الأحد 20 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
شماعة عبدالناصر لا تصلح لبناء المستقبل!‏

شماعة عبدالناصر لا تصلح لبناء المستقبل!‏

بالمصادفة حضرت عيد ميلاد صديق عزيز، أستاذ فى علم التاريخ، يدير مؤسسة ثقافية ‏مهمومة طوال الوقت بالبحث فى أحوال المصريين وكيفية خروجهم من «أزمتهم الحضارية» ‏التى طالت إلى نور المعرفة والتقدم، وبعد إطفاء الشموع والتهليل والتورتة انخرط ‏الحاضرون دون سبب فى حوار سياسى أفسد عليهم بهجة اللحظة المرحة، فالحوار فى ‏السياسة، فى كثير من الأحيان، يشبه مدرجات الدرجة الثالثة فى ملاعب كرة القدم، صخب ‏وضجيج وهتافات وقليل من الكلام العاقل، مع أن أصل وظيفة السياسة هى صناعة البدائل ‏التى يمكن أن يتفق عليها المجتمع لتحقيق مصالحه فى الأمن والمعيشة الجيدة، فكيف تكون ‏حوارات الناس فيها صراخا فى البرية؟



المهم أن مهندسا مرموقا من الضيوف، عاشقا للحضارة الغربية وأساليب معيشتها، راح ‏يحدثنا عن تاريخ الغرب والولايات المتحدة وكيف يتعلم الغربيون من تجاربهم فلا يكررون ‏أخطاءهم، بينما نحن غالبا لا نتعلم من تجاربنا الفاشلة ونعيدها بحذافيرها، وكان كلامه ‏صحيحا إلى حد كبير، فالحضارة الغربية فعلا تستحق تقديرنا، ويجب أن نتعلم منها، لكن ‏دون أن نذوب فيها ونتلاشى خاصة أنها حضارة ملوثة الضمير والأخلاق، ليس فقط بسبب ‏دماء الفلسطينيين التى تجرى على أيدى قاداتها، أو سكوت أهلها على جرائم التطهير العرقى ‏التى ترتكبها إسرائيل فى غزة، وإنما لأنها حضارة ذات تاريخ سافل فى نهب ثروات ثلاثة ‏أرباع سكان الكرة الأرضية على مدى قرون، وقتل مئات الملايين من البشر الذين حاربوا ‏الاستعمار الغربى دفاعا عن حريتهم واستقلال بلدانهم، ناهيك عن عمليات إبادة للسكان ‏الأصليين فى الأمريكتين، وحروب لا تتوقف فى أربعة أرجاء المعمورة، منها حربان ‏عالميتان فى 25 سنة فقط.. إلخ. ‏

ولم يجد المهندس المرموق دليلا على خيبتنا سوى تجربة جمال عبدالناصر وثورة يوليو، ‏وأن المشكلات القابضة على رقبة مصر الآن هى نتاج سياساته وأفكاره، من أول تفتيت ‏الأرض الزراعية بقانون الإصلاح الزراعى إلى قانون الإيجارات القديم وحتى حملة الإبادة ‏الإسرائيلية على غزة!‏

لم أقطع حديثه، ولم أهتم وقلت فى نفسى: يبدو أن العزف الهجائى على عبدالناصر والثورة ‏قد بدأ، ألسنا فى شهر يوليو؟، ويوما بعد يوم سوف يزاد العزف الهجائى على صفحات ‏التواصل الاجتماعى وبعض الجرائد والبرامج التليفزيونية!‏

استفزه عدم اهتمامى، فسألنى بغضب خفيف يبدو كالهزار: كلامى لا يعجبك.. هل أنت ‏ناصرى؟

ضحكت وقلت عابثا: قليل من الاختلاف فى الآراء يصلح العقل، فاختلاف الأفكار مثل ‏اختلاف الأطعمة مفيد للصحة النفسية!‏

أغاظه ردى، فقال بعصبية: كل الناصريين متشابهون، متجمدون عند الزعيم ولا يستطيعون ‏مغادرة أفكاره!‏

حافظت على ابتسامتى الساخرة وقلت: لم أنل الشرف فى أن أُضبط يوما فى أى مقر من ‏مقرات أى حزب ناصرى، ولم أشارك بتاتا فى أى نشاط سياسى ناصرى، ولا أحب «التجمد» ‏فطبيبى يمنعنى من تناول المثلجات، كما أننى أحب التغيير والتحليق مثل العصافير بين ‏أشجار الأفكار المختلفة..وأود أن أسألك سؤالا بسيطا وساذجا: من كم سنة مات جمال عبدالناصر؟

سألنى بدوره: ماذا تعنى؟

قلت: أنت تحاسب رجلا على مشكلات آنية وهو مات من 55 سنة، كان عدد سكان مصر ‏وقتها 30 مليون نسمة، نحن الآن مائة وسبعة ملايين نسمة حسب إحصاءات يناير 2025، ‏منهم تسعة ملايين ونصف المليون فقط فوق الستين، يعنى نحن نتحدث عن أكثر من 95 ‏مليون مصرى ولدوا وعاشوا وترعرعوا بعد رحيل عبدالناصر وفى بيئة مختلفة عن التى ‏ساهم فيها عبدالناصر، هل هؤلاء المصريون ضلوا الطريق إلى كهف وحبسوا أنفسهم داخله ‏فلم يصنعوا شيئا مختلفا فى حياتهم طوال هذه المدة؟، لقد تغيرت حكومات وسياسات، ولم يبق ‏من إرث عبدالناصر إلا الضئيل جدا، وأتصور لو كنا حافظنا على مكتساباته الاجتماعية ‏والاقتصادية وطورناها بما يلائم ظروفنا ومتغيرات حياتنا، لكنا أحسن حالا وأقل وجعا!‏

وعموما نحن فى سهرة مرح، فلا تهدرها ودع عنك الجدل ومحاسبة الأموات.‏

تركت الحفل وعقلى لا يتوقف عن التفكير والتساؤلات، فشهر يوليو كما هى العادة، هو شهر ‏الجدل عن عبدالناصر والثورة، فعلا نحن مجتمع الحسابات القديمة والعادات القدمية ‏والأفكار القديمة والصور القديمة، ونغفل أن القديم مجرد تجربة وتنتهى بكل ما فيها من ‏مثالب ومآثر، والحياة حركة دائبة،فإذا توقف مجتمع ما عند تاريخ وتجربة سواء بالمدح أو ‏بالذم فقد حكم على نفسه بالتخلف، والهروب من عصره، الزمن قطار سريع على قضبان ‏ممتدة بلا نهاية، ومن لا يركبه يفوته الزمان حضاريا بمسافات أكثر مما يتصور.

فى نفس عام رحيل جمال عبدالناصر عن عالمنا سنة 1970، أصدر عالم الاجتماع الأمريكى ‏العبقرى «ألفين توفلر» كتابه الأول «صدمة المستقبل» من ثلاثيته البديعة التى أتمها ‏بـ«الموجة الثالثة»، ثم «تحول السلطة»، ورسم فيها ملامح عالم المعرفة القادم، وأن المعرفة ‏ستُحدث تحولا هائلا فى بنية حياة الناس اقتصايا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، بشكل غير ‏مسبوق فى تاريخ البشر، فكيف يخرج علينا البعض بعد 55 سنة يقولون لنا إن المشكلات ‏التى نعيشها هى «بنت شرعية» لزمن قديم انتهى وجوده فعليا!‏

هل من يُحمل عبدالناصر المسئولية والأسباب قرأ كتابا فى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع ‏والحضارة؟

هل علم أن أدولف هتلر ارتكب جريمة كبرى فى حق ألمانيا بالزج بها فى حرب عالمية هو ‏الذى أشعلها، وخرجت منها حطاما مفلسة، فلم يتوقف الألمان عندها، ولم يسكنوا فى نتائجها ‏الكارثية وأعادوا بناء ألمانيا وجعلوا منها دولة كبرى فى أقل من عشرين سنة، بل فازوا ‏بكأس العالم لكرة القدم عام 1954، أى بعد تسع سنوات فقط من هزيمتها وتقسيمها إلى ‏دولتين معاديتين؟

واليابانيون صنعوا نفس الشىء، وربما كان موقفهم أصعب، إذ انزلقوا إلى الحرب بقرار غبى ‏من نظام عسكرى يقوده شبه إله، بضرب الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر، فضربتهم ‏أمريكا بقنبلتين ذريتين، لم يجلس اليابانيون يعضون أصابع الندم على قرار كارثى، وعملوا ‏بعد الساعة التالية لتوقيع وثيقة الاستسلام على إزالة الدمار وإعادة البناء.

ومثل ألمانيا واليابان عشرات بل مئات التجارب الإنسانية منذ بزوغ حضارة مصر القديمة ‏إلى سيادة حضارة العم سام، فكيف لمجتمع يقال إن رئيسه أو زعيمه اتخذ قرارات خاطئة، أن ‏يتمسك بنتائجها ولا يصلحها، ولا يستطيع أن يتجاوز سلبياتها لأكثر من خمسين سنة، انقبلت ‏فيها الكرة الأرضية رأسا على عقب، فتخلصت الصين من فقرها إلى الأبد، وصار دخل الفرد ‏فى سنغافورة من الأعلى فى العالم وكانت جزرا للقراصنة والمخدرات وفتيات الليل، وتفوقت ‏كوريا فى إنتاج الإلكترونيات، وأضف إليهم فيتنام وإسبانيا وإندونيسيا والبرازيل.. إلخ.‏

لكن عندنا.. ما زال عبدالناصر هو السبب..‏

هذا نوع من الغش التاريخى والبذاءة الثقافية، وقطعا لا أدافع عن جمال عبدالناصر، فالناس ‏البسطاء حسموا الصراع حوله، فقط أحبه وأثق فى أفكار كثيرة قالها، مثل هؤلاء البسطاء ‏الذين عرفوا معنى العدالة الاجتماعية لأول مرة فى عصره، وهو من توسع فى إدخال أبناء ‏الفلاحين والطبقة الوسطة الدنيا إلى الجامعات، ومات ومصر لا تعرف مراكز الدروس ‏الخصوصية ولا الغش الجماعى.. إلخ.‏

باختصار لا يجوز أن نحاسب عبدالناصر بأثر رجعى، حفاظا على وعينا وعقولنا من ‏التشوش، بالقطع له أخطاء فى حجم زعامته ودوره، وحياتنا الحالية نحن المسئولين عنها!‏