
نبيل عمر
شماعة عبدالناصر لا تصلح لبناء المستقبل!
بالمصادفة حضرت عيد ميلاد صديق عزيز، أستاذ فى علم التاريخ، يدير مؤسسة ثقافية مهمومة طوال الوقت بالبحث فى أحوال المصريين وكيفية خروجهم من «أزمتهم الحضارية» التى طالت إلى نور المعرفة والتقدم، وبعد إطفاء الشموع والتهليل والتورتة انخرط الحاضرون دون سبب فى حوار سياسى أفسد عليهم بهجة اللحظة المرحة، فالحوار فى السياسة، فى كثير من الأحيان، يشبه مدرجات الدرجة الثالثة فى ملاعب كرة القدم، صخب وضجيج وهتافات وقليل من الكلام العاقل، مع أن أصل وظيفة السياسة هى صناعة البدائل التى يمكن أن يتفق عليها المجتمع لتحقيق مصالحه فى الأمن والمعيشة الجيدة، فكيف تكون حوارات الناس فيها صراخا فى البرية؟
المهم أن مهندسا مرموقا من الضيوف، عاشقا للحضارة الغربية وأساليب معيشتها، راح يحدثنا عن تاريخ الغرب والولايات المتحدة وكيف يتعلم الغربيون من تجاربهم فلا يكررون أخطاءهم، بينما نحن غالبا لا نتعلم من تجاربنا الفاشلة ونعيدها بحذافيرها، وكان كلامه صحيحا إلى حد كبير، فالحضارة الغربية فعلا تستحق تقديرنا، ويجب أن نتعلم منها، لكن دون أن نذوب فيها ونتلاشى خاصة أنها حضارة ملوثة الضمير والأخلاق، ليس فقط بسبب دماء الفلسطينيين التى تجرى على أيدى قاداتها، أو سكوت أهلها على جرائم التطهير العرقى التى ترتكبها إسرائيل فى غزة، وإنما لأنها حضارة ذات تاريخ سافل فى نهب ثروات ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية على مدى قرون، وقتل مئات الملايين من البشر الذين حاربوا الاستعمار الغربى دفاعا عن حريتهم واستقلال بلدانهم، ناهيك عن عمليات إبادة للسكان الأصليين فى الأمريكتين، وحروب لا تتوقف فى أربعة أرجاء المعمورة، منها حربان عالميتان فى 25 سنة فقط.. إلخ.
ولم يجد المهندس المرموق دليلا على خيبتنا سوى تجربة جمال عبدالناصر وثورة يوليو، وأن المشكلات القابضة على رقبة مصر الآن هى نتاج سياساته وأفكاره، من أول تفتيت الأرض الزراعية بقانون الإصلاح الزراعى إلى قانون الإيجارات القديم وحتى حملة الإبادة الإسرائيلية على غزة!
لم أقطع حديثه، ولم أهتم وقلت فى نفسى: يبدو أن العزف الهجائى على عبدالناصر والثورة قد بدأ، ألسنا فى شهر يوليو؟، ويوما بعد يوم سوف يزاد العزف الهجائى على صفحات التواصل الاجتماعى وبعض الجرائد والبرامج التليفزيونية!
استفزه عدم اهتمامى، فسألنى بغضب خفيف يبدو كالهزار: كلامى لا يعجبك.. هل أنت ناصرى؟
ضحكت وقلت عابثا: قليل من الاختلاف فى الآراء يصلح العقل، فاختلاف الأفكار مثل اختلاف الأطعمة مفيد للصحة النفسية!
أغاظه ردى، فقال بعصبية: كل الناصريين متشابهون، متجمدون عند الزعيم ولا يستطيعون مغادرة أفكاره!
حافظت على ابتسامتى الساخرة وقلت: لم أنل الشرف فى أن أُضبط يوما فى أى مقر من مقرات أى حزب ناصرى، ولم أشارك بتاتا فى أى نشاط سياسى ناصرى، ولا أحب «التجمد» فطبيبى يمنعنى من تناول المثلجات، كما أننى أحب التغيير والتحليق مثل العصافير بين أشجار الأفكار المختلفة..وأود أن أسألك سؤالا بسيطا وساذجا: من كم سنة مات جمال عبدالناصر؟
سألنى بدوره: ماذا تعنى؟
قلت: أنت تحاسب رجلا على مشكلات آنية وهو مات من 55 سنة، كان عدد سكان مصر وقتها 30 مليون نسمة، نحن الآن مائة وسبعة ملايين نسمة حسب إحصاءات يناير 2025، منهم تسعة ملايين ونصف المليون فقط فوق الستين، يعنى نحن نتحدث عن أكثر من 95 مليون مصرى ولدوا وعاشوا وترعرعوا بعد رحيل عبدالناصر وفى بيئة مختلفة عن التى ساهم فيها عبدالناصر، هل هؤلاء المصريون ضلوا الطريق إلى كهف وحبسوا أنفسهم داخله فلم يصنعوا شيئا مختلفا فى حياتهم طوال هذه المدة؟، لقد تغيرت حكومات وسياسات، ولم يبق من إرث عبدالناصر إلا الضئيل جدا، وأتصور لو كنا حافظنا على مكتساباته الاجتماعية والاقتصادية وطورناها بما يلائم ظروفنا ومتغيرات حياتنا، لكنا أحسن حالا وأقل وجعا!
وعموما نحن فى سهرة مرح، فلا تهدرها ودع عنك الجدل ومحاسبة الأموات.
تركت الحفل وعقلى لا يتوقف عن التفكير والتساؤلات، فشهر يوليو كما هى العادة، هو شهر الجدل عن عبدالناصر والثورة، فعلا نحن مجتمع الحسابات القديمة والعادات القدمية والأفكار القديمة والصور القديمة، ونغفل أن القديم مجرد تجربة وتنتهى بكل ما فيها من مثالب ومآثر، والحياة حركة دائبة،فإذا توقف مجتمع ما عند تاريخ وتجربة سواء بالمدح أو بالذم فقد حكم على نفسه بالتخلف، والهروب من عصره، الزمن قطار سريع على قضبان ممتدة بلا نهاية، ومن لا يركبه يفوته الزمان حضاريا بمسافات أكثر مما يتصور.
فى نفس عام رحيل جمال عبدالناصر عن عالمنا سنة 1970، أصدر عالم الاجتماع الأمريكى العبقرى «ألفين توفلر» كتابه الأول «صدمة المستقبل» من ثلاثيته البديعة التى أتمها بـ«الموجة الثالثة»، ثم «تحول السلطة»، ورسم فيها ملامح عالم المعرفة القادم، وأن المعرفة ستُحدث تحولا هائلا فى بنية حياة الناس اقتصايا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، بشكل غير مسبوق فى تاريخ البشر، فكيف يخرج علينا البعض بعد 55 سنة يقولون لنا إن المشكلات التى نعيشها هى «بنت شرعية» لزمن قديم انتهى وجوده فعليا!
هل من يُحمل عبدالناصر المسئولية والأسباب قرأ كتابا فى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والحضارة؟
هل علم أن أدولف هتلر ارتكب جريمة كبرى فى حق ألمانيا بالزج بها فى حرب عالمية هو الذى أشعلها، وخرجت منها حطاما مفلسة، فلم يتوقف الألمان عندها، ولم يسكنوا فى نتائجها الكارثية وأعادوا بناء ألمانيا وجعلوا منها دولة كبرى فى أقل من عشرين سنة، بل فازوا بكأس العالم لكرة القدم عام 1954، أى بعد تسع سنوات فقط من هزيمتها وتقسيمها إلى دولتين معاديتين؟
واليابانيون صنعوا نفس الشىء، وربما كان موقفهم أصعب، إذ انزلقوا إلى الحرب بقرار غبى من نظام عسكرى يقوده شبه إله، بضرب الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر، فضربتهم أمريكا بقنبلتين ذريتين، لم يجلس اليابانيون يعضون أصابع الندم على قرار كارثى، وعملوا بعد الساعة التالية لتوقيع وثيقة الاستسلام على إزالة الدمار وإعادة البناء.
ومثل ألمانيا واليابان عشرات بل مئات التجارب الإنسانية منذ بزوغ حضارة مصر القديمة إلى سيادة حضارة العم سام، فكيف لمجتمع يقال إن رئيسه أو زعيمه اتخذ قرارات خاطئة، أن يتمسك بنتائجها ولا يصلحها، ولا يستطيع أن يتجاوز سلبياتها لأكثر من خمسين سنة، انقبلت فيها الكرة الأرضية رأسا على عقب، فتخلصت الصين من فقرها إلى الأبد، وصار دخل الفرد فى سنغافورة من الأعلى فى العالم وكانت جزرا للقراصنة والمخدرات وفتيات الليل، وتفوقت كوريا فى إنتاج الإلكترونيات، وأضف إليهم فيتنام وإسبانيا وإندونيسيا والبرازيل.. إلخ.
لكن عندنا.. ما زال عبدالناصر هو السبب..
هذا نوع من الغش التاريخى والبذاءة الثقافية، وقطعا لا أدافع عن جمال عبدالناصر، فالناس البسطاء حسموا الصراع حوله، فقط أحبه وأثق فى أفكار كثيرة قالها، مثل هؤلاء البسطاء الذين عرفوا معنى العدالة الاجتماعية لأول مرة فى عصره، وهو من توسع فى إدخال أبناء الفلاحين والطبقة الوسطة الدنيا إلى الجامعات، ومات ومصر لا تعرف مراكز الدروس الخصوصية ولا الغش الجماعى.. إلخ.
باختصار لا يجوز أن نحاسب عبدالناصر بأثر رجعى، حفاظا على وعينا وعقولنا من التشوش، بالقطع له أخطاء فى حجم زعامته ودوره، وحياتنا الحالية نحن المسئولين عنها!