الثلاثاء 13 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. حلقة من الصراع بين محورى الاعتدال والممانعة فى العالم العربى  سر الاهتمام السعودى بـ«تسجيلات عبدالناصر»

الطريق الثالث.. حلقة من الصراع بين محورى الاعتدال والممانعة فى العالم العربى سر الاهتمام السعودى بـ«تسجيلات عبدالناصر»

فى موعد اختاره القدر، وربما بشر، فجأة انتشر مثل النار فى الهشيم، تسجيل صوتي نادر لحديث جرى بين الرئيسين عبدالناصر والقذافى فى أغسطس من العام 1970. فانشغل به الناس فى بلادى وسائر بلاد المنطقة بأكثر مما انشغلوا بأى من الأحداث الطازجة الساخنة فى شرق أوسطهم، أو القادمة من بقاع مشتعلة فى كل أصقاع العالم. انشغل العرب بصوت قادم من الماضى ما زال حاضرا، وقادرا، على إثارة التساؤلات وتحريك الأفكار، وإشعال المعارك وجذب الجماهير بعميق التأثير، حتى لو كان الكلام هذه المرة على عكس ما توقعوا وتغنوا.. وضد ما تمنوا.



اهتمت وسائل الإعلام المحلية والعربية بالتسجيل (التسريب) الذى تأكد للجميع أنه كان متاحا للجميع، لكن ما حجبه هو جهل مترسخ فى مجتمعاتنا العربية بقيمة الوثيقة التاريخية ودورها لصناعة مستقبل واعد لأجيال شابة تتعلم من تجارب الماضي لذلك تشكك البعض فى صحة التسجيل وتعالت الاتهامات من كل جانب، حتى خرجت أصوات من عائلة الرئيس الراحل تحكى القصة وتفاصيل أخرى عن وثائق العهد الناصرى، والمتاح أغلبها على موقع الرئيس جمال عبدالناصر والذى أعدته مكتبة الإسكندرية قبل سنوات ومتاح للجمهور العام.

 ناصر والمملكة

وكان من المثير للانتباه الاهتمام الخاص الذى أفرده الإعلام السعودى، وبشكل ملحوظ، لهذا التسجيل، فقد تتابعت مقالات الرأى ولم تتوقف حتى اليوم لكبار كتاب فى «الشرق الأوسط»، الصحيفة السعودية والعربية البارزة، وخصص القطب الإعلامى الكبير الأستاذ عبدالرحمن الراشد، ثلاث مقالات متتالية نشرتها صحيفة العرب الدولية، كانت هى الأعمق والأكثر تعبيرا عن طبيعة هذا الاهتمام.

فيما ترك ثلاثة من أهم كتاب الرأى فى الصحيفة، من أصحاب الأقلام الرشيقة والجريئة فى المملكة، بصماتهم مكتوبة فى هذا الملف الإعلامى الساخن، وهم: ممدوح المهينى، وطارق الحميد، ومشارى الذايدى، حيث أسهم كل منهم فى طرح المزيد من التحليل والقراءة للتجربة الناصرية التى كانت بطبيعة الحال مناقضة لتوجه المملكة فى حينها، وتسببت فى عداء شرس، استمر سنوات بين الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر، انعكس تأثيره السلبى على العلاقات بين البلدين، وكانت الخلافات المصرية السعودية فى ستينيات القرن الماضى محطة مؤلمة يسعى كلا الشعبين لنسيانها وإسقاطها من مسار علاقات البلدين التاريخية المشرفة.

فيما قادت قناة «العربية»، الذراع التليفزيونية الدولية للمملكة، نقاشا إعلاميا موسعا حول أفكار ناصر التى كشفها التسجيل، وتطرقت بطبيعة الحال لتقييم الرئيس المصرى وتجربته فى حكم مصر وتأثيره العربى النافذ وبشكل خاص فى التعامل مع الصراع العربى الإسرائيلى، وتم طرح العديد من الأفكار ووجهات النظر ومناقشتها فى أكثر من برنامج تحليلى من برامج شاشتى (العربية والحدث)، ورغم كل محاولات التحلى بالموضوعية والمهنية فى معالجة كافة المحاور التى فرضتها المناقشات حول هذا الموضوع، فإن التركيز الكبير والعميق، أوضح أن الاهتمام مقصود ويحمل رسائل لا مجال لتأويلها، فهى واضحة لمن يدقق، وأرى أنه من المهم التعامل معها بحذر واحترافية.

 رئيس وملكين

وقراءة وتحليل تلك الرسائل (السياسية) كانت تستدعى تفاعلا (إعلاميا) موازيا، لمناقشة هذا الاهتمام الإعلامى (السعودى)، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن ما حمله التسجيل من وجهة نظر تخص الرئيس عبدالناصر فى المواجهة مع إسرائيل، كان مطروحا منذ عقود فى سياق الجدل حول كثير من مواقف الزعيم وقراراته وتحالفاته. وقد كشفت لنا وثائق أجنبية متنوعة قصصا كثيرة عن العلاقة المركبة بين ناصر ودولة إسرائيل لم تخلُ أبدا من مفاجآت.

وعلى صعيد العلاقة بين الزعيم المصرى والمملكة فى عهدى الملكين سعود وفيصل، فإنها شهدت صعودا وهبوطا وتقاربا وتباعدا فى كلا العهدين، متأثرة فى كل حالاتها بالأوضاع الإقليمية والصراعات الدولية، وتسبب نقص الخبرة الدبلوماسية لدى الحكومتين فى ذاك الوقت، إلى الاعتماد على العلاقة الخاصة والمباشرة بين الرئيس والملك، والتى كانت تتأثر بطبيعة الحال بفعل عدة عوامل، أكثرها شخصى، وقليلها عام. ولن أخوض كثيرا فى محطات هذا الصراع المصرى السعودى الذى ظهرت شرارته الأولى فى نهاية الخمسينيات بعد الوحدة المصرية السورية، وامتدت من عهد الملك سعود إلى عهد خليفته وشقيقه الملك فيصل بعد اندلاع حرب اليمن، وبين العهدين قصة كانت مصر (عبدالناصر) طرفا أصيلا فيها.

 التوقيت والجدل البيزنطى

إن ما دفعنى إلى فتح هذا الملف الخطير، هو أن أجيالا جديدة لم تحيا زمن عبدالناصر، استيقظت على تسجيل (عتيق) لصوته القادم من الماضى السحيق، محدثا زلزالا سياسيا مفاجئا، موقظا لذكريات عن قصص وحكايات ومواقف وصراعات، أظهرت انتقادا واضحا من بعض الأصوات السعودية للتجربة المصرية فى عهد الرئيس عبدالناصر، فبدأ وكأنه هجوم غير مبرر لا فى موعده ولا فى قسوته.

ويتساءل عبدالرحمن الراشد فى عنوان مقاله؛ «هل يوجد توقيت غير مريب لبث الاعترافات؟» المنشور فى صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 30 إبريل الماضى، رافضا الإلهاء وتحويل القصة إلى «جدل بيزنطى» حول توقيت عودة الروح لتسجيل ناصر، ويختصر المسألة قائلا: «القصة هى أن عبدالناصر كان من رفع شعار «ما يؤخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، لكنه هُزم فى كل جولات الحروب، حتى معارك الاستنزاف. أدرك خطأ شعاره والثمن الكبير الذى دفعته مصر والمصريون لهذه المفاهيم غير الواقعية. ففى كل مرة يشن حرباً، كان يخسر المزيد. أخيراً قال لنفاوض ونساوم ونعترف». 

وهنا ينقلنا الكاتب السعودى الكبير إلى مربط الفرس، وهو الحساب القديم بين المملكة والناصرية، حيث يوجه سهام نقده للمشروع الناصرى برمته ويجدد محاولات تقزيمه والتركيز على سلبياته ونقاط ضعفه، مستدعيا العداء التاريخى بين المملكة وبين ناصر، حيث قال فى مقاله: «لم يكن خطأ عبدالناصر فقط أنه قاد الشارع نحو فكرة الحرب لعقد ونصف العقد ثم انسحب فى آخر عمره، لا بل كانت له أفكاره الأخرى. مثلاً، أمّم اقتصاد بلاده بعد أن كان مزدهراً مثل اليابان. وقام بعسكرة المجتمع. واحتضن قيادات متطرفة، مثل القذافى، حتى تكاثر فيروس التطرف وانتشر. فى الأخير نضج عبدالناصر بسبب الضربات المؤلمة. صار يدرك أنه لو استمع للبكر والقذافى والشارع لكان ذلك سيوصل الإسرائيليين إلى أبواب القاهرة، حيث لم تعد عنده دفاعات أرضية، ولا سلاح جوى، ولا حتى طيارون!».

 الممانعة والاعتدال

احتوى تسجيل ناصر على إشارة واضحة بصوته تمثل انقلابا جذريا فى علاقته مع العدو الإسرائيلى، يعكس حالة مراجعة فكرية قاسية قام بها الرئيس المصرى عقب نكسة يونيو 1967، جعلته يقبل «مبادرة روجرز» سنة 1970، وسط دهشة كل المحيطين به داخليا وخارجيا، بمن فيهم نائبه الرئيس الراحل أنور السادات، الذى رفض المبادرة فى غياب ناصر للعلاج خارج مصر، وعندما عاد وبخه لتعجله فى الرفض وأعلن قبولها، بمنطق براجماتى ولدواعٍ عسكرية، ومن أجل بناء حائط للصواريخ على الضفة الشرقية للقناة من أجل حماية الداخل المصرى من ضربات إسرائيل الغاشمة.

كانت هذه الموافقة انحرافا واضحا عن مسار الحرب والمقاومة ضد الاحتلال، والذى كان ناصر ينتهجه وتبنته من قبله وبعده من تبلور وجودهم فيما سمى بجبهة الرفض، والذين أصبحوا فى المرحلة الأخيرة من تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى هم أبطال محور المقاومة أو «الممانعة»، وفى مقابلهم ظهر ما عرف بمحور الاعتدال، واشتعل بين المحورين صراع امتد لعقود، والمفارقة أن مصر والسعودية لأربعة عقود مضت وحتى اليوم، كانا وما يزالا هما قطبا الاعتدال فى العالم العربى.

وأخيرا، قد يجهل البعض أسباب وطبيعة الصراع بين مصر والسعودية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، والذى ربما يفسر إلى حد كبير سر عداء الدولة السعودية للتجربة الناصرية، وهو لم يكن يوما عداءً للدولة المصرية أو للشعب المصرى، فلقد أثبتت الأيام والسنوات والمواقف عمق العلاقات الأخوية بين الشعبين، وعلى صعيد العلاقة بين الزعماء، فقد ذابت الخلافات وبقيت الأخوة والشراكة حتى قبل وفاة الرئيس جمال عبدالناصر بعد الزيارة التاريخية التى قام بها الملك فيصل إلى القاهرة فى ديسمبر سنة 1969، وحظى فيها باستقبال شعبى غير مسبوق، لتنتهى قطيعة استمرت سبع سنوات بين الزعيمين الراحلين.