
محمد هانى
زيارة شخصية إلى جمال عبدالناصر (1)
التاسع من يونيه 1967
لم تكن سنوات العمر الخمس كافية لأستوعب معنى أو سبب المشهد الذي يجرى أمامى، لكن تفاصيله انطبعت فى ذهنى لم تفارقنى، وربما تكون قد شكلت أولى مكونات الإدراك فى وعيى.. أبى وأمى وجدتى جالسين فى صمت تام وحذر أمام التليفزيون، قريبون منه إلى درجة غير طبيعية كما لو كانوا يريدون النفاذ إلى داخله !، وعلى الشاشة « جمال» يتحدث بوجه حزين وصوت خفيض.. أعرفه جيدًا من صورته المبتسمة المعلقة فى غرفة المعيشة إلى جوار صور عائلية قليلة ومن صور أخرى له مهيبة ومشرقة رأيتها فى بيوت أقاربنا وفى المدرسة وفى متجر أبى.. أعرفه أيضًا من أحاديثهم المستمرة عنه التي التقطت خلالها معانٍى متناثرة لها علاقة بـ«البطولة»، «القوة»، «الحق»، «المثالية».. وبشكل ما كنت أعرف أنه بالنسبة للجميع مثل أبى بالنسبة لنا، وجوده فى حياتنا يحمينا ويشعرنا بالطمأنينة وإذا أردنا شيئًا فهو الذي يحققه، وبالتأكيد فنحن نتباهى به ويمكننا اللجوء إليه فى أى وقت فهو يسمعنا ويعرفنا، وهو نفسه الذي سمعت التلاميذ الأكبر سنًا يغنون له بحماس جماعى «ناصر كلنا بنحبك» و«ناصر يا حرية».
لكن مايجرى الآن إحساسه مختلف فابتسامة جمال غائبة وأهلى صامتون بينما صوته الخفيض أسمعه يتردد متكررًا آتيًا من أجهزة راديو دائرة فى محلات محيطة ببيتنا.. طال حديثه وقد وجدت نفسى مشاركًا فى الصمت، فلا أحد يلتفت لى ولا لأخى الأصغر.
حين انتهى المشهد الثقيل سمعت لأول مرة صوت أبى الهادئ جدًا مرتفعًا بغضب: « يعنى إيه يمشي؟ مين هايسيب الصهاينة يمشوه ؟ ده مايحصلش أبدًا».. لم أفهم كلمة «صهاينة» لكن وصلنى معناها شيء شرير، ولم أفهم لماذا قرر أبى أن ينزل ليفتح متجره ونحن فى يوم جمعة، لكننى كالعادة تعلقت به ولم يمانع.. أخذنى فى يده وفى الطريق كان المشهد مختلفًا.. مجموعات كبيرة من الناس بدأت تتلاقى فى شارع « بورسعيد»، وصمت الساعة الماضية أصبح أصواتًا متداخلة أستطيع أن أتبين منها اسم «جمال» واسم «ناصر» فى نبرات أقرب إلى الاستغاثة منها إلى الهتاف.. هكذا أحسستها.
فتح أبى أبواب متجره الثلاثة وأضاء أنواره كاملة وبعد قليل توافد عدد من التجار وسكان عقارات مجاورة.. تحدثوا لنحو ساعة فيما يشبه الحلقة وقد خُفضّت الأنوار قبل أن يأخذنى أبى ونغادر تاركًا الأبواب مفتوحة فى تصرف لم يتكرر أبدًا !
فيما بعد وفى السنوات الثلاث التالية بدأت أعى أشياءً تدور حولى أوسع من عالم الطفولة الصغير.. صفارات الإنذار المتقطعة التي تبث الخوف وصفارات الأمان الطويلة.. زجاج الأبواب والشبابيك المدهون باللون الأزرق وعليه شريط لاصق متقاطع.. شكائر الرمل المتراصة أمام البيوت وجدران الطوب المستخدمة كسواتر.. بدروم المدرسة الذي يقودنا المدرسون إليه عند وقوع غارة.. تبرعات المجهود الحربي.. برامج الراديو التي أسمع فيها عبارات تتردد بإصرار: «كلنا جنود» و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».. رسوم تشبه المسخ على الجدران لـ«ديان» و«جولدا مائير» مصحوبة بعبارات ساخطة.. الأستاذ صلاح سويلم يصطحبنا إلى «مدرسة الأقباط» التي يعمل بها مدرسًا للغة الإنجليزية وينظم لقاءات مفتوحة مع الطلاب يتحدث فيها عن العدو الإسرائيلى وصراعنا معه.. حفل مدرستى فى نهاية العام الدراسى الذي تم اختيارى فيه لألقى كلمات أغنية «فدائي» لعبد الحليم حافظ.. أهلنا الجدد الذين جاءوا من مدن القناة ليعيشوا وسطنا وسرعان ما يصبحون أحباءً وأصهارًا.. خطب الرئيس جمال عبد الناصر فى التليفزيون وقد بدأ يستعيد فيها ثقته وعنفوانه.. جريدة الأهرام ومقال «بصراحة» الذي يقرأه أبى ويبسط لى بعض ما كتبه «هيكل».. أخبار الجبهة التي تحولت إلى خبز يومى وصارت تدعو للأمل.
يقول نجم:
وإحنا نبينا كده .. من ضلعنا نابت
لا من سماهم وقع .. ولا من مرة شابت
عمل حاجات معجزة .. وحاجات كتير خابت
وعاش ومات وسطنا .. على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا .. كل الجراح طابت
ولا يطولوه العدا .. مهما الأمور جابت.