عندما تكون مفاوضات إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية ورقة مساومة مصائب قـوم عند «ترامب» فــوائـد

آلاء شوقى
منذ اللحظات الأولى لاشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، لم يستطع أن يوقف آلة الحرب الضارية بين الطرفين أى شىء، خاصة فى ظل الدعم السياسى والعسكرى الغربى غير المسبوق لكييف؛ وفرض عقوبات عنيفة فى المقابل- على «موسكو» فى محاولة للجمها.
ورغم مرور الحرب الروسية الأوكرانية، التى بدأت فى فبراير 2022 بمراحل مختلفة، وتطورات متنوعة، ومحاولات عديدة لوضع حد لها، إلا أنه منذ تولى الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» كرسى (البيت الأبيض)، بدأ الحديث يتزايد عن إمكانية حدوث مفاوضات تهدئة بين الطرفين المتناحرين.
ومع ذلك، فإن عقلية رجل الأعمال «ترامب» لا ترضى بالمكسب الواحد، إذ يسعى لتحقيق العديد من المكاسب الأمريكية من حل واحدة من أكبر الأزمات التى تعصف بالقارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ يستغل الرئيس الأمريكى الحالى ورقة إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بطرق شتى، من أجل جنى العديد من الامتيازات لصالح «الولايات المتحدة»؛ فضلاً عن سعيه لحل تلك الأزمة لتحويل دائرة تركيزه على قضايا أكثر أهمية للجانب الأمريكى.
مرحلة جديدة
دخلت الأزمة الروسية الأوكرانية- خلال الأيام القليلة الماضية- مرحلة جديدة غير مسبوقة مع بدء محادثات أمريكية روسية، تهدف إلى إيجاد حلول لإنهاء الحرب، التى أوشكت على دخول عامها الرابع.
ففى يوم الثلاثاء الماضى، قال مسؤول أمريكى إن «الولايات المتحدة»، و«روسيا» اتفقتا على المضى قدماً فى الجهود الرامية، لإنهاء الحرب فى «أوكرانيا»؛ فيما قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية «تامى بروس»، إن: «الجانبين اتفقا على تعيين فرق رفيعة المستوى، للبدء فى العمل على إيجاد طريق، لإنهاء الصراع فى أقرب وقت ممكن بطريقة دائمة، ومستدامة، ومقبولة لجميع الأطراف».
من جانبه، قال (الكرملين) إن التوصل إلى تسوية طويلة الأمد فى «أوكرانيا» مستحيلة، دون معالجة قضايا أمنية فى «أوروبا»؛ معلناً- فى سابقة من نوعها- حق «أوكرانيا» فى الانضمام إلى «الاتحاد الأوروبى»؛ لكن ليس إلى حلف شمال الأطلسى (ناتو)؛ لافتاً إلى أن الانضمام للاتحاد الأوروبى حق سيادى لأى دولة، وهو ما اعتبر تنازلاً عن إحدى شروط «روسيا»، التى دفعتها- فى الأساس- للقيام بعمليتها العسكرية، إذ كانت الملفات الخلافية الثلاثة الأساسية مع «كيف،» وهى: انضمام «أوكرانيا» إلى حلف (الناتو)، والشراكة مع الاتحاد الأوروبى، وامتلاك السلاح النووى.
على كل، جاءت تلك التطورات، وسط قلق أوكرانى وأوروبى على حد سواء- مما وصفوه- باستعجال أمريكى، قد يفضى إلى تقديم تنازلات عميقة، فى ظل غموض خطة «ترامب» فى إنهاء الأزمة.
من جانبها، حوّلت الصحف الغربية دائرة الضوء على إعطاء فكرة مفادها أن (الإدارة الأمريكية الحالية تسير فى حل الأزمة الروسية الأوكرانية بلا خطة واضحة، أو هدف صريح).
ومع ذلك، فإن الأسبوع الماضى- وحده- أثبت عكس ما تصدره الصحف الغربية، إذ شهد نشاطاً أمريكياً مكثفاً للتفاوض على إنهاء حرب «روسيا، وأوكرانيا» على مختلف المستويات؛ وهى تحركات ليست -بالطبع-محض الصدفة، أو تجرى بشكل أهوج، أو دون خطة؛ بل هى مدروسة بعناية.
فباختصار، قام وزير الدفاع الأمريكى «بيت هيجسيث» بأول زيارة له إلى «أوروبا» واجتمع مع نظرائه الأوروبيين؛ فيما تحدث «ترامب» هاتفياً مع نظيريه الروسى «فلاديمير بوتين»، والأوكرانى «فولوديمير زيلينسكى»؛ ثم التقى نائب الرئيس الأمريكى «جيه. دى. فانس» بالرئيس الأوكرانى فى مؤتمر (ميونيخ للأمن)، الأخير الذى شهد- أيضاً- ظهور المبعوثين الرئاسيين الأمريكيين «ريك جرينيل، وكيث كيلوج، وستيف ويتكوف»، وكشف العديد من التوترات بين الحليفين التقليديين (أوروبا، والولايات المتحدة)؛ لينتهى الأسبوع الحافل بلقاء وزير الخارجية الأمريكى «ماركو روبيو»، ومستشار الأمن القومى «مايك والتز» وغيرهم من دبلوماسيى «الولايات المتحدة» مع كبار الدبلوماسيين الروس للتفاوض حول إنهاء الحرب.
للوهلة الأولى تبدو تلك اللقاءات المذكورة، مشتتة للانتباه، أو تهدف لإعطاء صورة عشوائية للتحرك، رغم أن توقيتها، وأهدافها التى ظهرت بين السطور، تكشف الصورة ما إن تم ربطها سوياً، وهو ما يتطلب فى البداية دراسة كل لقاء على حدة لفهم المشهد.
ملامح خطة «ترامب» من تصريحات «هيجسيث»
لم يطرح فريق «ترامب»- رسميًّا- خطة سلام علنية بعد، ولكن لأكثر من شهرين تحدث علناً عن 4 عناصر لتحقيق سلام سريع ومستدام.
ويتطلب عنصران من هذه العناصر تقديم تنازلات من جانب «روسيا»، وهما: (السماح بتسليح كبير لأوكرانيا، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح بين القوات الروسية والأوكرانية، تسيطر عليها قوات أوروبية)؛ بينما يتطلب عنصران آخران تقديم تنازلات من جانب «أوكرانيا»، وهما:
(التنازلات الإقليمية، ووقف الانضمام إلى حلف (الناتو) لمدة عشرين عاماً على الأقل)؛
الطلب الأخير- تحديداً- الذى يسبب أزمة للرئيس الأوكرانى، الذى يواصل مطالبته- حتى الآن- باستمرار أن تكون عضوية حلف شمال الأطلسى، هى السبيل الوحيد لضمان سيادة «كييف»، واستقلالها عن جارتها المسلحة نووياً.
بصورة أكثر وضوحاً، أوضحت تعليقات «هيجسيث» لنظرائه فى اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسى فى «بروكسل»، اتجاهات «ترامب»، لتحقيق هدنة بين «موسكو»، و«كييف»؛ إذ أدلى بثلاثة تصريحات جوهرية، أثارت اعتراضات فورية من جانب الأوكرانيين والأوروبيين.
فوصف «هيجسيث» استعادة الحدود المعترف بها دولياً لأوكرانيا، والتى أنشئت فى عام 1991 بأنها غير واقعية؛ كما أكد أن عضوية «أوكرانيا» فى حلف (الناتو) ليست نتيجة واقعية للتسوية التفاوضية؛ ثم قال إنه فى حين أن هناك حاجة إلى ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا بعد الحرب، فإن هذه الضمانات يجب أن تكون مدعومة بقوات أوروبية وقوات غير أوروبية، وليس القوات الأمريكية المنتشرة فى «أوكرانيا»، إلى جانب رفض أن تكون تلك القوات جزءاً من حلف شمال الأطلسى.
تصريحات وزير الدفاع الأمريكى أثارت انتقادات واسعة وصل بعضها لحد الإدانة؛ إذ اعتبرت أنها تمثل تنازلات أحادية الجانب غير مستحقة لروسيا.
ولكن، انطلاقاً من نظرة «ترامب» الواقعية، فإن القراءة الدقيقة لتصريحات «هيجسيث» تدعم نهجاً أكثر منطقية؛ لأن استعادة حدود «أوكرانيا»، التى رسمتها عام 1991، ليس بالأمر الممكن فى الأمد القريب من خلال الوسائل العسكرية؛ وهو أمر أقر به مسئولون فى «أوكرانيا» نفسها، والدول الصديقة لكييف.
كما أن انضمام «أوكرانيا» إلى حلف (الناتو) يمثل تهديداً مباشراً لأمن «روسيا» القومى، وهو ما لن تتنازل عنه «موسكو» أبداً تحت مبدأ (حماية السيادة)، فى ظل عدم وجود ضمانات أمنية.
ولكن، يبقى التساؤل حول سبب رد الفعل العنيف من قبل القادة الأوروبيين على الاقتراح الأمريكى، وهو ما ظهر بوضوح فى (مؤتمر ميونخ للأمن).
انقسامات عبر الأطلسى بمؤتمر ميونخ
إن أكثر ما أثار ريبة واستياء «أوروبا» من الاقتراح الأمريكى بشأن الهدنة الروسية الأوكرانية، هى ضرورة تقديم الدول الأوروبية ضمانات أمنية لأوكرانيا، من دون إشراك «الولايات المتحدة» فى الأمر، وهو ما خلق انقساماً خطيراً داخل حلف (الناتو)، خاصة بعدما حذر وزير الدفاع الأمريكى بلدان حلف شمال الأطلسى فى القارة العجوز، من الافتراض بأن وجود القوات الأمريكية فى القارة (سيدوم إلى الأبد).
وخلال محاولة الزعماء الأوروبيين فى (مؤتمر ميونخ للأمن) فى «ألمانيا»، التوصل إلى توافق فى الآراء مع مسئولين فى إدارة «ترامب»، بشأن اتفاق سلام مستقبلى بين «موسكو»، و«كييف»، ترك مسئولو الإدارة الأمريكية الباب مفتوحاً أمام العديد من الأسئلة، التى كان يطرحها حلفاء «واشنطن»، بشأن الخطة الأمريكية، وإطارها الزمنى، والتنفيذى؛ وكان الهدف من تلك المنهجية، التى سلطت الضوء على وجود انقسامات بين الحلفاء التقليديين، هو سحب الدول الأوروبية لتحقيق مصالح أمريكية- فى المقام الأول- عبر استغلال الهدنة الروسية الأوكرانية.
بصورة أكثر وضوحاً، إن التهديد بالانسحاب الأمريكى بشكل جزئى على المستوى الأمنى من «أوروبا»، أثار مخاوف الأخيرة من تصاعد تهديدات محتملة من «روسيا» مستقبلاً.
وعليه، أوضح مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)- فى هذا الصدد- أنه لتجنب قطيعة عبر الأطلسى، قيل إن «الولايات المتحدة، وأوروبا» تسعيان لإبرام صفقة، بموجبها تقدم «أوروبا» بعض التنازلات لواشنطن، وربما توافق على شراء المزيد من الغاز الطبيعى المسال من «الولايات المتحدة»، أو إنفاق المزيد على قطاع الدفاع، أو شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية، أو تقديم بعض التنازلات التجارية، فى مقابل علاقة هادئة نسبياً، واستمرار التزام الولايات المتحدة بالأمن.
على كل، يدعم تلك الفكرة مطالبات «ترامب» الكثيرة للدول الأوروبية بإنفاق 5% من الناتج المحلى الإجمالى على الدفاع، وهو ما يزيد كثيرا عن ما تنفقه الولايات المتحدة ويمثل زيادة كبيرة عما كان أى شخص يدعو إليه؛ فضلاً عن تهديده -بالفعل- بضرورة أن يشترى الاتحاد الأوروبى الغاز المسال من «الولايات المتحدة»؛ ما يشير إلى أن رجل الأعمال «ترامب» يحاول (ضرب عصفورين بحجر واحد).
مساومات على معادن «أوكرانيا» أيضاً
لم تتوقف مساومات «ترامب» عند دول القارة الأوروبية فحسب.. ففى الوقت الذى كان يعقد فيه مؤتمرا وزراء الدفاع فى «بروكسل»، ومؤتمر ميونخ فى «المانيا»؛ أرسل «ترامب»، وزير الخزانة الأمريكى «سكوت بيسنت» إلى «كييف»، لبدء التفاوض على صفقة من شأنها أن ترسل أسلحة أمريكية إلى «أوكرانيا»؛ فى مقابل الحصول على معادن نادرة وحيوية، تستخدم فى صنع الأسلحة المتطورة، والتقنيات الحديثة، مثل: (التيتانيوم، والزركونيوم)، وغيرهما.
ومع ذلك، لم تسفر مهمة «بيسنت» عن اتفاق، ويقال إن السبب فى ذلك، كان طلب «الولايات المتحدة» قدراً كبيراً من السيطرة على موارد «أوكرانيا»، دون تقديم ضمانات أمنية فى المقابل، ما دفع الرئيس الأوكرانى رفض توقيع الاتفاق الذى يهدف إلى نقل نصف موارد الأراضى الأوكرانية من المعادن النادرة إلى «الولايات المتحدة»..
ومع ذلك، توقع المحللون السياسيون أن المحادثات بين الطرفين فى تلك الصفقة سوف تستمر، وربما تكون ورقة مساومة هامة بينهما؛ وذلك لأن «الولايات المتحدة» تحتاج إلى مصادر موثوقة للمعادن الحيوية من «أوكرانيا» لاستكمال منظومة تطوير التقنيات والأسلحة الحديثة.
أهداف «ترامب» غير المعلنة
بعيداً عن أهداف «ترامب» من الحصول على منافع من «أوروبا»، و«أوكرانيا»، و«روسيا» على المستوى السياسى والاقتصادى، من خلال مفاوضات التهدئة؛ إلا أنه يسعى بالفعل لإنهاء تلك الحرب لعدة أسباب؛ من بينها: الحصول على مصداقية فى قدرته على حل واحدة من أبرز الأزمات الصعبة المستمرة منذ سنوات.
كما يمنح إدارة «ترامب» مساحة لتحويل تركيزها على قضايا الشرق الأوسط الشائكة والمتشعبة.
فضلاً عن تحويل تركيزه لقضايا أكثر تحدياً للولايات المتحدة، وعلى رأسها تأمين الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، والتنافس مع «الصين» وهو ما يظهر من خلال إصرار «ترامب» الحصول على معادن نادرة من «أوكرانيا»، من أجل تحديث أدواته التكنولوجية والعسكرية. جديراً بالذكر، أن وزير الدفاع الأمريكى، أشار للهدفين الأخيرين بشكل غير مباشر، حينما قال، إن نية إدارة «ترامب» تحويل تركيزها بعيداً عن «أوروبا» لوجود أولويات مثل: «الصين»، وتأمين الحدود الجنوبية.
في النهاية، يبدو من تحركات إدارة «ترامب» المكوكية خلال الأيام القليلة الماضية، أنها ليست هوجاء، وإنما هى تحركات تسعى للحصول على أقصى استفادة ممكنة على عدة مستويات مختلفة من دول عدة، تصب جميعها فى صالح «الولايات المتحدة»، من خلال استخدام ورقة المفاوضات بين «روسيا» و«أوكرانيا»، والتى قد تنهى الحرب الشرسة بينهما.