مقال لماذا صرت ماسونيا.. وثيقة تكشف رؤية المنظر الأكبر للجماعة:
سيد قطب كبيرهــــــم الذى علمهم الخيانة

عبدالله رامى
أهمية مقال سيد قطب «لماذا صرتُ ماسونياً؟» لا تكمن فى غرابة العنوان فحسب، بل فى أنّه وثيقة مبكرة تكشف عن لحظة سيولة فكرية عاشها صاحب «معالم فى الطريق» قبل انتقاله إلى أطروحته القطعية عن «الجاهلية» و«العزلة الشعورية».
جاء المقال فى مجلة «التاج المصري»، وهى مطبوعة ماسونية كانت تصدر فى القاهرة منتصف الأربعينيات؛ وقد أشار الكاتب حلمى النمنم إلى ذلك فى مقالات وسيرة وثّق فيها علاقة قطب المبكرة بالماسونية، بينما تعرف وثيقة صادرة عن محفل ماسونى مغارب؛ «التاج المصري» بأنها مجلة ماسونية تصدر فى القاهرة منذ 1945.
هذه الإشارات تمنحنا سببا وجيها لقراءة النص فى ضوء سياقه التاريخى وسياق كاتبه الفكرى وانضمامه للإخوان بعد ذلك بسنوات قليلة.
الماسونية فى «مصر الأربعينيات»
ظلت المحافل الماسونية ناشطةً فى مصر منذ القرن التاسع عشر، وقدّمت نفسها بواجهةٍ خَيرية أممية ترفع شعارات «الأُخوّة والمساواة». هذا الحضور استمرّ حتى إغلاق المحافل نهائياً فى عهد جمال عبد الناصر عام 1964، وهو تاريخ تُثبته دراسات وسيَر ماسونية وغير ماسونية على السواء. فى هذا المناخ كتب قطب نصّه مادحاً «الرجولة والإنسانية» و«العمل الصامت» بوصفها جوهر الماسونية وهى مفردات تتسق تماما مع الخطاب العام للمحافل فى تلك الفترة.
لكن تلك الصورة «الإنسانية» لم تكن بلا حمولة سياسية. فالمصادر توثق بيانا صادرا عن محفلٍ ماسونى بمصر سنة 1922 بعنوان «نداء إلى أهل فلسطين»، يتبنّى فيه حقَّ «اليهود بفلسطين» ويربطه بـ«التحضر»، ما يعنى أن الماسونية المحلية كانت، فى لحظة مبكرة، أقربَ إلى خطابٍ متعاطف مع الصهيونية السياسية. بهذا المعنى، فإنّ دفاع قطب الشاب عن الماسونية عام 1945 جاء متقاطعا مع منظومةٍ كانت تميل إلى رواية مؤيدة للمشروع الصهيونى.
لماذا يجب أن نقرأ مقال قطب؟
يفترض النص أن الماسونية «بلسم لجراح الإنسانية» و«الفضيلة التى تنطوى على أسمى المعاني». هذا التوصيف يتجاهل حقيقة أن الماسونية الحديثة كانت، فى نسختها المصرية، مؤسسة شبكية بصلاتٍ سياسية وثقافية متشابكة؛ وأنّ خطابها «الأممي» لم يمنع إجراءاتِ حظرها بوصفها بنية مغلقة تتعارض مع تنظيم المجتمع المدنى.
كما يتجاهل ارتباط بعض خطابات المحافل الماسونية فى مصر وخارجها بأطروحاتٍ متعاطفة مع الصهيونية فى العشرينيات.
تحولات قطب.. من «الإنسانية» إلى «الجاهلية»
بعد سنواتٍ قليلة تبدّل مسار قطب جذرياً. رحلته إلى الولايات المتحدة (1948–1950) ثم عودته وانخراطه مع الإخوان غيّرا رؤيته للعالم. المراجع المعتمدة تؤكد أن تلك التجربة مثّلت مفصلاً فى تشكّل رؤيته الصراعية للمجتمع الحديث، وصولاً إلى انضمامه إلى جماعة الإخوان وتحوّله إلى أهم منظّريها.
فى «معالم فى الطريق» سيبنى قطب رؤيته على ثنائيةٍ قاطعة: «الإسلام الحاكم» فى مواجهة «الجاهلية» المعاصرة، ودعوة «طليعة مؤمنة» تعيش «عزلةً شعورية» عن المجتمع حتى تتسلم «الحاكمية».
هذا الإطار الفكرى يناقض ظاهريا خطابَه الماسونى المبكّر الذى مجّد «الإنسانية الجامعة» و«الأخوّة العابرة للأديان»، بل وربما يرى البعض أن مقال «لماذا صرتُ ماسونياً؟» وثيقة تُدين أطروحته اللاحقة من داخلها. لكن الحقيقة فى رأيى أن تنظير «قطب» لمشروع الإخوان إنما هو بناء منطقى وطبيعى جدا على أفكاره الداعمة للماسونية.
التقاطعات بين رؤية وأهداف الإخوان وأهداف الصهيونية، تؤكد أن «قطب» اختار خدمة «نفس الهدف» ولكن بخطاب مختلف، بالتالى فإن ما يراه البعض تناقضا هو مجرد تناقض فى شكل الخطاب، رغم أن الهدف واحد.
يعنى ببساطة؛ الخطاب الماسونى والإخوانى وإن بدا بينهما اختلاف، فإنهما يحققان ويخدمان نفس الأهداف.
قطب والعقاد
بعد سنوات من مقال قطب، وتحديدا فى 1949 نشر عباس محمود العقاد مقالته المنشورة ضمن الملف بعنوان «فتنة إسرائيلية» قرأ فيها الخطر الصاعد للصهيونية على المجتمعات الشرقية، وأثر «الفتنة» فى تفكيك البنى الوطنية والدينية. والنبرة التحذيرية المبكرة تعطى خلفية مهمة لفهم نقده لجماعات وتنظيمات سرّية تقوّض المجال العام باسم الفضائل المجردة.
وهذه الخلفية تضيء مفارقة لافتة؛ ففى الوقت الذى كان فيه العقاد يحذر من الفتنة الصهيونية التى يبشر بها الإخوان، كان قطب يكتب دفاعا عن «الماسونية» المتعاطفة مع المشروع الصهيونى.
كيف تقاطعت ممارسات الإخوان مع المصالح الإسرائيلية؟
ما يؤكد طرحنا عن أن تنظير قطب للخطاب الإخوانى قد اتفق مع الرؤية الصهيونية هو الواقع، فالتجربة السياسية القصيرة للجماعة فى الحكم (2012–2013) قدّمت مثالاً عملياً على براجماتية تخدم أهداف الاحتلال.
حين وصلت الجماعة إلى الحكم تصرفت بـ«أخلاقيات الماسونية» التى امتدحها قطب
منها على سبيل المثال أن الجماعة التى ملأت الشوارع بهتاف «على القدس رايحين شهداء بالملايين» كان خطاب رئيسها الموجه لشيمون بيريز بصيغة «صديقى العزيز». وبعيدا عن هذا الجدل.
فإننا نشاهد اليوم بأعيننا، خدمة (كل أجنحة الإخوان باختلافاتها) لأهداف الاحتلال فى القضية الفلسطينية، بل وعملهم ضد الدور والرؤية المصرية، فبدلا من توجيه ضغطهم على نتنياهو المسئول الأول عن الإبادة الجماعية الأكبر، كانوا يشاركون فى «قتل سكان غزة» برؤية صهيونية تعلموها من «قطبهم»
ما قدمه قطب الشاب عن الماسونية بوصفها «فضيلة خالصة» يتهاوى أمام تاريخ طويل من الخيانة؛ بذلك يكون المقال وثيقة تؤكد هوى الإخوان وهويتها، على لسان أحد أقطاب الجماعة الكبار.
بهذا المعنى، فإن رؤيتنا اليوم لمقال «لماذا صرت ماسونيا؟» ليست مجرد استعادة لعنوان صادم، بل دليلا يؤكد فرضيتنا فى هذا الملف: أنّ الجماعة -فكراً وتنظيما- كانت، عبر قرنٍ كامل، أقرب إلى منظوماتٍ وشبكاتٍ عابرة للمعنى الوطنى، وأنّ محصّلة ممارستها السياسية فى لحظتها المفصلية (2012–2013) لم تحمل مشروع تحرر، بل منحت الاحتلال هدوءًا وانقساما وتمديدا للوضع القائم.
هذا ما تنطق به الوثائق والسياقات مجتمعة، وأن تحركات الإخوان الآن الداعمة لأهداف الاحتلال والمتفقة مع أجندته ضد الرؤية المصرية ليست وليدة لحظة أو موقف عابر، بل إيمان ورؤية «صاحبت تأسيس الجماعة نفسها»، ورواية صاغتها الجماعة عبر قرن من الخيانة لهذا البلد، وللقضية العربية كلها.