
أسامة سلامة
الفرصة التى ضاعت على ملايين المسلمين قصة أم كلثوم مع تسجيل القرآن
مع اقتراب الذكرى الخمسين لرحيل أم كلثوم نتذكر الفرصة التى ضاعت لسماع القرآن بصوتها فقد أرادت كوكب الشرق تسجيل القرآن كاملا، ولكن رغبتها لم تتم لأسباب مجهولة، الحكاية جاءت على صفحات مجلة روزاليوسف وحسب ما كتب الصحفى الكبير سامى الليثى عام 1951 فى الباب الشهير «وراء الشاشة» الذى كان يحرره وقتها: «فى سينما كفر الزيات سوف يستمع الجمهور هذا الأسبوع إلى أم كلثوم وهى ترتل القرآن الكريم فى فيلم سلامة»، ويبدو أن الفيلم عُرض فى كفر الزيات بعد عرضه فى القاهرة بست سنوات إذ إن فيلم سلامة تم إنتاجه عام 1945.
نعود لما كتبه الليثى فى العدد 1200 من المجلة ويقول «عندما حاولت أم كلثوم تسجيل هذه الآية الصغيرة فى الفيلم قامت وزارة الداخلية بضجة وتدخلت فيها الهيئات الأزهرية واستطاعت أم كلثوم فى ذلك الحين أن تقنع علماء الأزهر بأن الدين لا يمكن أن يمنع مثلها من ترتيل آيات الله»، ويبدو أن الأزهر لم يكن يصر على منع قراءة المطربات لبعض الآيات القصيرة فى الأعمال الفنية أو كان يغض الطرف طالما لم يحدث خطأ فى التلاوة أو لم يصل الأمر إلى الاحتراف أو كانت القراءة بصفة دائمة، فقد تلت وردة الجزائرية بعض الآيات الكريمة فى فيلم ألمظ وعبده الحامولى الذى أنتج عام 1961، بعد فيلم سلامة بـ16 عاما دون أن يحدث اعتراض من الهيئات الدينية، ونستمر مع ما نشره الليثى عن أم كلثوم وقراءة القرآن ويقول «كانت السيدات يشتركن فى ترتيل القرآن منذ أنشئت الإذاعة فى البلاد الإسلامية، ولم يكن منعهن بعد ذلك من ترتيله فى الإذاعة المصرية راجعا لأى سبب دينى وإنما كان لأسباب لا محل لذكرها الآن»، ما قاله الليثى فى ملاحظته صحيح فقد كان بالفعل هناك سيدات يرتلن القرآن فى الإذاعة المصرية عند إنشائها، وحسب كتاب «ألحان السماء» للكاتب الكبير محمود السعدنى فإن هناك عددا من السيدات كن من أشهر قارئات القرآن الكريم منذ الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات، حين انطوت صفحة القارئات من تاريخ المقرئين المصريين، برحيل الشيخة نبوية النحاس عام 1973، وكانت الشيخة نبوية هى آخر سيدة مصرية تتلو القرآن الكريم فى المناسبات العامة والاحتفالات الرسمية وفى المآتم والأفراح، وكان الاستماع إليها مقصورا على النساء فى القسم المخصص للسيدات بمسجد الحسين»، ويعود السعدنى للتاريخ ويحكى فى كتابه عن: «الشيخة أم محمد، التى ظهرت فى عهد محمد على باشا، وكانت موضع إعجاب من كبار القادة والأمراء فى ذلك الوقت، حتى إن محمد على أمر بسفرها إلى إسطنبول لإحياء ليالى رمضان فى حرملك السلطانة العثمانية. وحازت أم محمد الكثير من الجوائز والهدايا والنياشين، وماتت قبل محمد على ، وجرت مراسم جنازتها فى احتفال مهيب»، يضيف السعدنى «لمع أيضا نجم السيدة منيرة عبده كواحدة من أبرز قارئات القرآن الكريم، ففى عام 1920 سطع نجم الفتاة الصغيرة التى لم تتعد من العمر 16 عاما، يحمل صوتها وقارا يمتزج بالرقة، ولم يمر وقت طويل حتى صارت الفتاة الصغيرة منافسة لكبار المشايخ من المقرئين، وأصبحت ندا للشيخ أحمد ندا، والشيخ محمد رفعت، وذاع صيتها فى البلاد العربية. وعند إنشاء الإذاعة الرسمية بالقاهرة، كانت منيرة عبده من أوائل من تلوا القرآن فى الإذاعة، وكانت تتقاضى راتبا يصل لسبعة جنيهات ونصف، وعندما زاد أجر الشيخ رفعت إلى 15 جنيها، ارتفع أجرها أيضا ليصل إلى عشرة جنيهات كاملة، حتى صدرت فتوى فى عام 1939 بأن تلاوة المرأة للقرآن تغضب الملائكة، فأُبعدت منيرة عبده من الإذاعة حتى لا تُغضب كبار المشايخ، رغم آلاف الرسائل التى وردت للإذاعة مطالبة بعودة منيرة التى اعتكفت فى منزلها تستمع إلى تسجيلاتها القديمة وتجتر الذكريات»، نعود لما كتبه الليثى فى روزاليوسف عن أم كلثوم ورغبتها فى تسجيل القرآن بصوتها ويقول: «كلنا يحب أن يسمع القرآن بهذا الصوت الجميل الذى أهداه الله للشرق، فإذا قالت أم كلثوم إنها على استعداد لتسجيل القرآن كله بلا مقابل هدية منها لمسلمى العالم جميعا فمن يرفض بعد هذا، إنها دعاية ما بعدها دعاية للإسلام والمسلمين لا أعتقد أن هناك من يرفضها»، ويضيف: «لقد سألت أم كلثوم؟ عما أشيع فى بعض الأوساط أنها غالت فى طلب أجرها عن التلاوة فأكدت لى أنها لا تريد مليما واحدا مقابل ذلك وأنها تكفيها بركة القرآن» ويتساءل الليثى فى نهاية الموضوع: «هل نسمع القرآن الكريم مرتلا بصوت أم كلثوم، على محطة الإذاعة أن تجيب على هذا السؤال»، ولكن الإذاعة لم تجب على السؤال وإنما جاء الرد والاستفسار من شخص آخر هو الموسيقار الشهير الشيخ زكريا أحمد الذى ارتبط اسمه وألحانه بأم كلثوم وكانت فى ذلك الوقت على خلاف معه، إذ أرسل ردا إلى المجلة غامزا فيه كوكب الشرق ونشره الليثى فى العدد التالى وكشف فيه عن مفاجأة أخرى يقول زكريا أحمد: «عندما التقيت أنا وأم كلثوم لأول مرة بعد خصامنا الطويل بسبب سوء معاملتها المادية والأدبية لى خيل إلى أن أم كلثوم وصلت إلى السن الذى يتصوف فيه الإنسان ويتقرب إلى الله، ورأيت وقتها أن أسدل الستار على الماضى وأوقفت حديثى معها على أنه من واجبنا وقد تجاوزنا الخمسين من عمرنا أن نختم حياتنا الفنية ختاما رائعا بتسجيل القرآن كله، وقد كان يشاع أننى لحنت القرآن فسألتنى أم كلثوم عن حقيقة ذلك فأجبتها شارحا أننى لم ألحن القرآن كما هو الحال فى الأغانى وإنما لحنته بطريقة تعبيرية فى الإلقاء كما هو الحال فى الآيتين اللتين حفظتهما لها فى فيلم سلامة»، ويحكى الشيخ زكريا: «إنه قص على أم كلثوم كيف حاول منذ عشرين عاما تسجيل القرآن على أسطوانات بالطريقة التعبيرية لا طريقة التطريب والتنغيم المعروفة الآن لكن المفتى أفتى بعدم شرعية تسجيل القرآن على الأقراص المتكلمة»، ويكمل الفنان الكبير حكايته: «بدأت أم كلثوم تنصت إلى فى دهشة ثم اقتنعت بأن تسجل السور القصار لا القرآن كله فوافقتها على أساس أن نتنازل معا عن جميع حقوقنا لإحدى الجمعيات الخيرية، ولم توافق أم كلثوم إلا بعد أن أقنعتها بأن عملنا هذا هو خير ختام لحياتنا الفنية، وهكذا اتفقنا على أن نتكتم هذا الأمر حتى نشرع فى تنفيذه»، ويستطرد زكريا أحمد: «لكننى فوجئت بحديثها إلى رزواليوسف واستعدادها لتسجيل القرآن كله مجانا هدية منها لمسلمى الأرض جميعا، ورغم إخلالها باتفاقنا فإننى أتمنى لها التوفيق فى تنفيذ فكرتى وأرجو أن يكتب لها النجاح كما نجحت فى فيلم سلامة»، ولم يحب الشيخ زكريا أن ينهى رده دون غمز أم كلثوم مرة أخرى قائلا: «أحب أخيرا أن أهمس لأم كلثوم بكلمة صغيرة وهى أنها إذا أرادت أن تعود عليها بركة القرآن وحدها عليها أن تتذكر أن وراءها تعهدات والتزامات نحوى ونحو غيرى، وأن عليها أن تفى بكل هذا ما دامت تريد أن تتقرب إلى الله بتسجيل آيات كتابه الكريم»، وأتوقف هنا عند فكرة تلحين القرآن التى حرمها مجمع البحوث الإسلامية وأفتى الأزهر بعدم جواز استخدام الآلات الموسيقية فى ترتيل القرآن، أما استخدام المقامات الموسيقية عند ترتيله فهى قضية تمت مناقشتها طويلا وهناك العديد من الفتاوى حولها أشهرها ما قالته لجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، بإباحة ذلك واستندت إلى حديث النبى – صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وأضافت فى فتواها أن النبى أمر بتحسين الصوت بالقرآن، وكان أبو موسى الأشعرى - رضى الله عنه- صوته حسنًا استمع إليه النبى وقال: «لقد أوتى هذا مزمارًا من مزامير آل داود». وأضافت اللجنة بأن «الصوت الحسن يكون سببًا فى التأثر بسماع القرآن، ومع القول بأن جمال الصوت وحسنه فطريًا إلا أنه ربما يكتسب باتباع المقامات ولذا كان تعلم قراءة القران بالمقامات جائزًا ولا حرج فيه»، وهو نفس رأى دار الإفتاء التى قالت «إن كان استعمال المقامات الصوتية يسهم فى تحسين صوت القارئ للقرآن الكريم، ويعينه على نطق الأحرف من مخارجها بشكل صحيح، مع عدم الإخلال بهيبة القرآن الكريم، فلا حرج فى ذلك»، وبالفعل استخدم القراء المشهورون المقامات فى التلاوة واشتهر كل واحد منهم بمقام يفضله ويجيده، وعلى سبيل المثال ومثلما يذكر المهتمون بالموسيقى ارتبط الشيخ محمد رفعت بمقام الحجاز، والمنشاوى كان يميل إلى النهاوند، وعبدالباسط عبدالصمد يحبذ الراست، ومحمد عمران يفضل الصبا، ومصطفى إسماعيل السيكا.. نعود لقصة أم كلثوم وزكريا أحمد مع تسجيل القرآن بصوتها والتى لم يكن لها علاقة بالخلاف بين الكبيرين فقد كان الخلافات سابقة عليها بسنوات، ولأسباب مادية حيث شكا الموسيقار الكبير من عدم حصوله على مستحقاته المالية عن بعض ألحانه لأم كلثوم والتى قالت إنه حصل عليها، ودامت القطيعة بينهما 13 عاما، وذهبت بهما إلى المحاكم قبل أن يتصالحا بطلب من القاضى الذى كان ينظر القضية وقال لهما إن الفن يحتاجهما معا، واتفقا على تلحين زكريا أحمد ثلاث أغنيات تشدو بها كوكب الشرق وبالفعل غنت من ألحانه «هو صحيح الهوى غلاب» عام 1960، وهو آخر لحن له قبل رحيله فى العام التالى، وبعيدا عمن هو صاحب فكرة تسجيل القرآن بصوت أم كلثوم؟ فإن أحدا لا يعرف لماذا لم تنفذ كوكب الشرق حلمها ويبدو أن الفتاوى التى صدرت عام 1939 ومنعت الشيخة منيرة عبده من التلاوة فى الإذاعة كانت مستمرة وأخافت أم كلثوم من الإقدام على تنفيذ فكرتها، ويبدو أيضا أن هذه الفتوى مستمرة حتى الآن، فنحن لا نجد صوتا نسائيا فى الإذاعة والتليفزيون يرتل القرآن ولعل ذلك يحدث قريبا، ولكن الخلاصة أننا خسرنا فرصة لا تعوض إذ إنه ليس هناك أحسن من الاستماع إلى آيات الله بصوت جميل وليس هناك أجمل من صوت أم كلثوم.