الأحد 20 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الدكتور يحيى

الدكتور يحيى

هل ندرك حقًا قيمة ومعنى وأهمية أن يكون بيننا «يحيى الفخرانى» مبدعًا لا يتوقف عن إدهاشنا، عابرًا كل الحدود.. متجاوزًا جميع المقاييس.. قادرًا دائمًا على تجسيد المثل الأعلى أداءً ورسالةً وعطاء ً لا ينتهى.. وقبل هذا وبعده إنسانًا كبيرًا، شرفًا وخُلقًا وضميرًا وعقلًا وهَّاجًا.



يستحق «الدكتور يحيى» أن تُكتب مؤلفات عن سيرته الإبداعية.. وأن يُدرّس فى المعاهد العلمية تكنيكه ومهاراته المتفردة فى تبدل الأدوار وتحولات الشخصيات ومعايير الاختيار والتقييم.

يستحق هذا وأكثر لو أن الحركة النقدية والوعى البحثى والأكاديمى بخير، ولو أن الجهات المسؤولة عن الثقافة والفن عمومًا فى مصر مدركة لحجم وقيمة الثروة الإبداعية التي نملكها (ولا يملكها سوانا) وعالمة بمدى تنوعها وعمقها التاريخى وقدرتها على التجدد والاستمرار تحت أصعب الظروف.. لكننا غارقون فى القشور وفى توافه الأمور وفى الثرثرة حول الصغائر والترويج للرداءة، ومنشغلون بأحوال وأقوال جهلة وأنصاف متعلمين، ومتنطعين وعاطلين عن الموهبة أحيانًا من أدعياء الفن وبائعيه المتجولين، ومنتحلى صفة النجومية والباحثين عن الشهرة بأى ثمن والجوعى إلى جمع الأموال بأى طريقة، مهما ابتذلوا أنفسهم وأهانوا كرامتهم وكرامة فن عظيم ينتسبون إليه بوضع اليد وبالأمر الواقع.

نحن للأسف منشغلون بذلك أكثر بكثير من احتفائنا بالمواهب الحقيقية الواعدة واحتضانها (لا المتاجرة فيها) وأكثر بكثير من تقديرنا الواجب لمبدعين من كل الأجيال يقدمون فنًا رائعًا.

 

تلك قضية تحتاج نقاشًا موسعًا إن كان لدينا بقية من يقظة وبقية من اهتمام وجدية، وبقية من إرادة قد تجنبنا الدخول فى غيبوبة كاملة لا يصدر عنا فيها سوى الهذيان.

«يحيى الفخرانى» هو بالضبط المثال العكسى الحى لكل ذلك.. ولست الآن فى موضع الكتابة عن عظمة موهبته وعبقرية أدائه وسطوة حضوره، فتلك درجات يمنحها الله لمن يشاء، ولكن الحفاظ عليها والصعود بها هو وعى وسعى للكمال، وإرادة شخصية وصبر ودأب سنوات تمنح الخبرة والنضج.

ما أريد التوقف أمامه هو شخصية الفنان وصورته الذهنية.. و«الفخرانى» هنا ليس نموذجًا لنفسه فقط ولكن لمبدعين كثيرين غيره، بعضهم رحلوا عنا وبعضهم يعيش بيننا وهم ليسوا من جيل واحد..قد يختلفون فى التفاصيل والأساليب والتوجهات قطعًا لكن طريقهم واحد، وهو الطريق الذي صنعوه وأصبحوا فيه (أو سيصبحون) العلامات التي صنعت اسم وسمعة وقيمة وخلود الفن المصري.

«الدكتور يحيى» الطبيب الذي أخذه الفن فاحترفه، وعاش له عمره ليبهجنا ويمتعنا ويبهرنا ويشكل جزءًا جميلًا وأصيلًا وغاليًا وعابرًا للأجيال من وجدان كل مشاهد عربى.

قد لايتسع المجال لكن هناك إشارات لا تخطئها عين ولا يتجاهلها عقل: 

أولًا: هل يمكن أن تجتمع القيمة والرسالة والمستوى الأرقى للفن مع الجماهيرية الكاسحة والعائد الاقتصادى للعمل الفنى؟

«الفخرانى» يفعل ذلك دائمًا وينجح فيه دائمًا وعبر جميع مراحله الفنية.. بل وبنسبة قياسية، وربما يجوز هنا أن أستدعى ما قاله لى يومًا فنان عظيم هو الأستاذ نور الشريف عندما سألته عن أفلام متواضعة عديدة قام ببطولتها لا ترقى لمستوى أفلامه التي صنعت اسمه وأصبحت من جواهر السينما المصرية.. يومها قال لى وهو يضرب المثل بـ«أنتونى كوين»:  «يمكنك أن تقدم أفلامًا بسيطة أو متواضعة نسبيًا لتتواجد وتعيش وتنفق على الفن الذي تريد تقديمه، ففى النهاية أى ممثل فى العالم لو وجدنا له 10 أو 15 فيلم علامات حقيقية سنكون أمام ممثل عظيم».

الفخرانى فى  ظنى كسر هذه النسبة فالغالبية العظمى من أعماله علامات حقيقية، فى الدراما والمسرح كما فى السينما، وأغلبها نجح تجاريًا.

ثانيًا: «الدكتور يحيى» صاحب مشروع ورسالة ويدرك جيدًا - منذ بداياته - تأثير الفن على المجتمع، وأن ذلك ليس معناه أن تقدم فنًا توجيهيًا أو مباشرًا مليئًا بالشعارات أو يخاصم نسب المشاهدة والأرقام.. وليس صدفة فى ذلك أن مساره مرتبطً بأسماء رفيعى المستوى من أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبدالقوى ووحيد حامد إلى عبد الرحيم كمال، أو باختياره لنصوص عن أصول أدبية مصرية وعالمية من شكسبير وطه حسين ويوسف إدريس إلى إبراهيم عبدالمجيد، متنقلًا من الكوميدى إلى التراجيدى وما بينهما.

ثالثًا:  بشخصه وصفته وبأفعاله ودون ادعاء أو تعمد أو مزايدة يقدم «يحيى الفخرانى» قدوة تُحتذى دائمًا.. ليس فقط فى احترامه لاسمه وترفعه عن المهاترات والمعارك الصغيرة والسير فى القطيع، وليس فقط فى الصورة الذهنية الراقية الهادئة لعائلته ونمط حياته الخالى تمامًا من المظهرية والبذخ.. ولكن أيضًا -وهذا هو الأهم- فى علاقته بالفن ونظرته إليه ومسؤوليته تجاهه، ويكفيه أنه وهو الأعلى أجرًا قرر أن يكون الفنان الوحيد الذي قدم رائعة شكسبير «الملك لير» على المسرح ثلاث مرات على مدى 25 عامًا بصرف النظر عن الرقم الذي يتقاضاه، وهو ما كرره فى نص «ليلة من ألف ليلة» وكأنه فى كل مرة يعطى قبلة حياة جديدة للمسرح ومثلًا مغايرًا لحالة السعار المادى السائدة بين من يعتبرون أنفسهم نجومًا.. وقد كنت شاهدًا أكثر من مرة على أعمال أخرى اختار أن يقدمها بأجر أقل لأنه يريدها بالذات وبأسلوب فنى معين.

أخيرًا لا تندهش أن الدكتور يحيى الفخرانى لم يحصل أبدًا على جائزة النيل ولا جائزة الدولة التقديرية! فالمنطق والعقل والعدل ليس لديهم إجابة!