًا عاديًا؛ بل بدا منذ لحظاته الأولى كأنه انقلاب على كل ما هو مألوف فى السياسة السورية.. الرجل الذى عرفته أجهزة الاستخبارات الغربية والعربية كأحد أبرز القادة الجهاديين، تحوّل فجأة إلى رئيس انتقالى يَعِد بالاستقرار ولمّ الشمل، ويُقدَّم فى الإعلام العالمى على أنه الفرصة الأخيرة لإنقاذ بلد أنهكته الحرب.
صورته فى العواصم الكبرى باتت مبهرة: رجل براغماتى، قادر على كسب ثقة الولايات المتحدة وأوروبا، إلى درجة أن واشنطن نفسها رفعت العقوبات عن حكومته، وألغت تصنيف ميليشياته السابقة كمنظمة إرهابية.
أصبح العالم مستعدًا لمنحه «شيكًا على بياض» مقابل أن ينجح حيث فشل الجميع: إعادة سوريا إلى الخريطة كدولة موحدة.
لكن خلف هذه الصورة اللامعة، كانت سوريا تغلى، فالأرض التى استقبلت الشرع ليست صفحة بيضاء؛ بل مليئة بالجراح والانقسامات العميقة، مدن مدمرة، ملايين اللاجئين، اقتصاد متهاوٍ، ونسيج اجتماعى مهشّم بفعل سنوات طويلة من الحرب الأهلية والطائفية، الشرع لا يواجه فقط إرث نظام الأسد؛ بل يواجه أيضًا مجتمعًا فقد ثقته بكل من يحكمه.
والمفارقة أن الرجل الذى سُوِّق كرمز للاستقرار، بدأ خطواته الأولى بتكريس نموذج جديد من الحكم الاستبدادى. بدلًا من فتح الباب أمام انتقال سياسى شامل، لجأ إلى القبضة الحديدية، مانعًا أى تعددية سياسية أو حزبية، ومثبتًا سلطاته فى الإعلان الدستورى الذى جعل الرئاسة مركز الثقل الوحيد. بذلك؛ قدّم نفسه للخارج كرجل «قوى»، لكنه بدا فى الداخل هشًّا، عاجزًا عن تقديم الحرية أو الأمان أو الرخاء.
الأكثر خطورة أن الشرع حاول بناء شرعيته على أسُس طائفية جديدة، مستحضرًا رمزية الدولة الأموية ومخاطبًا الأغلبية السُّنّية باعتبارها القوة التى يجب أن تلتف حوله. هذا التوجُّه سرعان ما أثار قلق الأقليات، التى رأت فيه تهديدًا مباشرًا لوجودها، وزاد من الشرخ الاجتماعى. فى الوقت نفسه، كان الوضع الاقتصادى الكارثى يجعل أى وعود بالاستقرار مجرد شعارات فارغة.
هكذا، وجد السوريون أنفسَهم أمام معادلة مأساوية: رئيس نال شرعية دولية واسعة، لكنه عاجز عن إقناع شعبه بأنه قادر على إنقاذهم. ومن هنا، جاءت صورة أحمد الشرع كرجل هشّ، محاصر بالانقسامات، ومهدّد بانفجار داخلى قد يعصف بكل ما حاول أن يبنيه فى أشهر قليلة.
مشكلات داخلية
رغم محاولات الشرع تقديم نفسه كقائد إصلاحى؛ فإن سياساته فى الداخل لم تخرج عن إطار الحكم المركزى المتشدد. منذ اللحظة الأولى، أغلق الباب أمام أى عملية انتقال سياسى حقيقية، ومنع ظهور أحزاب مستقلة، ومنح الرئاسة صلاحيات مطلقة على السلطتين التشريعية والقضائية.
هذه المركزية القسرية لم تؤدِ إلاّ إلى تفاقم الانقسام على الأرض.
قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية، والميليشيات الدرزية، رفضت الانخراط فى هذا النظام الاستبدادى الذى يرفع شعارات إسلامية صارمة، فيما واجه المجتمع السورى موجة جديدة من القمع؛ من ظهور ما يُعرف بـ«شرطة الآداب العامة» التى ضيّقت على النساء والمقاهى والحياة الثقافية، إلى إحكام القبضة الأمنية على تفاصيل الحياة اليومية.
الأزمة الاقتصادية عمّقت المشهد قتامة. فإعادة إعمار سوريا قد تكلف نحو 400 مليار دولار، بينما يفتقر النظام إلى أدنى ثقة من المستثمرين.
ومع واحدة من أشد موجات الجفاف منذ سبعة عقود، فشل ثلاثة أرباع محصول القمح، ليتحول الخبز إلى أزمة يومية.
على الجانب الآخر، تتفاقم البطالة، وتتزايد معدلات الهجرة، بينما يبيع الشباب ممتلكاتهم القليلة للفرار من البلاد نحو أوروبا أو شمال إفريقيا.
وفى الداخل، تحولت مدن كبرى مثل دمشق وحلب إلى مناطق تعانى انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، شح المياه، وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة.
هذه المعاناة اليومية تجعل السوريين يشعرون أن الشرع لم يقدّم لهم سوى نسخة جديدة من الاستبداد، لكن بوجه مختلف.
الدروز وصراع الهويات
الأقليات فى سوريا، وعلى رأسها الدروز، كانوا الأكثر قلقًا من مسار أحمد الشرع.
وعلى عكس نظام الأسد الذى استعمل الطائفية أداةً للسيطرة وفق سياسة «فرّق تسُد»، جعل الشرع الطائفية ركيزة فى بناء دولته، مطلقًا مشروعًا يقوم على هوية «سُنية- أموية» تستحضر رمزية الدولة الأموية من دمشق.
هذا النهج سرعان ما أشعل الأوضاع. ففى مارس الماضى، ارتُكبت مجزرة راح ضحيتها نحو 1500 علوى فى الساحل، ثم جاء هجوم دامٍ على السويداء فى يوليو، استهدف المرجع الدينى الأكبر للدروز، الشيخ حكمت الهجرى، والميليشيات المحلية التى رفضت الخضوع.
لكن الحسابات السياسية انقلبت على الشرع. فبدل أن يخضع الدروز، وحّدهم الخطر خلف الهجرى؛ ليصبح مركز مقاومة علنيًا للنظام الجديد. ومعها تزايدت مشاعر الإحباط لدى الأقليات، التى تشكّل ربع سكان سوريا، وشعرت أنها أصبحت بلا تمثيل أو حماية. بعضهم بدأ يتحدث عن الهجرة الجماعية كخيار وحيد، بينما يرى آخرون أن البقاء بات يعنى العيش تحت تهديد دائم من ميليشيات الدولة وأجهزتها الأمنية.
إسرائيل والسيادة المثقوبة
الأحداث فى السويداء لم تبقَ داخلية، إذ وجدت إسرائيل فرصة للتدخل المباشر. قصفت القوات الإسرائيلية وحدات عسكرية سورية كانت تتحرك باتجاه المحافظة، واستهدفت مواقع قيادية فى دمشق نفسها. كما قدّمت مساعدات إنسانية للدروز، وسط شكوك بأنها وفّرت أيضًا دعمًا عسكريًا سريًا.
ورغم خطورة هذه التطورات، لم يُظهر الشرع أى ردّ فعلى يُذكر، ما كشف هشاشة سيادة سوريا أمام اختراق خارجى بهذا الحجم. وقف إطلاق النار الذى فُرض بعد 19 يوليو بدا هشًا للغاية، فيما يُرجّح أن أى هجوم جديد قد يقود إلى تدخل إسرائيلى أوسع يصل إلى استهداف قيادات النظام نفسه.
فى الشارع السورى، ينظر كثيرون إلى المشهد بقلق بالغ: «إذا كانت إسرائيل تقصف دمشق ولا أحد يرد، فكيف يمكن أن نتحدث عن سيادة أو استقلال؟»، يتساءل ناشط معارض من ريف دمشق.
التطبيع غير المعلن
التدخل الإسرائيلى المباشر يثير تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين دمشق وتل أبيب. فبينما يرفع الشرع شعارات «الوحدة الإسلامية» و«الهوية الأموية»، يجد نفسه عمليًا مضطرًا للتعايش مع حضور إسرائيلى عسكرى وسياسى على الأرض.
الضغوط التى يمارسها الدروز فى إسرائيل لحماية طائفتهم داخل سوريا، والتنسيق الإنسانى والعسكرى على الحدود، تفتح الباب أمام سيناريو «تطبيع واقعى» غير معلن، يرسخ الأمر الواقع دون اتفاقات رسمية.
اللافت أن هذه التطورات تأتى فى وقت تشهد فيه المنطقة موجة من إعادة ترتيب العلاقات؛ حيث لم تعد فكرة التطبيع مع إسرائيل صادمة كما كانت فى السابق. وهكذا؛ قد يجد الشرع نفسه متوافقًا- بشكل غير مباشر- مع المسار الإقليمى، حتى وإن استمر فى رفع الشعارات المعادية لإسرائيل فى خطابه العلنى.
بعد عام واحد من وصوله إلى السلطة، يتضح أن أحمد الشرع ليس القائد القوى الذى قدّمه الإعلام الدولى؛ بل رجل هشّ يقف على أرض رخوة. سياساته الاستبدادية عمّقت الانقسامات، أقلياته انتفضت ضده، وإسرائيل باتت لاعبًا علنيًا فى المعادلة السورية.
فى ظل أزمات اقتصادية خانقة، وتوترات طائفية متصاعدة، وتدخلات خارجية تمزق ما تبقى من سيادة البلاد، يبدو أن سوريا مع الشرع تقف على مفترق طرق خطير: إما الدخول فى حرب أهلية جديدة، أو الارتهان لتفاهمات خارجية تجعلها ساحة صراع الآخرين.