كان يرسل قوائم الأراضى إلى أغنياء الصهاينة فى العالم ليتبرعوا بشرائها مذكرات «سمسار أراضى» صهيونى بفلسطين

إيمان مطر
هى ليست مذكرات بالمعنى المتعارف عليه، ولكن إلى جانب التدوينات غير المنتظمة للسمسار الصهيونى فهى مراسلات بينه وبين عدد من أصدقائه ومرؤوسيه، وبالتالى فهى شهادة ميدانية صادقة عن نهج العمل الصهيونى السياسى والاقتصادى الميدانى فى فلسطين خلال الفترة من عام 1907 وحتى عام 1964، أى قبل وفاته بعام واحد.
وقد جمع تلك المرسلات والتدوينات أصدقاء السمسار ونشروها تقديرًا لدوره (كما يدًعون فى إقامة دولة إسرائيل) وترجمها وأعدها للنشر الباحث والمؤرخ الفلسطينى د.إلياس شوفانى.
اسمه يوسيف نحمانى ولِد عام 1891 فى مدينة الكسندريا الروسية لعائلة يهودية متدينة وصاحبة معصرة زيت، وفى عام 1907 هاجر مع أخيه الأكبر موشيييه إلى فلسطين بأسماء مستعارة وجوازات سفر مزورة واشتغل نحمانى عاملًا زراعيًا فى جبال القدس ثم انتقل إلى القدس، حيث انضم إلى مجموعة صغيرة مهتمة بالسياسة كان من أعضائها إسحاق بن تسفى (الرئيس الثانى لإسرائيل فيما بعد) وزوجته راحيل ينئيت ودافيد بن جوريون (رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد أيضًا) وظل يتنقل من عمل إلى عمل ومن مستوطنة إلى أخرى حتى انتقل عام 1921 للإقامة فى طبرية وأصبح عضوًا فى المجلس البلدى عن الطائفة اليهودية.
بداية العمل بالسمسرة
كان يوسيف يؤمن بأن السبيل الوحيد إلى استيطان فلسطين وإخضاعها لحكم اليهود لن يتأتى إلا بامتلاك المزيد من الأراضى وبناء مستوطنات صهيونية عليها.. فانضم للعمل مع شركة بيكا لشراء الأراضى وهو الاسم التجارى لاتحاد الاستيطان اليهودى فى فلسطين والتى تأسست عام 1882 على يد الثرى اليهودى الفرنسى البارون ادموند دى روتشيلد وظلت تحت إشرافه المباشر، وقد ساعدت بيكا فى إقامة مشاريع استيطانية كبيرة مثل شركة كهرباء فلسطين وشركة أملاح عتليت وبناء فندق الملك داود فى القدس وغير ذلك.
فى عام 1935 بدأ نحمانى العمل مع الصندوق القومى اليهودى (هكيرن هكيميت) وهى شركة تابعة للحركة الصهيونية العالمية وتم إنشاؤها على مبدأ استملاك الأراضى فى فلسطين بحيث تكون (وقفًا) على الشعب اليهودى لا يجوز بيعها وإنما تؤجر للمستوطنين اليهود فقط ولمدة 49 سنة قابلة للتجديد والتوريث ولكن دون تقسيم.
وقد بدأ الصندوق مبكرًا يمارس نشاطات أخرى مختلفة مثل تأسيس المستوطنات وتوطين المهاجرين الجدد وتقديم القروض للمستوطنين وأعمال التحريج واستصلاح الأراضى وإنشاء البنى التحتية (اقتصادية واجتماعية وتربوية) وحتى تطوير المدن.
ورغم نشاط هكيميت؛ فإنه ظل محدودًا مقارنة بما صادرته إسرائيل من الأملاك العربية بالقوة العسكرية والمصادرة بأشكال ملتوية متعدد وبعد قيام إسرائيل وتشكيل لجنة أراضى إسرائيل انحصر عمل هكييمت جدًا. ويتباهى نحمانى فى مذكراته بمعرفته بالمحيط العربى وعلاقاته بأشخاص مختلفين منهم ولم يحاول إخفاء أن تلك المعرفة كانت للتوظيف الانتهازى فى خدمة مصالحة الذاتية والسياسية وأنه عمل جاهدًا لمداهنتهم رغم احتقاره الشخصى لهم.
قوائم بالأراضى وشروطها
وشملت مهام نحمانى إعداد قوائم بالأراضى المراد استملاكها وبجانب تقديمها إلى (هكيميت) كان يقوم بإرسالها إلى أغنياء الصهاينة فى العالم لإرسال التمويل والتبرع اللازم لشرائها.
وتكمن أهمية كتاب نحمانى فى أنه شهادة من عصره على الممارسات الاستيطانية الصهيونية والأساليب الملتوية التى استخدمها «هكيرن هكيميت» فى استملاك الأراضى واقتلاع الفلاحين العرب منها كما أنه وثيقة دامغة للملاك الغائبين الذين استحوذوا على مساحات واسعة من الأراضى وكانت بالنسبة لهم بمثابة سلعة وليست مصدرًا للرزق، ولذلك عندما لاحت لهم الفرصة للتخلص منها باعوها للحركة الصهيونية التى كانت بالمرصاد؛ بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما تعاونوا معها إلى جانب السلطات الرسمية فى إجلاء الفلاحين المقيمين فيها بالقوة الغاشمة وتسليمها مفرغة من سكانها للمستوطنين اليهود.
وعلى سبيل المثال فالقائمة التى قام بإعدادها فى عام 1936 وقدمها إلى «هكيميت» توضح الكثير من الشروط المطلوبة وقد ضمت ثمانى مناطق تقع بجوار بحيرة طبرية ويحدها من الشرق الأردن ومن الغرب جبل كنعان وقريبة من بعض الأنهار لسهولة ريها؛ بالإضافة إلى أن تلك المساحات غير مأهولة من الفلاحين وإنما كان يسكنها بدو فى خيم متناثرة ويتملكها أفندية من « صفد» وهى مدينة تابعة للجليل شمال فلسطين كما تضم مساحات قريبة من الأردن وهى مناطق ذات أهمية سياسة كبيرة كونها توحد أراضى اليهود فى قضاء طبرية مع أراضى اليهود فى الجليل الأعلى وبالتالى تشكل كتلة يهودية متواصلة واحدة، هذا بخلاف أهميتها الاقتصادية للاستيطان اليهودى.
تسلسل الاستيطان اليهودى فى فلسطين
كانت البداية متعثرة وقد تضافرت عوامل موضوعية مثل السياسة العثمانية والمقاومة المحلية وقلة الأراضى المتوفرة للاستيطان وأسعارها المرتفعة نسبيًا وأنماط الملكية القائمة مع التركيب الاجتماعى للمستوطنين وتنظيمهم وقد أدت تلك العوامل لعرقة حركة الاستيطان اليهودية.. ففى بداية عام 1890 كانت فى فلسطين 7 مستوطنات فحسب.. منها خمس مستوطنات كانت تحت رعاية روتشيلد وخلال عام واحد أقيمت 6 مستوطنات أخرى؛ إذ انتعشت السمسرة فى الأراضى فأدت إلى ارتفاع سعرها، وبالتالى شددت السلطة العثمانية القيود على بيع الأراضى، ورغم تراجع النشاط الاستيطانى اليهودى ما بين أعوام 1892 و1899 فإنه تم إنشاء 6 مستوطنات أخرى بالقرب من القدس وكانت مستوطنات صغيرة فى كل منها أقل من 20 عائلة مزارعة.
ومع إنشاء منظمة الصهيونية العالمية فى عام 1897 أصبحت الأمور أكثر دقة وتنظيمًا فى شراء الأراضى، فقد أنشأت المنظمة عام 1908 مكتب فلسطين فى يافا والذى أصبح مركز النشاط الاستيطانى اليهودى فى فلسطين، وفى الفترة نفسها تم تأسيس شركة تطوير أراضى فلسطين والتى تركز عملها فى شراء الأراضى بالأشكال المختلفة فاعتمدت عددًا من السماسرة لشراء الأراضى من الملاك الغائبين لصالح المؤسسات الصهيونية العامة والجمعيات الخاصة وحتى الأفراد، إلا أن هذه الشركة اصطدمت بعقبات مالية ومعارضة حكومية فلم تنجز الكثير وانحصر عملها فى إقامة مستوطنات صغيرة فى غور الأردن وفى وسط البلاد وفى السهل الساحلى وتوقفت عن العمل مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914.
إجمالى المستوطنات حتى الحرب العالمية الأولى
بلغ ما امتلكة اليهود من الأراضى فى فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى مساحة 418 ألف دونم فقط (والدونم ألف متر مربع أى بلغت مساحة الأراضى 418 مليون متر مربع) ووصل عدد المستوطنات إلى 44 مستوطنة وعدد سكانها إلى 12 ألفًا من إجمالى 85 ألف يهودى فى فلسطين كلها وكان نصفهم فى القدس فقط.
الجهات التى باعت فلسطين لليهود
استسمك صغار الملاك العرب بأراضيهم حتى بأسعار مغرية لذلك لجأ صندوق (هكيميت) إلى جهات أخرى مثل المصارف ومالكى الأراضى الواسعة والذين كانوا فى الكثير من الحالات من المالكين الغائبين من عائلات ثرية لبنانية، ففى عام 1890 اشترى (هكيميت) 10 آلاف دونم بسعر بخس وهو 11 فرنكا للدونم من عائلة الفرد روك الفلسطينية (بيافا) وفى العام التالى اشترى يهوشوع حانكين سمسار يهودى لصالح (هكيميت) 30 ألف دونم وهى أراضى الخضيرة من مالكها سليم الخورى اللبنانى بسعر 18 فرنكا للدونم وبعد ذلك بتسع سنوات اتصلت عائلة سرسق اللبنانية بحانكين وباعت له 9400 دونم (من أراضى العفولة بشمال فلسطيين) وأقيمت عليها مستوطنة مرحافيا عام 1911 وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى باعت عائلة سرسق جميع الأراضى التى تمتلكها وبلغت مساحتها 255 ألف دونم إلى صندوق هكيميت الصهيوني ويقدر ما اشتراه السمسار حانكين خلال حياته بحوالى 600 ألف دونم، أى 600 مليون متر (أى نصف ما امتلكه اليهود من الأراضى فى فلسطين حتى 1945).
وقد كان المصرف الإنجليزى - الفلسطينى أحد عملاء هكيميت فى بيع الأراضى والتى بلغت 10100 دونم، أى 10 ملايين متر مربع وذلك فى مناطق مختلفة مثل الشمال الغربى والجنوب الغربى أيضا من بحيرة طبرية وأقيمت مستوطنات على تلك الأراضى.. وتضمنت أنشطة الصندوق إنشاء مكاتب الوكالة اليهودية ومنظمة هداسا الطبية وشركة كهرباء فلسطين وشركة البوتاس الفلسطينية ومشاريع المياه والملاحة مثل ميناء تل أبيب وتشركة تسيم للنقل البحرى وشركة طيران العال وبنك الرهونات العام.
تهجير المؤسسات الصهيونية للمزارعين العرب
كانت المؤسسات الصهيونية تصر على إخلاء المزارعين عن الأرض كشرط لعقد الصفقة وبالطبع أثار ذلك ردات فعل عنيفة من المزارعين وحركات احتجاج سياسية وشعبية، ووقعت اشتباكات بين المزارعين والمستوطنين تدخلت فيه السلطة لقمعهم وإجلائهم بالقوة وقد احتجت اللجنة التنفيذية العربية فى 25 أغسطس 1924 أمام المندوب السامى البريطانى على بيع أراضى مرج بن عامر وطرد المزارعين منها.
مسار استملاك اليهود للأرض
1 - فى الثلاثين عامًا التى سبقت الحرب العالمية الأولى كانت السمة البارزة لعمليات شراء الأراضى هى المبادرة الفردية ويقدر ما استملكه هؤلاء بحوالى 400 ألف دونم.
2 - توقفت عملية بيع الأراضى أثناء الحرب العالمية الأولى.
3 - وبعد الحرب وفى ظل حكومة الانتداب قفز مجموع ما امتلكه اليهود إلى 557 ألف دونم، وذلك على الرغم من أحداث تلك الفترة وهى ثورة يافا وصدور الكتاب الأبيض الأول والتى وقعت نتيجة الهجرة الثالثة لليهود من 1919 حتى 1923، والكتاب الأبيض الأول هو وثيقة كتبها ونستون تشرشل حين كان وزيرًا للمستعمرات البريطانية فى يونيو 1922، يؤكد فيها على التزام بلاده بتنفيذ وعد بلفور المقدم إلى اليهود بإنشاء وطن قومى يهودى فى فلسطين، لكنه قال إن ذلك لا يعنى تهويد فلسطين كلها، وأن من حق العرب أن يطمئنوا إلى أن ذلك الاستيطان لن يؤثر على وجودهم، وأنه من الأفضل اتخاذ وسائل لتحديد أعداد المهاجرين إلى الأرض. وأن بريطانيا ستعمل على تكوين مجلس نيابى ينتخب من الجانبين. لكن تلك الوثيقة جوبهت بالرفض من العرب واليهود على السواء.
4 - تدفقت الهجرة الرابعة خلال الفترة من 1924 حتى 1931 فقفزت مساحة الملكية اليهودية إلى 864 ألف دونم وكان نصيب هكيميت منها 125 ألف دونم.
5 - تراجعت الوتيرة فى الفترة من (1928 حتى 1931) بسبب المقاومة العربية (ثورة البراق) بسبب صدور الكتاب الأبيض الثانى فى 19 نوفمبر 1928 وأكدت فيه بريطانيا على الملكية الإسلامية لحائط البراق فى القدس، مع حقوق يهودية محددة للوصول إلى الحائط للصلاة، وقد ظل هذا الالتزام قائمًا وما زال الكتاب يشكل وثيقة هامة لصالح شعب فلسطين وتلا ذلك صدور كتابين آخرين.. حيث صدر الثالث فى أكتوبر 1930 إثر صدور تقرير لجنة هوب سمبسون المؤيد للحقوق العربية الفلسطينية، ونص على «التزام الحكومة البريطانية بمصالح مجموعتى السكان من عرب ويهود، وليس بمصالح مجموعة واحدة»، غير أن رئيس الوزراء البريطانى رامزى ماكدونلد، ما لبث تحت ضغط الحركة الصهيونية أن ألغاه، حيث أصبح هذا الكتاب يعرف عند العرب الفلسطينيين بالكتاب الأسود أما الكتاب الأبيض الرابع، فقد أصدرته الحكومة البريطانية فى مايو 1939، وقد تبناه وزير المستعمرات مالكولم ماكدونلد وعمل على إصداره، وتكمن أهميته فى أنه ظل يشكل السياسة الرسمية الثابتة للحكومة البريطانية منذ صدوره وعلى مدى سنوات الحرب العالمية الثانية.
6 - وعندما تراجعت بريطانيا عن الكتاب الابيض الثالث ارتفعت معدلات شراء الأراضى مرة أخرى وبلغ مجموع ما امتلكه اليهود عام 1935 مامساحته مليون و232 ألف دونم.
7 - عاد المعدل للهبوط فى فترة الثورة العربية الكبرى (1936-1939).
8 - ارتفع معدل شراء الأراضى بعد الحرب العالمية الثانية وفى غياب المقاومة العربية.