
هاني لبيب
مصر أولا.. ترامب فى السعودية.. تحالفات الصفقة الأخيرة.. وخريطة الشرق الأوسط القديم الجديد!
تمثل زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية مع بداية ولايته الثانية تطوُّرًا محوريًا فى العلاقات الأمريكية- الخليجية حديثًا.. خاصة فى ظل التحولات العالمية والإقليمية التى تشكل ملامح النظام الدولى الجديد. زيارة ترامب هذه المرة إلى السعودية تحمل أبعادًا مغايرة عن الزيارة الأولى، لكونها تأتى فى ظل تحديات داخلية وأزمات خارجية متشابكة وبالغة التعقيد تواجه دول الإقليم، من بينها التحديات الاقتصادية، والتحولات الجيوسياسية، والصراعات الممتدة فى الشرق الأوسط.
تميزت ولاية ترامب الأولى بالتمسك بشعار «أمريكا أولًا»، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية، والتوجه نحو السياسات الحمائية، مما أعاد النظر إلى المفهوم التقليدى للقيادة الأمريكية للعالم. أما فى ولايته الثانية، فقد بدا أن ترامب أكثر واقعية وانخراطًا فى الملفات الدولية، وبشكل مباشر مع الشرق الأوسط.
على صفيح ساخن
ملفات المنظفة متشابكة ومشتعلة لدرجة لم تصل إليها المنطقة من قبل. وعلى سبيل المثال فى الملفات التالية:
1- الملف الفلسطينى- الإسرائيلى: حيث يصرح ترامب برغبته فى إغلاق ملف الصراعالفلسطينى- الإسرائيلى من خلال صفقة اقتصادية، وليس مجرد تسوية سياسية. وهو ما يؤكد أن زيارته تحمل ضغوطًا متزايدة على دول المنطقة.. للمزيد من الانخراط فى التطبيع مع إسرائيل.. رغم غياب حل عادل للقضية الفلسطينية.
2- الملف السورى: بعد أن تحولت سوريا إلى ملعب مفتوح لسيطرة النفوذ الإيرانى والروسى، فى مقابل انكماش الدور الأمريكى. يستهدف ترامب من خلال هذه الزيارة استغلال التأثير السعودى فى إعادة إدماج النظام السورى فى المنظومة العربية بدون مشروع سياسى واضح.
3- الملف اليمنى: تعيد زيارة ترامب تجديد الدعم الأمريكى للسعودية فى حربها ضد جماعة الحوثيين، ومع استخدام سياسات جديدة.. تعتمد على تشديد الحصار على إيران بدلًا من الانخراط العسكرى المباشر.
4- الملف الإيرانى: الذى ستظل فيه إيران تمثل التهديد الاستراتيجى الأول، وهو ما جعل ترامب يوظف هذه الزيارة لبناء محور إقليمى مضاد لطهران من خلال التحالف مع دول الخليج وتعزيز التسليح وسيطرة التكنولوجيا الدفاعية الأمريكية فى المنطقة.
رسائل مزدوجة وتحولات غير معتادة
طرحت مقابلات الإدارة الأمريكية غير المعلنة مع مسئولين سوريين بارزين العديد من التساؤلات حول دلالات مثل هذه اللقاءات فى سياق ما قبل الزيارة إلى السعودية. هذه اللقاءات التى لم يعلن عنها رسميًا من الجانب الأمريكى، تحمل فى طياتها تحولات غير معتادة فى المقاربة الأمريكية تجاه الملف السورى. والتمهيد للقاء ترامب بالقيادة السورية الحالية.
وبالتالى، يمكن قراءة مثل هذه اللقاءات على اعتبار أنها جزء من «الدبلوماسية الواقعية الباردة» التى ينتهجها ترامب فى ولايته الثانية، وهى تجاوز المبادئ الأخلاقية لصالح تثبيت نفوذ القوة الأمريكية حتى لو عبر مدخل المصالحة مع الأنظمة التى كانت تصنف.. حتى وقت قريب كأعداء.
ومن جهة أخرى، تمثل هذه الخطوة الأمريكية التكتيكية جزءًا من صفقة إقليمية كبيرة، قد تتضمن «إعادة تأهيل» للنظام السورى مقابل تقليص النفوذ الإيرانى فى دمشق، وهى رغبة سعودية وأمريكية مشتركة.
ولذا تعكس مثل هذه اللقاءات.. استعدادًا أمريكيًا لفتح قنوات حوار وتفاوض مع النظام السورى.. طالما اقتضت المصالح ذلك، وهو مؤشر على أن مرحلة إسقاط بشار الأسد قد أصبحت من الماضى السياسى فى الاستراتيجية الغربية، وتم استبدالها برواية احتواء النفوذ الإيرانى عبر النظام الحالى نفسه.
التطبيع أو الانفجار
أدرك دونالد ترامب أن تطبيع دول الخليج مع إسرائيل سيكون بمثابة التتويج النهائى لمشروع اتفاقات أبراهام (المنسوب لقصة الأديان الإبراهيمية). ويسعى فى سبيل ذلك إلى تصدير قبول التطبيع التدريجى غير معلن، مقابل ضمانات أمنية واقتصادية كبرى، وبنود واضحة فيما يتعلق بالملف الفلسطينى.
سباق التنين
تأتى زيارة ترامب فى توقيت شديد الحساسية من التنافس الدولى على العلاقات مع دول الخليج، خاصة من الصين التى تدعم وجودها من خلال مبادرة «الحزام والطريق». وخلال زيارته للسعودية، سيعمل ترامب على إعادة تقويض نفوذها، وتقديم بدائل للشراكات الصينية بشكل مباشر فى مجالات الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والأمن السيبرانى.
دبلوماسية البترودولار
أصبحت دول الخليج خلال السنوات الأخيرة تمتلك القدرة على المناورة والتحرك الاستراتيجى. وربما تكون زيارة ترامب تمثل اعترافًا ضمنيًّا بهذا التحول، ومحاولة لتجديد التحالف بناء على المصالح المتبادلة المتوافق عليها ليحقق كل طرف منها أهدافه.
أثبتت السعودية بهذه الزيارة أنها مركز ثقل اقتصادى وسياسى، يمكن من خلال شراكته مع واشنطن تحقيق توازنات سياسية واستراتيجية جديدة.
ربح من غير حرب
سياسيًا، تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى إعادة توجيه البوصلة الإقليمية، وتحجيم الخصوم عبر حلفائها لا عبر التورط العسكرى المباشر. هذه الاستراتيجية تمنحها نفوذًا وتأثيرًا أكبر بأقل تكلفة. كما تفتح الزيارة الباب أمام توقيع عقود صفقات دفاعية وتجارية كبرى، كما تضمن استمرار تدفُّق الاستثمارات الخليجية فى قطاعات أمريكية استراتيجية.
حليف فى المعادلة
تحصد السعودية مكاسب سياسية من خلال إعادة مكانتها كشريك أساسى ورئيسى فى أمن الخليج واستقرار أسواق الطاقة. كما أنها تسعى لاستثمار هذه الشراكة فى تنفيذ مشاريعها التنموية الكبرى، وترسيخ مكانتها كدولة محورية فى الاقتصاد العالمى، عبر مشروعات كبرى، مثل: نيوم والتحول الرقمى.
اتفاقات أبراهام.. التطبيع الجديد
ضمن أحد أهم محاور هذه الزيارة، هو استدعاء «اتفاقات أبراهام»، والتى تم توقيعها فى ولاية ترامب الأولى. وهو ليس استدعاء لفكرة تمثل رمزا دبلوماسيا، لكن كأداة لإعادة هيكلة شكل التحالفات فى إقليم الشرق الأوسط. ويظل السؤال الأساسى: هل يمكن إعادة تفعيل «اتفاقات أبراهام» دون تسوية حقيقية عادلة للقضية الفلسطينية؟ وهل يمكن أن تتقبل الشعوب العربية هذا الشكل من التطبيع غير المشروط حسب رؤية ترامب؟! وإذا كان ترامب يراهن على التحالف الاستراتيجى القادم بين السعودية وإسرائيل، فإنه قد يواجه مقاومة واسعة المجال ما لم يتم ربط التطبيع والتحالفات المرتقبة بخطوات حقيقية نحو بقاء الشعب الفلسطينى.
صفقات وتحولات
قطعًا، زيارة الرئيس الأمريكى ترامب إلى السعودية ليست مجرد زيارة دبلوماسية، بل هى مرحلة مختلفة جديدة فى العلاقات الدولية لتاريخ إقليم الشرق الأوسط الجديد والحديث. إنه اختبار لقدرة دول الخليج على القيام بدور مستقل متوازن فى النظام العالمى الجديد. والرهان سيكون على مدى تخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن عقلية «المستفيد الوحيد» إن أرادت الحفاظ على تأثيرها ووجودها ومكاسبها.
براجماتية النفوذ والسيطرة
تؤكد زيارة ترامب إلى السعودية.. أن الشرق الأوسط ما زال أحد أركان الاستراتيجية السياسية الأمريكية.
وانتقل الإطار الحاكم فى التعامل معه بمنطق «الصفقات وليس المبادئ». والتوازن القادم سيكون بين مدى استثمار إدارة ترامب من تحقيق مكاسب سريعة حالية فى مواجهة تقديم حلول جذرية وواقعية لأزمات المنطقة العربية وفى قلبها المشكلة الفلسطينية المزمنة.
وعلى الجانب الآخر، تمتلك الرياض فرصة استراتيجية لإعادة تشكيل علاقتها مع واشنطن على أساس الشراكة المتوازنة. وفى حال ما تم استثمار هذا الظرف السياسى الاستثنائى بحكمة، سيمكن السعودية من أن تصبح قطبًا دوليًا حقيقيًا، قادرًا على المشاركة فى تحول إقليمى شامل.
نقطة ومن أول السطر
لا شك أن دونالد ترامب يمثل بكل وضوح البراجماتية السياسية باقتدار. وتدرك السعودية الآن أنها تمتلك أوراقًا استراتيجية، تمكنها من الحوار والتفاوض. لكن ما يجب أن يدرك فى الحسبان هو أن أى اتفاقات وتحالفات ستكون مرهونة بالاستقرار للقضايا المشتعلة والملتهبة تاريخيًا مثل القضية الفلسطينية حتى لا يكون بداية لانفجارات غير محسوبة. وليس بالضرورة وجود ملامح تتشكل إلى شرق أوسط جديد.. أن يكون أكثر استقرارًا.
ويبقى التحدى الأكبر هو: هل يمكن تحقيق توازن بين المصلحة الوطنية والحفاظ على القضية الفلسطينية كقضية مركزية؟ أم أننا ندفع نحو نظام إقليمى جديد.. يرتكز على الاقتصاد والاستثمار بديلًا عن العدالة والحقوق التاريخية للشعوب؟!