
أسامة سلامة
عظمة على عظمة يا ست
هل كان المستمع الأريب وهو يهتف فى حفلات أم كلثوم بهذا النداء المحبب للجمهور يبدو إعجابه بصوتها فقط، أمْ كان يُعبر عن انبهاره بمكانتها الفنية والشخصية، أمْ كان تعبيرًا عن دهشته بالإنسانة التى تغلبت على كل الصعاب، والفلاحة التى صارت هانم، والفتاة التى جاءت من الريف فتربعت على عرش الغناء العربى وأصبحت سيدته الوحيدة؟، العظمة لا يوصف بها إلا العمل الفريد، وكلمة «السِّت» لا تُطلق على أى سيدة مَهما كان نجاحها ولكن تختص بالسيدات ذوات الحيثية الكبيرة، واللواتى لهن دور مهم فى المجتمع، وكوكب الشرق ظاهرة متفردة ومعجزة من الصعب أن تتكرّر، فالبدايات الصعبة لم تكن تنبئ بالنهايات التى وصلت إليها، وهو ما يطرح العديد من الأسئلة التى أتمنى أن تتم بشأنها دراسات وأبحاث متعمقة مع اقتراب الذكرى الخمسين لرحيل أم كلثوم فى 4 فبراير المقبل. صحيح أنه توجد كتب عنها قام بتأليفها كُتّاب ومفكرون كبار ولكن نحتاج المزيد؛ بل إن كل سؤال يصلح أن يكون بحثًا أو كتابًا: كيف أصبحت الفتاة الريفية الفقيرة سيدة الغناء العربى؟ وما الذى أهَّلَ المغنية التى ترتاد الكفور والنجوع فى المَوالد ومناسبات الأعيان والفلاحين لتغنى على أكبر المسارح فى مصر والعواصم العربية وفرنسا ويستقبلها الرؤساء والملوك؟ وما الذى جعل البنت التى لم تُكمل تعليمها وعرفت مبادئ القراءة والكتابة فى كُتّاب القرية واحدة من هوانم المجتمع يطلب الجميع صداقتها ويزهو السياسيون والمثقفون والإعلاميون ورجال وسيدات المجتمع بمعرفتها والجلوس معها؟ وكيف صارت الريفية التى كانت ترتدى العقال وهى طفلة تتنافس السيدات فى العالم العربى على تقليدها فى ارتداء أشيك الملابس وأرقاها؟ ومَن الذى عَلّم الفلاحة التى لم تدخل المدارس ولم تتلقَ تعليمًا أكاديميًا أن تتذوق الشعر والموسيقى وتختار قصائد لفحول الشعراء القدامى والمعاصرين لتغنيها وتنتقى منها أبياتًا وتستبعد أخرى وتُغَيّر بعضَ الكلمات دون أن يخل ذلك بالمعنى والمضمون والأوزان؟ لعل الإجابة على السؤال الأخير يحمل إجابات عن الأسئلة السابقة عليه، فمن يصل إلى هذه المرحلة من العِلم والفهم والتذوق والذكاء والقدرة على التعلم والتلقى والاستيعاب من السهل عليه أن يصل إلى هذه المكانة الكبيرة، وحتى نعرف قدرات أم كلثوم وما وصلت إليه من ثقافة؛ فإننى أذكر هنا أمثلة قليلة عن اختياراتها للقصائد التى غنتها وكيف انتقت أبياتها؟ فمن الحكايات المعروفة أن كوكب الشرق عندما غنت قصيدة «أراك عصى الدمع» للشاعر أبى فراس الحمدانى من ألحان رياض السنباطى عدّلت بعض الكلمات لتوائم الذوق العام دون أن تخل بالمعنى، ففى البيت الثانى عدّلت «بلى أنا مشتاق وعندى لوعة» إلى «نعم أنا مشتاق وعندى لوعة»، ورغم أن «بلى» هى الأدق لغويًا؛ فقد رأت كوكب الشرق التجاوز ذلك، ويشرح الكاتب الصحفى حنفى المحلاوى فى كتابه «شعراء أم كلثوم» أن اختيار أبيات من القصائد لتغنيها وتغيير بعض الكلمات تكرّر كثيرًا سواء مع الشعراء القدامى أو المعاصرين مثلما حدث مع قصيدة «أفديه أن حفظ الهوى» للشاعر ابن النبيه المصرى، و«رباعيات الخيام» للشاعر الفارسى عمر الخيام التى ترجمها أحمد رامى، وفى أغنية «من أجل عينيك» اختارت أبياتها من عدة قصائد للشاعر عبدالله الفيصل دون أن يشعر المستمع بخلل فى المعنى، وتكرّر الأمر مع الشاعر السودانى الهادى آدم فى أغنية «أغدًا ألقاك» والذى يقول عنها حنفى المحلاوى «إنه عندما رجع إلى ديوان الشاعر وجد أن هناك عشرات من التعديلات التى طلبتها أم كلثوم من الشاعر واستجاب بالفعل لها»، أمّا الشاعر اللبنانى جورج جرداق؛ فقد غيّر البيت الأول من قصيدة «هذه ليلتى» بناء على طلبها، وفى قصيدة «الأطلال» للشاعر إبراهيم ناجى غيّرت مطلع القصيدة من «يا فؤادى رحم الله الهوى» إلى «يا فؤادى لا تسل أين الهوى؟»، هذا بجانب تغييرها لبعض الكلمات التى لم تستسغها فى عدد من أغانيها التى كُتبت بالعامية. من المؤكد أنه عندما كانت أم كلثوم تفعل ذلك كانت بجانب ذائقتها تستعين بعدد من الشعراء الذين يحيطون بها وتطلب منهم رأيهم مثل صالح جودت وأحمد رامى وغيرهما، أمّا كيف وصلت أم كلثوم إلى هذه المكانة؟ فلا شك أن حِفظها القرآن وهى صغيرة وترديدها لموشحات وقصائد بالفصحى وهى تغنى مع والدها كان وراء إتقانها النطق بالعربية، ولكن تذوق الشعر والوصول إلى معانيه وراءه عوامل مساعدة أخرى أبرزها وقوف عدد من الشخصيات بجانبها فى بداية حياتها، على سبيل المثال معلمها الأول الشيخ أبو العلا محمد الذى أعطاها ألحانه وأغانيه لتشدو بها,عَلّمَها كيف تفهم الكلمات قبل أن تغنيها، والشاعر الكبير أحمد رامى قالت عنه أم كلثوم «له فضل كبير فى تذوقى الشعر وفهم معانيه وكان يقدم لى ديوان شعر فى كل مرة يزورنى فيها»، والشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الأزهر والمفكر الكبير وفّرَ لها الحماية ورعاها ثقافيًا وفنيًا، على أنه لا يمكن إغفال المناخ السياسى والاجتماعى وقتها، فكانت هناك أفكار كثيرة يعج بها المجتمع، ونخبة سياسية وثقافية وفنية تريد للبلد والفن أن يتطور، وبالقطع كل الشخصيات التى ساعدتها ما كانت تصل بها إلى القمة لولا إرادتها وعزيمتها، فقد اهتمت بالموسيقى فتعلمتها وكأنها درستها فى الأكاديميات، وتذوقت الشعر حتى إنها قالت عن نفسها «تعلمت موازين الشعر لدرجة أنى أحس بالبيت المكسور».
ما سبق يشير إلى جزء من عظمة أم كلثوم، ولكن الأسئلة فى أول المقال تحتاج الإجابة عليها إلى دراسات متعمقة ووافية، وهو ما أتمنى أن يقوم به المختصون وليس هناك أفضل من ذكرى رحيلها الخمسين للقيام بهذا العمل المهم، وسواء حدث ذلك أمْ لا؛ فإننا فى كل الأحوال من حق أم كلثوم أن نهتف لها: عظمة على عظمة يا سِت.