الإثنين 18 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
خريطة إنقاذ الإعلام

خريطة إنقاذ الإعلام

يُصاب عقل أى مجتمع بعطب حين تُغلق فيه جريدة أو محطة إذاعة أو دار سينما أو خشبة ‏مسرح أو أبواب مطبعة أو صالة فن تشكيلى، إذ ينطفئ جزء من وعيه وإدراكه وقدرته على ‏التطور والنهوض، وتحل بعض العتمة محل الضوء، وبعض الجهل مكان المعرفة، وبعض ‏الجمود والغباء بدلًا من الحركة والاستنفار الذهنى.‏



لهذا رسم الرئيس السيسى خريطة طريق لو سار عليها الإعلام المصرى المكتوب والمقروء ‏والمسموع سوف ينتقل بالضرورة إلى فضاء أرحب وأكثر قدرة على التأثير والبناء، ‏وخريطة الرئيس بسيطة للغاية كما حددها: «إعلاء حرية التعبير واحتضان كل الآراء ‏الوطنية بما يعزز من التعددية والانفتاح الفكرى، وأن تتاح له البيانات والمعلومات حتى ‏يتناول الموضوعات بعيدًا عن المغالاة فى الطرح أو النقص فى العرض»!‏

منتهى الوضوح والدقة، فالمجتمعات العفية هى التى تمنح الأفكار والمعلومات سوقًا حرة، ‏وكلما زاد المعروض فيها، كلما كانت فرصة المجتمع: مؤسسات وأفراد أكبر، فى بناء معرفة ‏صحيحة ومواقف صائبة وقرارات فَعَّالة، فالمعرفة هى ماكينة التشغيل العلمية والطاقة ‏الدافعة إلى الأمام، كما أن تصادم الأفكار يشبه الانشطار النووى يتوالد عنها موجة من ‏التوهج الذهنى صانع الحضارة والتقدم، وإذا ضاقت السوق لأى سبب ضعف عقل المجتمع ‏وخبت عناصر التوهج، فيسهل اصطياد مواطنيه فى حبائل الأفكار المغلوطة والجهل!‏

وأتصور أن خريطة الطريق التى عرضها الرئيس على كبار المسئولين عن تنظيم الإعلام ‏والصحافة، فى اجتماعه معهم الإسبوع الماضى، يمكن أن تصد عنا عواصف الإفساد ‏العقلى والنفسى التى تهب علينا من شبكات التواصل الاجتماعى، فالرئيس يطلب من الإعلام ‏أن يكون محترفًا ويؤدى وظائفه فى الإخبار والإفصاح والآراء الحرة والتعليم والنقد والتحليل ‏والتسلية والخدمات بكفاءة، حتى يحمى المجتمع من طوفان الفيديوهات والتعليقات والمواقع ‏والصفحات على شبكات التواصل الاجتماعى، وأغلبها يُتقن الإثارة ويعزف على المشاعر ‏ويروج الشائعات ويغازل الغرائز ويخاطب الرغبات بالغرائب من السلوكيات والأفكار ‏المفخخة عمدًا أو جهلاً، فيصنع بيئة ملوثة مُربكة وضاغطة تحيط بمن يسقطون فى غوايتها، ‏ومن ثم يفقدون التمييز بين الصحيح وغير الصحيح! ‏

لا يمكن مواجهة هذه الشراسة الغوغائية إلا بإعلام محترف كفء حر الحركة قادر على ‏التعبير عن الناس ومصالحهم وأحوالهم وأيامهم، يرصد التفاصيل فى كل جنبات حياتهم، ‏معريًا الأكاذيب والفساد، فيكسب ثقتهم وشغفهم به!‏

والإعلام الحر لا يعنى فوضى فى الآراء والأفكار وأدوات التسلية، فالحرية مسئولية، نعم ‏مسئولية يحددها القانون لا قرارات موظفين، لأن فوضى الإعلام فى أى مجتمع أكثر خطورة ‏من مؤامرات أعدائه، إذ يصبح ثغرة أكبر من ثقب أسود ينفذ منه أعداء الوطن إلى قلبه ‏وعقله بكل سهولة، وكم من شعوب هزمها إعلامها قبل أعدائها؟

إذًا نحن أمام تحدٍ فى غاية الصعوبة والخطورة، فالإعلام المحترف الكفء ليس عملاً هيّنًا ‏يمكن أن يمارسه كل راغب أو محب أو صاحب مصلحة، بدليل أن أعداد الإعلاميين ‏والصحفيين المهرة بحق قليلة، والشهرة خلف الشاشات أو على المكاتب الوثيرة لا تعنى ‏الكفاءة أو الموهبة، فالشهرة أحيانا تأتى بالإلحاح والإثارة وليس بالقيمة، نعم عندنا نجوم لامعة ‏فى الإعلام لكن قيمة ما يقدمونه إلى الناس محدود للغاية وأحيانًا ضار، هم شطار فى كيفية ‏اجتذاب الناس، لكنهم مثل «الوجبات السريعة»، مرغوبة وشهية لكنها مضرة جدًا، وأيضًا ‏عندنا بعض النجوم فى غاية التفوق.‏

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الإعلام المصرى: «تليفزيون وصحافة» فى أزمة، أزمة قديمة طال ‏أمدها، وحان أن تحال إلى المعاش تمامًا، وإن كانت أزمة الصحافة أطول عمرًا من أزمة ‏التليفزيون، فأزمة التليفزيون وجدت حلاً مرضيًا إلى حد ما فى إنتاج ضخم من مسلسلات ‏رائعة كتبها مؤلفون عظام مثل وحيد حامد، أسامة أنور عكاشة، صالح مرسى، محمد جلال عبد‏القوى، محمد صفاء عامر، يسرى الجندى، محفوظ عبدالرحمن، مصطفى محرم، عبدالسلام ‏أمين، محسن زايد وغيرهم من الأجيال الجديدة، ولم تترك شاردة ولا واردة فى المجتمع ‏المصرى دون أن تتعرض له نقدًا وتحليلا، فكانت تعويضًا عن نحافة نشرات الأخبار ‏وضحالة البرامج السياسية والاقتصادية، ولا يمكن أن ننسى برامج جادة جمعت بين الجاذبية ‏والقيمة فى قضايا ثقافية واجتماعية، نرى قبسا منها على قناة «ماسبيرو زمان».‏

وأزمة قنوات التليفزيون الحالية أنها متشابهة فى البرامج والأفكار إلا نادرًا، وتكاد تكون ‏نسخًا متشابهة أو توائم، الاختلاف فقط فى تسريحة الشعر ولون الثياب والعدسات الملونة ‏للعيون وديكورات الاستديوهات!‏

أما الصحافة فحكايتها حكاية، والصحافة عنوان أى مجتمع، هى المرآة التى يقف فيها كل ‏صباح ليرى نفسه وأحواله وبيئته بالتفاصيل، تشخيص يومى لأمراضه وعيوبه ونجاحاته ‏وإخفاقاته، ليعيد ترتيب أوراقه وتنظيم حياته ويختار الطريق الذى يجب أن يمضى فيه، ‏والقرارات المطلوب اتخذها والسياسات التى عليه اتباعها، ليتجنب المرض ويحسن من ‏صحته العامة وجودة معيشة مواطنيه، ودون هذه المرآة يبدو المجتمع مثل رجل كفيف يعبر ‏‏«طريقًا سريعًا» بمفرده معتمدًا على أصوات المركبات العابرة بسرعة جنونية دون أن يعى ‏اتجاهاتها.‏

ولكم أن تتخيلوا أن توزيع الصحف المصرية الآن، كلها مجتمعة قومية وخاصة وحزبية، يقل ‏عن توزيع أى جريدة يومية من الجرائد اليومية الكبرى قبل 15 عامًا، والمسألة ليست ‏إلكترونية أو ورقية كما يشيع البعض، فالجرائد العالمية الناجحة استعوضت النقص فى قراء ‏النسخة الورقية، بزيادة مضطردة فى قراء النسخة الإلكترونية مدفوعة الثمن.‏

صحيح أن أدوات العصر الافتراضى استحدثت مفاهيم ومفردات وعناصر جديدة زاحمت ‏مفاهيم الواقع القديم، وتكاد تحل محلها، إلا أنها فى النهاية أدوات مساعدة فى إنتاج المحتوى ‏الصحفى بأشكال أكثر تطورًا فقط، وهو ما لم يستوعبه كثير من الصحفيين، فأصبحت ‏المؤسسات تنتج سلعًا صحفية لا تستطيع أن تجتذب مستهلكين جددا نتاج ثقافة وعصر جديد، ‏بعد أن خسرت مستهلكيها التقليديين!‏

باختصار الصحافة المصرية فى حاجة إلى كوادر مهنية تستطيع أن تنتج جريدة تتوافر فيما ‏تنشره ورقيًا أو إلكترونيًا كل عناصر الجاذبية والتنوع والمنفعة، بمعايير المنافسة الحديثة، ‏مع شبكات التواصل الاجتماعى!‏

والكوادر يصنعها إعادة التدريب والتأهيل خارجيًا قبل أن يكون داخليًا!‏

نأتى إلى العنصر الأهم وهو تحويل خريطة الطريق التى عرضها الرئيس إلى «برنامج ‏تنفيذى» تلتزم به المؤسسات الإعلامية والقائمين عليها.‏

والمشكلة أن بعضًا من المؤسسات الإعلامية تسكنهم مخاوف متوارثة من إعلاء ‏حرية التعبير واحتضان كل الآراء الوطنية بما يعزز من التعددية والانفتاح الفكرى، ‏ويتصورون مثلًا أن الإعلام بما تمتع به من حرية إلى حد كبير فى عصر الرئيس حسنى مبارك ‏هو الذى أسقط مبارك، وهو تصور خاطئ، والدليل أن الإعلام الرسمى كان أضعاف الإعلام ‏الخاص والحزبى المعارض صحفًا وقنوات تليفزيونية، وعليهم ‏أن يراجعوا هذا التصور ويسألون: ولماذا لم ينجح الإعلام الرسمى بالرغم من كثافته فى ‏إقناع الرأى العام بحسنى مبارك؟، قد يستغل الإعلام المناوئ «ظروفًا مواتية» فى تمرير ‏رسائل معادية وتشكيل رأى عام غاضب، نعم يستغلها لكن لا يصنع هذه الظروف، والعكس ‏صحيح لا يستطيع الإعلام «المؤيد» أن يبلع الناس أوضاعًا يرفضها أو لا يرضى عنها أو أداء ‏حكوميًا هزيلاً، لأن الواقع المعاش أقوى من أى إعلام، فالناس تصدق حياتها لا ما يقال لها.‏

إذن علينا جميعًا أن نفسر خريطة الرئيس عبدالفتاح السيسى بطريقة صحيحة ونعمل بها من ‏أجل مصر الجديدة.