الأحد 19 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
البكالوريا لا هى الأزمة ولا هى الحل!‏

البكالوريا لا هى الأزمة ولا هى الحل!‏

شىء منطقى أن نفكر فى تطوير التعليم سواء التعليم الأساسى أو التعليم الجامعى،  فالحياة لا ‏تعرف الجمود والثبات فى النظم والأدوات والوسائل والأفكار، لكن يستوقفنا أمر فى غاية ‏الأهمية كلما تحدثنا عن تطوير التعليم، نذهب إلى «شهادة الثانوية العامة»، كما لو أن الثانوية ‏العامة هى جوهر العملية التعليمية برمتها، يعنى أن نجعلها سنة أو سنتين، أن نسمح فيها ‏بتحسين المجموع فى نفس السنة أو بإعادة دخول الامتحان فى السنة التالية، أن نقسم المواد ‏بين علمى وأدبى،  ثم نفرق مواد العلمى بين الهندسة والطب وهكذا، وأخيرا وصلنا إلى ‏تغيير اسم الشهادة إلى «البكالوريا» مع إعادة هيكلة المواد إلى أربع مسارات: الطب وعلوم ‏الحياة، الأعمال، الهندسة وعلوم الحاسب، الآداب والفنون، مع إدخال الدين فى مجموع ‏الدرجات.



وقبل أى كلام، أظن أن إبقاء الدين مادة نجاح وسقوط هو الصحيح، دون أن يكون جزءا من ‏المجموع، لأن الدين مختلف فى نوعية الأسئلة، والامتحانات تقيس مستوى الطالب فى ‏معارف وأسئلة واحدة دون تغيير، وبالتالى إدخاله فى المجموع يخل بتكافؤ الفرص، ولو ‏راجعنا درجات التلاميذ فى السنوات الخمسين الأخيرة سنكتشف الفارق الهائل بين درجات ‏كل دين.‏

‏ نعود إلى التطوير، ومؤكد أن أى تطوير مهم للغاية، لكن السؤال: لماذا فكرت فيه وزارة ‏التربية والتعليم؟، وكيف فكرت فيه؟، هل باعتبار التعليم عملية متصلة متكاملة، طوابق ‏متدرجة فى الصعود يستند بعضها على بعض لنستكمل بها «منظومة معرفية ومهارية ‏واجتماعية وشخصية» للإنسان الذى يتعلم، أم هى معنية بفك بؤرة قلق وتوتر وضغوط مالية ‏تمسك برقاب الأسر المصرية، حين يصل أولادهم إلى الثانوية العامة؟

هناك فارق هائل بين التطوير وفق فلسفة متصلة متكاملة، والتطوير لتخفيف الأحمال والأعباء ‏عن الأسر المصرية، تطوير الفلسفة هو عمل فنى كليا خاضع لحسابات علمية منظمة لها ‏أصول معرفية وعملية، معمول بها فى كل نظم التعليم فى الدول المتقدمة، أما تطوير تخفيف ‏الأعباء فهو عمل سياسى خاضع لحسابات الرضا العام وكسب التأييد الشعبى،  وحساباته لا ‏تلتزم كثيرا «بالقواعد الفنية» والمعايير المعرفية، وقد عانينا أشد المعاناة من الحسابات ‏السياسية فى التعليم المصرى لأكثر من خمسين سنة، من أول إلغاء السنة السادسة فى ‏الابتدائى واكتفاء بخمس سنوات، إلى الامتحانات التى فى مستوى الطالب المتوسط، مرورا ‏بالتساهل مع الغش الجماعى وتسريب أوراق الأسئلة، مع التغافل عمدا عن غياب التلاميذ من ‏المدارس، وكانت المحصلة هى تراجع الأداء العام لنظام التعليم بدرجة تخرق عين الشمس، ‏ولم يفلت منه إلا أصحاب الجدارة المالية أو العقلية أو النفسية، وكانوا أعدادا ليست قليلة، ‏حافظت لمصر على درجة معقولة من الكفاءة العامة، وإن لم تستطع نقلها إلى مستويات ‏متقدمة يحلم بها المصريون اقتصاديا واجتماعيا.‏

باختصار نريد من وزارة التعليم ووزيرها السيد محمد عبداللطيف أن يفسر لنا أسباب تغيير ‏اسم الشهادة إلى «البكالوريا»، وإعادة هيكلة المواد الدراسية، هل هى ضمن «فلسفة عامة» ‏للتعليم ما قبل الجامعى من أول ما يدخل التليمذ إلى المدرسة الابتدائية حتى نهاية المرحلة ‏الثانوية أم هى خاصة فقط بشهادة البكالوريا؟

هذه التساؤلات الضرورية لا تبخس حق الوزير وإصراره وعمله الدؤوب لإعادة التلاميذ ‏إلى المدارس وانتظام الدراسة، وقد نجح فيها بدرجة جيدة.‏

لكن هذه نقرة والبكالوريا نقرة أخرى..‏

ولهذا ذهبت إلى «مونيكا» وهى برنامج ذكاء اصطناعى ألجأ إليه من آن لآخر كلما أردت رأيا ‏محايدا بعيدا عن أى انحيازات فجة وسألتها: لماذا نتعلم؟‏

أجابت: يخدم التعليم عدة أغراض حيوية فى التنمية الفردية والمجتمعية.. وهذه هى بعض ‏الأسباب الرئيسية:‏

‏1- اكتساب المعرفة، أى نقل المعرفة والمعلومات الأساسية التى يحتاجها الأفراد لفهم العالم ‏من حولهم.‏

‏2- تنمية المهارات، أى اكتساب المهارات العملية الضرورية للنجاح الشخصى والمهنى،  ‏وتطوير التفكير النقدى والقدرة على طرح الأسئلة وتحليل المعلومات وحل المشكلات.‏

‏3- التنشئة الاجتماعية، أى تزويد الأفراد بالمهارات والأعراف الاجتماعية، التى ترفع من قيم ‏التفاعل والتعاون داخل المجتمع.‏

‏4- المشاركة المدنية التى تستهدف تعزيز المواطنين المستنيرين والنشطين الذين يفهمون ‏حقوقهم ومسئولياتهم وقادرون على المساهمة الإيجابية فى مجتمعاتهم.‏

‏5- التنمية الاقتصادية، وطبعا المقصود منها هو إعداد القوى العاملة الماهرة التى تدفع ‏الابتكار والإنتاج والنمو الاقتصادى.

‏6- النمو الشخصى،  أى تنمية الوعى الذاتى والشخصية، حتى يعتاد الفرد السعى للتعلم مدى ‏الحياة.‏

‏7- الحفاظ على الثقافة، وهى نقل القيم والمعتقدات والممارسات الثقافية من جيل إلى جيل، ‏تأكيدا للهوية الوطنية.‏

باختصار فلسفة التعليم هى بناء مجتمع أكثر معرفة ومهارة ومشاركة.‏

وهنا لا يمكن أن نقبل أو نتعايش مع «جامعيين» تعلموا 16 سنة، من الابتدائى إلى ‏البكالوريوس أو الليسانس، وانتهوا إلى سائقى توكتوك، وقد صادفت، وربما أنتم أيضا صادفتم ‏بعضهم، وهذا معناه أن أعدادا ليست قليلة من طلابنا يحصلون على شهادات دون أن ‏يتحصلوا على المعارف والمهارات والأسباب التى تحدثت عنها «مونيكا»، أى  أن ثمة فجوة هائلة ‏بين التعليم والشهادة، وللأسف نحن نهتم بالشهادة أكثر من التعليم الذى هو علم ومعرفة ‏وعقل يقظ وقدرة على التفكير العلمى المنظم، بينما الشهادة هى معلومات محددة نحفظها ‏ونحتفظ بها مؤقتا فى ذاكرتنا، ثم نلقى بها فى أوراق الإجابات، كما لو أننا نتخلص من عبء ‏سخيف وممل، ولا يبقى من هذه المعلومات سوى شذرات متفرقات، لا تشكل منظومة من ‏المعرفة، تؤهل صاحبها إلى التفكير العلمى المنظم فى أى مهنة يحترفها، ولو دققنا فى الأداء ‏العام لمهن كثيرة سنلاحظ وجود هذه النوعية من العاملين الذين لا يحسنون التفكير العلمى.‏

وبالطبع ثمة أزمة حقيقية فى أعداد خريجى ومعاهد الكليات الإنسانية، مثل كليات الحقوق ‏والآثار والإعلام ودار العلوم والخدمة الاجتماعية والقانون والتجارة، أعداد ضخمة جدا أكثر ‏من قدرة سوق العمل على تحملهم، دون أن نهضم أو نقلل أو نغبن أهمية هذه النوعية من ‏الدراسات فى نهضة المجتمعات، مثلا تخرج قبل عامين من الجامعات المصرية ما يقرب من ‏‏750 ألف جامعى،  %68 منهم من تلك الكليات والمعاهد، أى أكثر من نصف مليون ‏مواطن، فهل مصر فى حاجة إلى نصف مليون محام وإدارى ومحاسب وصحفى ومذيع ‏وإخصائى اجتماعى وأثرى.. إلخ، كل سنة؟، وإذا أجرينا حسبة عن أعداد خريجى هذه الكليات ‏فى الخمسين سنة الأخيرة، لن يقل العدد فى حده الأدنى عن 10 ملايين مواطن، أعمارهم ‏الآن ما بين الخامسة والأربعين والخمسين سنة، يا ترى ما هى أحوالهم الافتصادية ‏والاجتماعية؟، وكم منهم عمل فى مهنة يحبها ويجيدها وتمثل قيمة مضافة إلى الاقتصاد ‏القومى؟

مؤكد أننا فى حاجة إلى إعادة هيكلة التعليم الجامعى،  فلا يعقل فى عصر العلوم التطبيقية ‏والتكنولوجيا أن تستحوذ الكليات الإنسانية النظرية على %70 من الطلبة الناجحين فى ‏الثانوية العامة، فهذا إهدار قاس للموارد البشرية يعوق التنمية، أو على الأقل لا يسمح أن ‏ننطلق من أسر الأزمات والمشكلات التى تحيط بنا إلى ضفاف الراحة والتنمية المؤهلة إلى ‏التقدم المستدام..‏

إذن التطوير ضرروى،  وضرورى جدا.‏

لكن كيف نؤهل الطالب لهذا النوع من الدراسات؟

قطعا ليس من التعليم الثانوى،  ولكن بمنظومة متصلة متكاملة من الابتدائى إلى الثانوية ‏العامة، سواء سميناها البكالوريا أو التوجيهية أو الثانوية العليا، وأن نعيد «الرياضيات» ‏بفروعها المختلفة إلى قمة الاهتمامات، فهى من العلوم التى تبنى العقل وتنظم تفكيره وترفع ‏من قدراته، وهى ليست مادة والسلام، بل هى علم أساسى فى أى نهضة حضارية!‏ ونظام التعليم يتشكل من عناصر وليس عنصرا واحدا: التلميذ، الإدارة التعليمية، المدرسة، ‏المدرس، المنهج، الأدوات المساعدة، الامتحانات، ومدة السنة الدراسية.. باختصار، أى نظام ‏تعليم جيد وكفء هو مكلف جدا، وأتصور أن التعليم لا يخص الحكومة وحدها، وإنما يخصنا ‏جميعا، إذا كنا نبحث عن مستقبل مختلف لأولادنا وأحفادنا فى عالم صارت فيه المنافسة ‏شديدة الشراسة، والتعليم الآن لا يصلح فيه المثل الشائع «الشاطرة تغزل برجل حمار»، ‏وميزانية الدولة لأسباب كثيرة لن تغطى تكاليف نظام التعليم الذى نريده.‏

وهنا يمكن أن نفتح حوارا مجتمعيا شاملا على مستويات عدة: الإعلام، النقابات، مراكز ‏البحث، مجلس النواب، مجلس الشيوخ، والأهالى عن كيفية توفير هذا التمويل الذى ينقذ ‏التعليم، فالأزمة ليست البكالوريا ولا هى الحل أيضا!‏