
أسامة سلامة
حتى لا يصبح التقاضى لمن استطاع إليه سبيلاً
هل تصبح العدالة للقادرين فقط؟، هذا السؤال شغل أذهان الكثيرين، الأيام الماضية، بعد زيادة الرسوم القضائية التى أقرتها محاكم الاستئناف على الدعاوى الأستئنافية وبدأ تطبيقها بالفعل؟، رؤساء المحاكم يقولون إنها ليست رسوما لكنها مقابل خدمات، ولهذا لم يصدر بها قانون وإنما قرار من رؤساء محاكم الاستئناف، والمحامون يقولون إنها رسوم مُقنّعة وأن لديهم أحكاما سابقة صدرت من محاكم مجلس الدولة منذ سنوات بأن أى مصاريف خاصة بالتقاضى تعتبر رسوما حتى لو كانت مقابل تصوير أوراق وأحكام القضايا، ولكن أيًّا ما كان اسم هذه الزيادات فإنها بالفعل تُثقل كاهل المواطنين، وقد تؤدى إلى إحجام الفقراء عن إقامة الدعاوى القضائية للحصول على حقوقهم، خاصة عندما يكون قيمة الحقوق المادية مقاربة للأعباء المالية التى سيتكلفها المدعى، لكن ما هى هذه الزيادات التى أدت إلى المشكلة؟، على سبيل المثال: زيادة رسم مراجعة الحوافظ والمستندات المقدمة إلى محاكم الاستئناف إلى 33 جنيها للورقة الواحدة ما يجعل قيمة هذا الرسم فقط يصل فى بعض القضايا إلى عدة آلاف من الجنيهات خاصة فى قضايا المدنى والعمال والتعويضات، وكذلك زيادة قيمة البحث فى الجدول، وأيضا زيادة المبالغ المقررة عند مراجعة حوافظ المستندات واستخراج صور تنفيذية للأحكام، وجميع رسوم الخدمات المميكنة، وغيرها من المصاريف الأخرى، ومثلا رأيت عند محامٍ معروف رسم أمر أداء تم تقديره بـ14900جنيه لتعدد طلبات المدعى، وزوجة مطلوب منها دفع11 ألف جنيه لمطالبتها بقيمة قائمة منقولات بسبعمائة ألف جنيه، وفى الدعاوى العمالية قد تصل رسوم مراجعة الحوافظ إلى ما يتعدى 5 آلاف جنيه، وهو ما يحدث عادة إذا طلبت المحكمة من المحامى لائحة الشركة أو الهيئة التى كان يعمل بها المدعى، لقد تعمدت أن أعطى أمثلة لما يمكن أن يحدث مع الفئات الضعيفة فى المجتمع مثل العامل والموظف والزوجة، وهؤلاء فى الغالب ليس لديهم القدرة المالية للاستمرار فى الدعاوى القضائية، وهو ما قد يصيب مرحلة التقاضى الاستئنافية بالشلل، ولهذا اعترضت نقابة المحامين على هذه الزيادة ورفعت شعار أن «العدالة يجب أن تكون للجميع.. وليست للقادرين فقط»، وقام أعضاؤها بوقفات احتجاجية رددوا فيها هتافات، «نقابة المحامين ترفض زيادة الرسوم»، و«لا لفرض رسوم بدون قانون»، مشيرين إلى رفضهم تحميل المتقاضين أعباء مالية جديدة قد تعرقل حقهم فى اللجوء إلى المحاكم، وتجعل «العدالة متاحة فقط لمن يملك المال»، وأعلن مجلس النقابة أنه سيُصعِّد من احتجاجه بإجراءات أخرى مثل الإضراب الجزئى وعدم حضور الجلسات وقد يصل الأمر إلى الإضراب الشامل ما يعكس حالة الرفض المتصاعد، هذا هو الوضع الذى سيدفع ثمنه المواطن البسيط، فعدم القدرة على إقامة الدعاوى القضائية ستؤدى إلى تآكل ضمانات العدالة، وإذا كان البعض يرى أن المحامين غير مضارين من هذه الزيادات التى سيتحملها المتقاضون، لكن الحقيقة أنهم سيتأثرون لأنهم سيفقدون جزءا من دخلهم نتيجة تراجع المواطنين عن إقامة الدعاوى والتنازل عن حقوقهم، بجانب ذلك فإن نقابة المحامين أكدت فى بيان لها «أن القرار محل الاعتراض يمثل مخالفة صريحة للدستور الذى يشدد على أن فرض أى رسوم أو ضرائب لا يتم إلا من خلال قانون يصدره البرلمان»، مؤكدة أن «مرفق العدالة لا يجب أن يُدار بمنطق الجباية، بل يجب أن تتحمل الدولة نفقاته لضمان حق المواطنين فى التقاضي»، هذا هو الموقف الذى يُنذر بتداعيات خطيرة، فالدستور يؤكد أن حق التقاضى مكفول لكل المواطنين، والمواثيق الدولية تنص على أن التقاضى حق للجميع بصرف النظر عن القدرات المادية، وتؤكد على ضرورة تمكين الجميع من الوصول للمحاكم والمساواة التامة أمام القضاء من دون تمييز، فالأصل هو مجانية العدالة وعدم تسليعها، لكن زيادة الرسوم قد تؤدى إلى عدم قدرة المواطن الفقير إلى اتخاذ إجراءات قضائية من أجل الحصول على حقوقه التى قد تقل عن المصاريف القضائية الجديدة، أو على الأقل ستتآكل بسببها ما يجعل الحصول على حقه غير مجدٍ، والخوف أن يؤدى ذلك إلى ردود أفعال عنيفة مثل الحصول على الحقوق بالقوة بسبب عدم القدرة على اللجوء للقضاء وحماية الحقوق بالقانون، كما أنه من المتوقع أن يتم تزايد الجلسات العرفية كبديل للقضاء المدنى الطبيعى وهو ما يُخرجنا من حالة الدولة الحديثة ويعيدنا خطوات للوراء، الأخطر أن المواطن البسيط غير القادر سيشعر بأنه ليس فى حماية القانون رغم أن ذلك أبسط حقوقه ما يفقده إيمانه بالعدالة ويُقلل شعوره بالانتماء، حق التقاضى ليس حقًّا مجردًا كما يقول المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة الذى يترأسه الخبير القانونى البارز والمحامى اللامع ناصر أمين «فالدولة مسئولة عن ضمان القانون وتمكين غير القادرين ماليا على ممارسة حقهم ويعنى ذلك إعفاء غير القادرين من الرسوم، كما يجب تمكينهم من الدفاع عن حقوقهم» ويرى «أن عمل المحاكم يجب أن يظل بعيدا عن معايير الاستثمار فتحقيق العدالة هدف سامٍ يختلف جذريا عن هدف الاستثمار الذى يحول التقاضى إلى صناعة تدر أموالا على الأطراف الفاعلة فيها على حساب المتقاضين»، أعتقد أنه مطلوب من رؤساء المحاكم وهم عنوان العدالة وحماتها أن يعيدوا النظر فى هذه الرسوم وأن تتم مناقشتها من جديد مع مجلس نقابة المحامين وعدد من القضاة السابقين والمجلس القومى لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدنى للوصول إلى حل يرضى جميع الأطراف ويحافظ على مبدأ العدالة للجميع.