نبيل عمر
البكالوريا لا هى الأزمة ولا هى الحل!
شىء منطقى أن نفكر فى تطوير التعليم سواء التعليم الأساسى أو التعليم الجامعى، فالحياة لا تعرف الجمود والثبات فى النظم والأدوات والوسائل والأفكار، لكن يستوقفنا أمر فى غاية الأهمية كلما تحدثنا عن تطوير التعليم، نذهب إلى «شهادة الثانوية العامة»، كما لو أن الثانوية العامة هى جوهر العملية التعليمية برمتها، يعنى أن نجعلها سنة أو سنتين، أن نسمح فيها بتحسين المجموع فى نفس السنة أو بإعادة دخول الامتحان فى السنة التالية، أن نقسم المواد بين علمى وأدبى، ثم نفرق مواد العلمى بين الهندسة والطب وهكذا، وأخيرا وصلنا إلى تغيير اسم الشهادة إلى «البكالوريا» مع إعادة هيكلة المواد إلى أربع مسارات: الطب وعلوم الحياة، الأعمال، الهندسة وعلوم الحاسب، الآداب والفنون، مع إدخال الدين فى مجموع الدرجات.
وقبل أى كلام، أظن أن إبقاء الدين مادة نجاح وسقوط هو الصحيح، دون أن يكون جزءا من المجموع، لأن الدين مختلف فى نوعية الأسئلة، والامتحانات تقيس مستوى الطالب فى معارف وأسئلة واحدة دون تغيير، وبالتالى إدخاله فى المجموع يخل بتكافؤ الفرص، ولو راجعنا درجات التلاميذ فى السنوات الخمسين الأخيرة سنكتشف الفارق الهائل بين درجات كل دين.
نعود إلى التطوير، ومؤكد أن أى تطوير مهم للغاية، لكن السؤال: لماذا فكرت فيه وزارة التربية والتعليم؟، وكيف فكرت فيه؟، هل باعتبار التعليم عملية متصلة متكاملة، طوابق متدرجة فى الصعود يستند بعضها على بعض لنستكمل بها «منظومة معرفية ومهارية واجتماعية وشخصية» للإنسان الذى يتعلم، أم هى معنية بفك بؤرة قلق وتوتر وضغوط مالية تمسك برقاب الأسر المصرية، حين يصل أولادهم إلى الثانوية العامة؟
هناك فارق هائل بين التطوير وفق فلسفة متصلة متكاملة، والتطوير لتخفيف الأحمال والأعباء عن الأسر المصرية، تطوير الفلسفة هو عمل فنى كليا خاضع لحسابات علمية منظمة لها أصول معرفية وعملية، معمول بها فى كل نظم التعليم فى الدول المتقدمة، أما تطوير تخفيف الأعباء فهو عمل سياسى خاضع لحسابات الرضا العام وكسب التأييد الشعبى، وحساباته لا تلتزم كثيرا «بالقواعد الفنية» والمعايير المعرفية، وقد عانينا أشد المعاناة من الحسابات السياسية فى التعليم المصرى لأكثر من خمسين سنة، من أول إلغاء السنة السادسة فى الابتدائى واكتفاء بخمس سنوات، إلى الامتحانات التى فى مستوى الطالب المتوسط، مرورا بالتساهل مع الغش الجماعى وتسريب أوراق الأسئلة، مع التغافل عمدا عن غياب التلاميذ من المدارس، وكانت المحصلة هى تراجع الأداء العام لنظام التعليم بدرجة تخرق عين الشمس، ولم يفلت منه إلا أصحاب الجدارة المالية أو العقلية أو النفسية، وكانوا أعدادا ليست قليلة، حافظت لمصر على درجة معقولة من الكفاءة العامة، وإن لم تستطع نقلها إلى مستويات متقدمة يحلم بها المصريون اقتصاديا واجتماعيا.
باختصار نريد من وزارة التعليم ووزيرها السيد محمد عبداللطيف أن يفسر لنا أسباب تغيير اسم الشهادة إلى «البكالوريا»، وإعادة هيكلة المواد الدراسية، هل هى ضمن «فلسفة عامة» للتعليم ما قبل الجامعى من أول ما يدخل التليمذ إلى المدرسة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية أم هى خاصة فقط بشهادة البكالوريا؟
هذه التساؤلات الضرورية لا تبخس حق الوزير وإصراره وعمله الدؤوب لإعادة التلاميذ إلى المدارس وانتظام الدراسة، وقد نجح فيها بدرجة جيدة.
لكن هذه نقرة والبكالوريا نقرة أخرى..
ولهذا ذهبت إلى «مونيكا» وهى برنامج ذكاء اصطناعى ألجأ إليه من آن لآخر كلما أردت رأيا محايدا بعيدا عن أى انحيازات فجة وسألتها: لماذا نتعلم؟
أجابت: يخدم التعليم عدة أغراض حيوية فى التنمية الفردية والمجتمعية.. وهذه هى بعض الأسباب الرئيسية:
1- اكتساب المعرفة، أى نقل المعرفة والمعلومات الأساسية التى يحتاجها الأفراد لفهم العالم من حولهم.
2- تنمية المهارات، أى اكتساب المهارات العملية الضرورية للنجاح الشخصى والمهنى، وتطوير التفكير النقدى والقدرة على طرح الأسئلة وتحليل المعلومات وحل المشكلات.
3- التنشئة الاجتماعية، أى تزويد الأفراد بالمهارات والأعراف الاجتماعية، التى ترفع من قيم التفاعل والتعاون داخل المجتمع.
4- المشاركة المدنية التى تستهدف تعزيز المواطنين المستنيرين والنشطين الذين يفهمون حقوقهم ومسئولياتهم وقادرون على المساهمة الإيجابية فى مجتمعاتهم.
5- التنمية الاقتصادية، وطبعا المقصود منها هو إعداد القوى العاملة الماهرة التى تدفع الابتكار والإنتاج والنمو الاقتصادى.
6- النمو الشخصى، أى تنمية الوعى الذاتى والشخصية، حتى يعتاد الفرد السعى للتعلم مدى الحياة.
7- الحفاظ على الثقافة، وهى نقل القيم والمعتقدات والممارسات الثقافية من جيل إلى جيل، تأكيدا للهوية الوطنية.
باختصار فلسفة التعليم هى بناء مجتمع أكثر معرفة ومهارة ومشاركة.
وهنا لا يمكن أن نقبل أو نتعايش مع «جامعيين» تعلموا 16 سنة، من الابتدائى إلى البكالوريوس أو الليسانس، وانتهوا إلى سائقى توكتوك، وقد صادفت، وربما أنتم أيضا صادفتم بعضهم، وهذا معناه أن أعدادا ليست قليلة من طلابنا يحصلون على شهادات دون أن يتحصلوا على المعارف والمهارات والأسباب التى تحدثت عنها «مونيكا»، أى أن ثمة فجوة هائلة بين التعليم والشهادة، وللأسف نحن نهتم بالشهادة أكثر من التعليم الذى هو علم ومعرفة وعقل يقظ وقدرة على التفكير العلمى المنظم، بينما الشهادة هى معلومات محددة نحفظها ونحتفظ بها مؤقتا فى ذاكرتنا، ثم نلقى بها فى أوراق الإجابات، كما لو أننا نتخلص من عبء سخيف وممل، ولا يبقى من هذه المعلومات سوى شذرات متفرقات، لا تشكل منظومة من المعرفة، تؤهل صاحبها إلى التفكير العلمى المنظم فى أى مهنة يحترفها، ولو دققنا فى الأداء العام لمهن كثيرة سنلاحظ وجود هذه النوعية من العاملين الذين لا يحسنون التفكير العلمى.
وبالطبع ثمة أزمة حقيقية فى أعداد خريجى ومعاهد الكليات الإنسانية، مثل كليات الحقوق والآثار والإعلام ودار العلوم والخدمة الاجتماعية والقانون والتجارة، أعداد ضخمة جدا أكثر من قدرة سوق العمل على تحملهم، دون أن نهضم أو نقلل أو نغبن أهمية هذه النوعية من الدراسات فى نهضة المجتمعات، مثلا تخرج قبل عامين من الجامعات المصرية ما يقرب من 750 ألف جامعى، %68 منهم من تلك الكليات والمعاهد، أى أكثر من نصف مليون مواطن، فهل مصر فى حاجة إلى نصف مليون محام وإدارى ومحاسب وصحفى ومذيع وإخصائى اجتماعى وأثرى.. إلخ، كل سنة؟، وإذا أجرينا حسبة عن أعداد خريجى هذه الكليات فى الخمسين سنة الأخيرة، لن يقل العدد فى حده الأدنى عن 10 ملايين مواطن، أعمارهم الآن ما بين الخامسة والأربعين والخمسين سنة، يا ترى ما هى أحوالهم الافتصادية والاجتماعية؟، وكم منهم عمل فى مهنة يحبها ويجيدها وتمثل قيمة مضافة إلى الاقتصاد القومى؟
مؤكد أننا فى حاجة إلى إعادة هيكلة التعليم الجامعى، فلا يعقل فى عصر العلوم التطبيقية والتكنولوجيا أن تستحوذ الكليات الإنسانية النظرية على %70 من الطلبة الناجحين فى الثانوية العامة، فهذا إهدار قاس للموارد البشرية يعوق التنمية، أو على الأقل لا يسمح أن ننطلق من أسر الأزمات والمشكلات التى تحيط بنا إلى ضفاف الراحة والتنمية المؤهلة إلى التقدم المستدام..
إذن التطوير ضرروى، وضرورى جدا.
لكن كيف نؤهل الطالب لهذا النوع من الدراسات؟
قطعا ليس من التعليم الثانوى، ولكن بمنظومة متصلة متكاملة من الابتدائى إلى الثانوية العامة، سواء سميناها البكالوريا أو التوجيهية أو الثانوية العليا، وأن نعيد «الرياضيات» بفروعها المختلفة إلى قمة الاهتمامات، فهى من العلوم التى تبنى العقل وتنظم تفكيره وترفع من قدراته، وهى ليست مادة والسلام، بل هى علم أساسى فى أى نهضة حضارية! ونظام التعليم يتشكل من عناصر وليس عنصرا واحدا: التلميذ، الإدارة التعليمية، المدرسة، المدرس، المنهج، الأدوات المساعدة، الامتحانات، ومدة السنة الدراسية.. باختصار، أى نظام تعليم جيد وكفء هو مكلف جدا، وأتصور أن التعليم لا يخص الحكومة وحدها، وإنما يخصنا جميعا، إذا كنا نبحث عن مستقبل مختلف لأولادنا وأحفادنا فى عالم صارت فيه المنافسة شديدة الشراسة، والتعليم الآن لا يصلح فيه المثل الشائع «الشاطرة تغزل برجل حمار»، وميزانية الدولة لأسباب كثيرة لن تغطى تكاليف نظام التعليم الذى نريده.
وهنا يمكن أن نفتح حوارا مجتمعيا شاملا على مستويات عدة: الإعلام، النقابات، مراكز البحث، مجلس النواب، مجلس الشيوخ، والأهالى عن كيفية توفير هذا التمويل الذى ينقذ التعليم، فالأزمة ليست البكالوريا ولا هى الحل أيضا!